نيران العبيدي، منعطف الصابونجية

“منعطف الصابونجية” لنيران العبيدي
منعطف عند أول الطريق
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
ما يمكن للقارئ أن يلمحه في الصفحات الأولى من رواية “منعطف الصابونجية”([1]) للعراقية نيران العبيدي، يخرج به من قراءته أيضاً لكامل العمل، وهو أنها رواية شخصيات محلية وبيئة محلية وموضوع محلي. ولكنّ الذي تؤكده القراءة الكاملة، مما لا يمكن لصفحات أولى أن تقدمه، هو أنها لا تفتقد البعد الإنساني الذي نأمل أن نراه أكثر تفصيلاً خلال وقفتنا القصيرة هذه. وهي إذا ما كانت رواية شخصيات، فإن هناك هيمنة لبعضها، لتكون أو تبدو أبطالاً لها، وبشكل خاص (بدرية) التي قد تكتسب في بعض الفصول، ولاسيما الأولى، مركزية، ولتقود الرواية إلى أن تكون رواية شخصية صراحة. وفي كل الأحوال، نعني حين تكون رواية شخصيات أو شخصية، وسواء اعتمدت القصّ بضمير المتكلم أو بضمير الغائب المتحققين فعلاً، إن فصولها تتوزع على مجموعة شخصيات: بدرية، وحسيبة خاتون، وابن التركوازي، والعازف اليهودي كرجي، وأخوها الزعيم، لتنطلق في كلا الحالين من وجهات أنظارها.
وإذا ما ترددنا في القول بهيمنةٍ مطلقة لشخصية بعينها، فإن المؤكد هو الحضور المعبّر للمرأة الشرقية عموماً، والعراقية أو البغدادية خصوصاً، وتحديداً حين تكون ضحية مجتمعها في ظل السلطة الأبوية التي كانت أكثر تغوّلاً، كما كانت الواقعات تحت هيمنتها وجورها، قبل عقود من الزمن. الرواية تُقدّم هذه المرأة حين كانت تقع ضحية قيمها وتقاليدها الاجتماعية المتوارثة، الفاسدة غالباً، سواء تغلّفت بالدين أم بالموروث الاجتماعي فقط، التي تجرّدها من أي حق في اختيار أي شيء يتعلّق بها بما في ذلك الزوج الذي يقول به الدين أو الطلاق أو العيش كما تريد…إلخ، وفي كل ذلك تمارس الأبوية سلطتها، بأدواتها التقليدية كما تتمثل في الأب والأخ والزوج، وصولاً إلى العشيرة والمجتمع الذكوري عموماً.
( 2 )
(بدرية) فتاة من عراق الثلاثينيات- الخمسينيات حُلْمُها، كما هو إلى حد ما حلم أختَيْها، أن تتزوج، ولكنّ التقاليد الاجتماعية، الفاسدة غالباً، التي يتمثّلها أهلها ولاسيما أبوها وأخوها، والسلطة الذكورية/ الباترياركية التي يمارسانها على نساء العائلة تحول بينها وبين ذلك. وحين يوصلها ذلك إلى حافة العنوسة، بعد رفض العديد من طالبي الزواج منها، ويتملّكها اليأس تماماً من أهلها، تبدأ تحلم بأي رجل يمكن أن يُخرجها مما هو غير طبيعي إلى الطبيعي الذي يعني أن يكون لها حياة امرأة كاملة، خصوصاً في زمن لم يكن ليعني ممكناً أن تعيش امرأة فيه مستقلة تماماً عن الآخرين:
“أووف خالة بدأتُ أكرههم وأكره طريقة العيش معهم. أتمنّى أن أكون خادمة في بيت الأغوات، فقط يكون لي زوج وألاد يملون حضني.. يريدون بغدادي.. قولي لي من أين نأتي بهم؟؟ كل الخطّابة من تيل تاوا يعني معربانية، وإذا خطبَ واحد بغدادي قالوا ليس من ثوبنا”- الرواية، ص14.
