رواية “ريام وكفى” لهدية حسين
المرأة حين تقول كفى
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
واضح أن السنوات الأخيرة صارت، أو على الأقل هي اتجهت ولا زالت تتجه لتكون سنوات الرواية النسوية العربية، وهو ما ينعكس واضحاً في إصداراتها الكثيرة نسبياً، وفي عدد الروايات منها التي صارت تحصل على جوائز، وتصل إلى القوائم الطويلة والقصيرة. وهي حتى حين لا تحصل على جوائز أو لا تصل إلى قوائمها الطويلة والقصيرة، صارت محط جذب وانتباه النقاد والدارسين أكاديميين وغير أكاديميين لتفرض أنفسها أيضاً عليهم، وقد لا نبالغ إذا ما قلنا إن هذا كله صار ظاهرة تقترب من أن تكون (موظة)، هي (موظة الرواية النسوية). ولكن دون يعني هذا أنها (موظة) أمر لا يستحق أن يكون محط اهتمام، بل بالعكس إن ما وراءها إنما هو ظاهرة أدبية وإبداعية ونقدية تستحق الاهتمام بها وبمفرداتها ومادتها المتمثلة بشكل أساس بالروايات النسوية ذاته، ومن هنا يأتي موضوعنا هذا عن إحدى هذه الروايات وهي رواية العراقية هدية حسين “ريام وكفى”([1]) التي وصلت باستحقاق إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) لعام 2014/2015.
يتقدم الرواية مثل هندي يقول “يحتاج الحجز لكي يصيح منحوتة إلى ضربات كثيرة”. فهل هذا هو ما ستحتاجه بطلة الرواية (كفى) التي، امرأةً، من الطبيعي أن تتعرض في المجتمع الشرقي إلى القمع والظلم، لتنتفظ على واقع القمع فتكون المرأة الجديدة (ريام)؟ هذا ما نفترض أن قراءة الرواية قراءة واعية ستكشف عنه.
الرواية بضمير المتكلم على لسان بطلتها/ الراوية (كفى)، التي تشير من البداية إلى أنها ستقول كل ما لديها على أوراق، “مستفيدة من تلك اليوميات التي كنتُ أدوّنها وأنا في عشرينيات عمري، تفاصيل كثيرة كدت أنساها لولا تلك اليوميات.”- الرواية، ص9. وهكذا تأتي الرواية ثمرة هذه اليوميات التي جاءت وكأنها تشبّث من البطلة الراوية في البقء وعدم الزوال:
“نعم، أريد أ، أكتب قبل أن يمحوني الزوال.. هل أنا في طريقي للزوال؟ هل أمضي إليه دون أن أترك ما يحمل شيئاً على الأرض يُخبر عنّي بأنني جئت إلى الدنيا، وحملتُ اسمين لم يمنحاني حسن الطالع، وبأن ثمة نساء جاهدنَ لكي يمسكن بأطراف الخلود حتى وإن كان هذا الخلود حفة أوراق لا أكثر؟ لعل أوراقي تُبقيني بعد موتي، لعل أبنائي الذين لا أعرف متى سيجيؤون للدنيا يقرؤون ما أكتب، أو أن أحداً سيقرؤها ذات يوم ويتذكرني.”- الرواية، ص10.
هي في هذا، تعبّر عن رغبة في كتابة رواية عن حياتها، ستتضمن أيامها وحكايات تقول إن إمها (سمر) كانت تحكيها لها ولأخواتها، عن جدّاتها وأجدادها، وحكايات أخرى. هنا يجب أن نقول إنْ لم يكن من حاجة سردية أو فنية أو موضوعية لمثل حكايات أمها هذه، فإنها، برأينا، تعزّز ما تريد البطلة أن توصله إلينا عن صورة المرأة وواقعها في ظل الثقافة الطرياريكية، والمرموز إليه كلها بالاسم (كفى)، كما سنرى، وتعبّر في مقابل ذلك عن الموقف منها ومن طرح البديل، وإنْ بشكل غير مباشر، وكما قلنا أنه سيتم التعبير عنه رمزياً بالاسم (ريام). فمختصر الرواية: (كفى)، بطلة الرواية، واسمها الآخر (ريام)، امرأة عراقية تشتغل خيّاطة، تقرر كتابة رواية مبنية على يومياتها، التي تتحول هي عينها إلى رواية، وتعرّفنا من خلالها على حياتها كاملةً بكل تفاصيلها، وهي تفاصيل ذات بُعْدين رئيسين. الأول واقع المرأة العراقية، وربما جاز لنا القول العربية أو الشرقية عموماً، في عالم شرقي لا يمكن لها أن تتحرك وتحقق أي شيء يتصادم مع قيم وعادات وتقاليد وأعراف هذا العالم، ولكنه، مع هذا تجاهد لكي تبقى وتصمد وتفرض ذاتها، وإنْ بشكل مباشر. أما البعد الثاني فهو البعد الإنساني الذي يتمثّل في معاناة الإنسان وتصارع قيم الخير والشر في عالمه. وكل ذلك من خلال مجموعة كبيرة من الشخصيات، محورها شخصيات عائلة البطلة. يُسمّي أبو البطلة ابنته (كفى) لتكفّ أمها عن إنجاب المزيد من البنات، بينما تميل الأم إلى مناداتها باسم (ريام)، مما يؤشر أن الرواية ستقدّم قضية المرأة وهمومها وعالمها الشرقي، العائلي والعام. لأن الرواية رواية المرأة، إن صح التعبير، وقضايا المرأة ووهمومها ومعاناتها وأوضاعها في العالم أو العوالم الشرقية، كما تتمحور بشكل أساس، ولكن ليس كلّياً بالطبع، حول عائلة (كفى) وأختيها وأمها، تأتي كنية (أم البنات) التي تُطلق على الأم (سمر) في زمن زواجها، قبل موت زوجها، بدلالات واسعة وعميقة وبعيدة، وكلها تجسد عصراً أو مرحلةً وثقافةً ورؤية وقد تنظوي تحت عنوان البطرياركية، وكل ذلك ستقدم الرواية ورؤياها ما يشكل رداً عليه متمثلاً بـ(محل سمر الفضلي) الذي يؤكد أنثوية وجهة نظر الكاتبة والرواية. عالم المرأة. في مقابل ذلك جميل تغيير البطلة لاسمها رسمياً من (كفى) إلى (ريام)، وهو يتحمل دلالات لم تستثمرها الكاتبة كما يجب.
( 2 )
معروف في أي في اليوميات التي يكتبها أي فرد أن يرد كل أي شيء يعيشه هذا الفرد أو يمرّ به أو يَخبره، ولكن ليس كل شيء، فما من إنسان مهما كان منفتحاً وجريئاً، ومهما كان المجتمع الذي يعيش فيه. ومن هنا قد يكون مبرّراً أن نجد مثل هذا في اليوميات التي تسجلها (كفى)، خصوصاً في كثرة الأحداث والخيوط والشخصيات التي يظهر الكثير منها وسرعان ما يختفي، لأن اليوميات تقدم حياة إنسان وسط مجتمع وعالم وفي خضم علاقات كأنْ لا بداية لها ولا نهاية. ولكن حين تتحول اليوميات إلى رواية، كما فعلتْ هدية حسين، فإن مثل هذا المبرر لذكر كل شيء وأي شيء يزول، أو على الأقل ينحسر، وهو ما لم تفعله هدية إلا بحدود الأمر الذي أتعب الرواية وأصابها أحياناً بترهّل، حتى وهي ليست بالطول الذي يمكن أحياناً أن يوحي ابتداءً بالترهّل. فما تكاد الروائية تمسك بخط بعينه حتى ينقطع، ليختفي في النتيجة ما يمكن أن يكون خط الرواية عدا وجود (كفى) في كل ذلك. والواقع تبدو لي هدية حسين، في علاقتها بالأحداث والخطوط والشخصيات، وكأنها تغرف بكفّيها ماءً سرعان ما يتساقد كله من بين أصابعها دون أن تظفر إلى بقطرات قليلة منه توصله إلى أفواه قرائها. وكان هذا الذي يصل، على أية حال، جميلاً. يتكرر ذكرها لأشياء وأمور وشخصيات واحداث دون تفصيل، بل هي غالباً ما تشير إلى أن ذلك سيرد فيما بعد في يومياتها. وفي النتيجة، لأنها لا تصوغ خطّاً وليست لديها قضية ولا تُمسك بأي خط لتصيّره خط الرواية، تتذكر فجأة، في الصفحات الأخيرة من الرواية، شخصية (فياض) دون أن يكون لها أي ذرك من قبل، وكأن الكاتبة لا تخطر لها فكرة عن هذه الشخصية، فتضيفه هكذا في أي مكان.