في دخولنا الأنثوي، الذي تمثّله، في حياة القرن العشرين، ولا زالت الحركات النسوية، ويمثّلها، في الأدب والنقد والقراءة النقدية للأدب، النقد الأنثوي الذي نتبناه، ليس لنا أن نتوقّع تعبيراً عن رغبة المرأة المشروعة أكثر من هذه الحدود المتوافقة مع الوضع الاجتماعي في عراق النصف الأول من القرن العشرين، وإلا كانت الكاتبة مثالية غير مقنعة. وهكذا، ومرة أخرى بسبب ذلك الوضع الاجتماعي عموماً ووضع البيت خصوصاً، تتمزق العائلة في مسارات أفرادها المختلفة لينتهوا إلى موتٍ وقتل وضياع وفقر وغير ذلك. أما (بدرية) فيقودها ذلك إلى الارتباط بعلاقة حب مع عازف موسيقى يهودي (كرجي) يحبها بصدق، ولكن وسط ظروف لا يمكن أن تزهر فيها مثل هكذا علاقة. وإزاء استحالة أنْ تنتهي مثل هكذا علاقة بما يحلم به المحبّان، تتعقد الأمور لتنتهي بها نهاية مأساوية، فبعد مشروع هرب فاشلة مع (كرجي) تسقط بيد قوّادة تقودها إلى المصير المعروف، مومساً. والحقيقة إن إسقاط الكاتبة لـ(بدرية) بهذا الشكل، يأتي عندنا ضمن أجمل وأدق وأكثر إقناعاً من نماذج هكذا سقوط أو إسقاط قدّمتها الكثير من القصص والروايات العربية والعراقية التي غالباً ما تأتي مفتعلة وغير مقنعة. فهو عند نيران العبيدي نمطي في خطه العام خصوصاً حين تأتي على هامشه حوادث القتل عسلاً للعار، ومنه قتل البغايا من أهاليهن، وهو غير نمطيّ في تفاصيله غير المفتعلة ولا المضطربة التي تتقنها الكاتبة فتقنعنا. ولأنه ليس من المنطقي أن تستكمل (بدرية) موقفها الثائر على الواقع بالشكل الذي الذي يمكن أن ننتظره من امرأة على أرض واقعنا الحالي أو في عمل سردي معاصر، فإنها تستكمله بشكل آخر، وتحديداً بعد هربها وانتهاءً بسقوطها في بيت دعارة:
“كنت أضع ألف قناع على وجوه الرجال حين يعتلون جسدي وأتخيّلهم كُرجي، أو أحياناً أُشكّلها أنا من مخيّلتي، مرات أضع وجوه إخوتي يونس وعادل كي أتمادى في كسر شرفكم بعد أن كسرتوا قسمتي، أسكر وأرقص وألهو وأدقّ الأصبعتين وأغنّي للرجال وهم لا يبخلون عليّ بشيء”- الرواية، ص94-95.
( 3 )
تشير الكاتبة إلى أن الرواية مبنية بشكل أساس، ولكن ليس كلياً، على كتابَيْ (بغداد كيف عرفتُها) لأمين المميز، و(العراق بين احتلالين) لعباس البغدادي. وإذا لم يكن هذا ليوحي بالضرورة إلى أنها ستكون واقعية، فإنها تأتي هكذا فعلاً، ولكن مع تحرّر من فوتغرافيةِ بعض توجهات الرواية الواقعية. وحتى حين يأتي بناؤها واقعياً تقليدياً إلى حد كبير، فإنه جميل، خصوصاً حين يتخلل بناءَها الحكائي التتابعي التقليدي، بعضُ بناء التداخل وما يرتبط به من تقنيات كالتشظي والتلاعب بالزمن، وكلاههما، نعني بناءَي التتابع والتداخل يتواءمان مع طبيعة القصة أو الرواية القائمة على التراث والحياة الشعبية وضمناً على الحكايا الشعبية البغدادية، المعروف بقرب بنائها من بناء التتابع.
لم يقتصر التأثير في الرواية وبنائها ومعالجتاها على الحكاية الشعبية، بل امتد إلى بغداد القديمة، بحياتها الشعبية، والأهم بالمتغيّرات والتحولات في الحياة بما تتركه من تأثيرات إيجابية وسلبية في البشر وحيواتهم وأفكارهم وعلاقاتهم وقيمهم وطرق نظرهم إلى الحياة والأمور والأشياء المختلفة والبشر. فنحن نعرف أن أكثر ما تستفيد منه الرواية عادةً هو المتغيرات الاجتماعية المدينية. ولكن، وانطلاقاً من هذا، كان من الممكن للرواية أن تكون سردياً أفضل لو لم تقع الكاتبة أسيرة الشغف، غير المنضبط أحياناً، ببغداد وبغدادية النصف الأول من القرن العشرين، وتحديداً بين الثلاثينيات والخمسينيات، لهجةً وتراثاً وبيئة وأمكنةً وحكايات. فمن ذلك تحضر الطقوس المختلفة والتقاليد الاجتماعية والمناسبات المختلفة وبيئات المحلات المختلفة، التي قد تمتد من بغداد إلى العراق عموماً، والشذوذ الجنسي وما يعنيه للناس، خصوصاً لأهل الشاذ، الذي قد يؤدي إلى القتل. وضمن ذلك اليهود والموسيقيون اليهود وشخصية اليهودي وعادات اليهود وطقوسهم ولهجتهم وحياتهم في بغداد أو العراق. ووسط ذلك كله لم يكن هكذا عالم أن يكون بعيداً عن السياسة والحياة السياسية، وقضاياها من شيوعية وقضية فلسطينية وصهيونية، وغير ذلك كثير. يبقى أن ما يجمع ذلك كله هو ما يمكن أن نسمّيه الحياة اليومية للحياة البغدادية، الذي تنوّع الكاتبة في تصويره:
“هل تريدين أن أسكب لك الشاي؟؟ السماور معمّر.. الآن غيّرت القوري كذلك معي بقصم وجُرُك من السراي خانة، وغداً طهور الولد ابن يونس وهو داعي أناس كثر وجالغي بغدادي، وسمعت الحجّي يقول ابن خيوكة معهم وكل شيء جائز ممكن أن يراك الناس وتحصل قسمة”- الرواية، ص15.