وهكذا تفتقد الرواية الخطّ الحدثي الرئيس المقنع، مع وجود ملامح ذلك بالطبع التي كان من الممكن للروائية أن تجعلها خطاً لكنها في الحقيقة لم تكثّف جهودها لإكمال صنعه إضافة إلى أنه أصلاً لم يمتلك الكثير الذي يساعدها في صنغه خطّاً متكاملاً وهي خطوط تبدأ تمتد ثم تنتهي، ويتكرر مثل هذا كثيراً. لكن هذا كله إذ يبرر افتقاد الرواية للخط الحدثي الرئيس المقنع لا يبرر أن تفتقد الرواية القضية. في مقابل هذا تحضر فكرتان تكادان تهيمنان على الرواية، قد تسجل كل منهما ملامح أو شبح قضيتين: المرأة، ونظن أننا تعرضنا إليها بما يكفي، والموت الذي يهيمن على الرواية.
حضور الموت قوياً في الرواية. موت حامل وجنينها بعد سقوطها من سلّم، موت الأب بنوبة قلبية، موت أخت انتحاراً، محاولة اعتداء زوج الأخت على البطلة، محاولة اغتصاب العم لابنة أخيه (صابرين)، سجن (محمود)، اختلاس (سامي) زوج (هند) وسجنه، موت العم على كوم أزبال، قتل (نجم) لأمه وسجنه، موت الأم، موت الجدّة، موت (مختار ذيب)، موت العم، موت زوج (فاطمة)، اختفاء الجار (هشام) بشكل غامض ومطاردته لأنه مطلوب أمنياً. تكرار الموت طبيعياً أو انتحاراً أو بأحداث. ونعتقد أن بعض ذلك من تأثيرات الوضع العراقي والجواء، حتى وإنْ لم يتمثّل هذا بشكل مباشر وواضح. تكرُّر الموت بشكل فيه بعض اصطناع، والأمر نفسه ينطبق على الحوادث من سرقة واعتداء وقتل واغتصاب وسجن وحوادث قدرية.. إلخ. بقي أن مما يقلّل من إقناعنا بمثل هذا أنْ ليس إلا للقليل منها علاقة باوضاع العراق الأمنية، التي كانت ستكون مقنعة لو كانت لها مثل هذه العلاقة لأن أوضاع العراق سبب مقنع في أن يحدث فيه ما يقع في الرواية من حوادث متكررة يكون لها هوية الوضع الأمني غير المستقر.
( 3 )
لعلّ من أجمل ما يُحسب للرواية، أخيراً، محليتها البغدادية أو العراقية المنطلقة من معرفة واضحة للكاتبة بالبيئة مما جعلها مقنعة إلى حدّ كبير، بمعزل عن طبيعة الأحداث التي قد نأخذ عليها شيئاً، كما قلنا. يعزّز ذلك الرسم المتقن للشخصيات، النسوية تحديداً، التي اكسبتها الكاتبة حياةً من خلال هذه المحلية وبحِرَفية معقولة من الكاتبة، ولغة متناسبة مع محلّيتها وموضوعها وأحداثها وشخصياتها من جهة، ومحققة لأدبية جميلة من جهة أخرى.
في مستوى من مستويات القراءة، تبدو لنا الرواية جمالياً قصيدةَ شجنٍ تداعب حسّ القارئ برقّة وعنف في آن، وهي ترثي وضع المرأة الشرقية أو العراقية وأوجاعهما، لكنها غير المستسلمة بل المنتفظة على ما تُرثى عليه المرأة، الذي هو بتعبير آخر واقعها، وإنْ بأشكال مختلفة قد لا يكون بعضها انتفاضاً صريحاً على هذا الواقع.. أحدها هو لغوي أو تعبيري، ويتمثل في كتابة البطلة الراوية رواية تعبر عن ذلك.
[1]) هدية حسين: ريام وكفى، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2014.