هنا الكثير من ذلك يُحيلنا، بشكل أو بآخر، إلى سرد الرائد فؤاد التكرلي عالماً وأسلوباً وبناءً وهو يقوم على الإنسان العراقي، ولاسيما البغدادي، والبيئة العراقية أو البغدادية بعوالمها وأزقتها وبيوتاتها وأناسها وشخصياتها. وربما ضمن ذلك جاءت العامية في بعض الحوار وفي غيره، وكأن مبررها أن الرواية تقدم بغداد القديمة في رواية واقعية، التي ترتبط في الأذهان بالمدينة والأحياء القديمة، وبالشخصية البغدادية الشعبية النمطية، ولهجاتها، ولا نقول لهجتها، من بغدادية وكردية وتركمانية ويهودية، التي تتداخل، في الحوار والتداعي والحوار الداخلي للشخصيات مع اللغة الفصحى بإتقان جميل. يبقى أن ما قد يمسّ هذا الإتقان في الحوار أنْ تصير لغة بعض الشخصيات- أحياناً فقط- لغة الكاتبة، وتحديداً حين تسقط ثقافتها ومعلوماتها وشخصيتها على بعض شخصيات الرواية، لتخرجها عن الإقناع، كثقافة (بدرية) المفاجئة، مثلاً. (يُنظر: الرواية، ص90-91).
( 4 )
يبقى لنا مما نأخذه على الرواية الشكل الذي اتّخذتْه، أو إن شئنا نقول إخراجها الكتابي، بما فيها تقسيمها إلى فصول، ووجود الفراغات غير المبررة بين بعض فقراتها، واعتماد مقاطع شعرية أو غنائية كاملة عناوين للفصول. فكل ذلك أدخل الرواية في اضطراب شكلي، زاده تأثيراً سلبياً اضطراب طباعي وفني طال الرواية كلها بدءاً من غلافها وأولى أسطرها إلى آخرها. وفوق ذلك كله يعقب نهاية الرواية عنوان (قدحات) لكتابة تتراوح ما بين أن تكون خواطر وشعراً، صحيح هي جميلة وعميقة وذات دلالات بعيدة، ولكنْ ليس لها علاقة بالرواية ولا تنتمي إليها، ومن الواضح أنها ليست منها. وإذا كانت فوضى الشكل نتيجةً لكون الرواية، على ما يبدو، أول كتاب تنشره الكاتبة، فإنه، على ما يبدو أيضاً، أول كتاب يشرف عليه المسؤول عن طبعه عند الناشر، فزاده فوضى، الأمر الذي سلب الرواية ما كانت ستمتلكه من جمالية التوصيل والتلقي، إن لم نقل إنه كاد يصيبها بمقتل.
مع كل هذا، جاءت الرواية بشكل عام جميلة تعني أن الكاتبة امتلكت إمكانية مقرونة بشغف بالحكاية والحكائي، ولكنها افتقدتْ التجربة وربما الثقافة السردية. كما أنها امتلكت الأسلوب الروائي، لكنها افتقدت النفَس الطويل. وعموماً يُحسب للرواية، فوق ذلك كله، أولاً، موضوعها تعلّقاً بالمرأة البغدادية أو الشرقية ومعاناتها، ليس بتناوله بوصفه قضية، بل أحداثاً روائية أو قصصية؛ وثانياً، اللغة الخاصة المطعّمة بأدبية جميلة، وببغدادية تراثية وشعبية تتواءم تماماً مع الشخصيات والأحداث وطبيعة الوقائع والبيئة؛ وثالثاً، محلّيتها، ولكن غير المنفصلة عن الإنسانية، كما افتتحنا موضوعنا بالإشارة إليها، وهي تأتي مقرونة بإتقان مُبهر لبناء عالم بغدادي سردياً بشخصياته المحلية وبيئته. وعندنا أخيراً أن كل ذلك منعطفات فرعية ضمن منعطف (الصابونجية) الذي يجب أن تتوقف عنده مليّاً، قبل أن تدخل تجربة منعطف روائي جديدة.


[1]) نيران العبيدي: منعطف الصابونجية، رواية، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، 2014.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *