نشيد سليمان2

رواية(( نشيد سليمان)) لتوني موريسون
التحليق فوق حياة سوداء
ميسلون هادي
تدور أحداث هذه الرواية في الفترة التي تحيط بالحرب العالمية الثانية تسبقها بقليل و تليها , ثم تمتد إلى بداية الستينات وهي الفترة التي شهدت ذروة المجابهة و الصدام بين البيض و السود في المجتمع الأمريكي بعد تاريخ طويل من الاضطهاد العنصري عانى منه أولئك الذين جلبهم البيض عبيداً لهم من أفريقيا قبل قرون لخدمتهم و خدمة أراضيهم في الجنوب الزراعي على وجه الخصوص ثم ظلوا يعانون من عنت البيض و تعسفهم و نظرتهم العرقية المتعالية في ظل غياب القوانين التي تلغي مثل هذا التمايز العرقي , ثم حتى بعد ان اعتقهم لنكولن في منتصف القرن التاسع عشر أي قبل الحرب العالمية الثانية ( زمن الرواية ) بعقود ظلوا يعانون من هذا التعسف و لم يستطيعوا قط ان يصبحوا مواطنين أمريكيين شأنهم شأن كل أبناء الأعراق الأخرى التي استوطنت تلك القارة أو انصهرت على أرضها عبر الأجيال وما تزال هذه النظرة قائمة حتى الآن بالرغم من تشريع القوانين التي تساويهم في حقوق تلك لمواطنة فيما بعد و بالرغم من مضي أكثر من قرن و نصف القرن على تحررهم من العبودية .
إذن . تلك أميركا الحياة السوداء التي تضعها الكاتبة على منضدة الكتابة لتلتقط منها عائلة زنجية لاتبدو للوهلة الأولى محاصرة باحتقار المجتمع الأبيض و قمعه إلا ان الخيوط التي تتكون من بداية الرواية ونهايتها ستكشف لنا ان لارفاهية لأفراد قلائل في ظل اضطهاد جماعي يهمش قيمة جماعة إنسانية و يحط من كرامتها بسبب اختلاف لون بشرتها و خشونة ملامحها .. ما الجديد في الأمر و الصحافة و الأفلام و المسلسلات و مئات الكتب قد أشبعت الموضوع تناولاً ان لم نقل قتلته بحثاً ؟
الجديد هو ( توني موريسون) هذه الكاتبة التي ما ان نقرأ لها رواية حتى نتحمس لاستحقاقها جائزة نوبل قبل اعوام (1993) و نحسب لهذه الجائزة بعض اعترافاتها الحقيقية بالكتاب المتميزين في العالم بين عام و عام آخر , فتوني موريسون في هذه الرواية تضرب موضوعها التقليدي برشات من ألوان وظلال و إيحاءات و فنطازيا فتجعل البيضة التي يمكن ان تفقس عند الآخرين إناث مملات تفقس عندها عن طاووس ذكر , تبتكر توني موريسون لبطل روايتها (( الحلاب )) اسماً مقصوداً لأغراض متعددة و مركبة تستثمرها الكاتبة بذكاء خلال تصاعد أحداث الرواية فهذا البطل السلبي واسمه ماكون ميت ((DEAD )) حياته مطلوبة لأكثر من جهة , أبوه أراد ان يقتله وهو في رحم أمه عندما حاول اجهاضها ولم ينجح ثم تلاحقه حبيبته و ابنة عمه السوداء ((هاغار )) لكي تقتله أيضاً لأنه هجرها بعد علاقة حب دامت سنوات , ثم يلاحقه صديقه الصدوق (( غيتار )) في قرار مفاجئ للقبض على حياته بعد ان توهم خيانته و استئثاره بكمية من الذهب اتفقا على اقتسامها , ومن خلال هذه المتوالية لاتكشف الرواية عن كراهية البيض للسود حسب , إنما عن كراهية بعض السود لأنفسهم أيضاً , هذه الكراهية التي تبلغ ذروتها عند ماكون ميت (( الأب )) و الذي يسعى محموماً لجمع المال وصولاً إلى الرفاهية التي تتيح له احتقار أبناء جنسه و التميز عنهم بالمأكل و الملبس و المستوى المعيشي و محاولة إلحاق الأذى بأي فرد من عائلته يحاول التقرب من شخص اسود أو فقير أو عامي , ان هذه العائلة أيضاً تعاني من كراهية الأب لها ومن تحريضه كراهية الأبناء لوالدتهم (( ابنة الطبيب الزنجي المشهور )) لأسباب قد تكون حدثت في حياة تلك الوالدة أو أنها لم تحدث غير ان الأب يضعها بين طريق الابن _ وأمه عن عمد لكي يزرع الكوابيس التي ستنغص عليه حياته .
ان ماكون ميت (( الابن )) سيهرب من تلك الكوابيس عبر الحلم نفسه الذي راود جده لأبيه قبل ثلاثة أجيال وهو حلم العودة إلى الوطن أو إلى الجذور فتنتهي الرواية بطيران آخر لماكون ميت (( الابن )) من التلة ذاتها التي دفن فيه عظام جده وهو الذي ولد (( أي الابن )) في اللحظة نفسها التي شهدت طيران زنجي آخر من فوق مستشفى الرحمة , تلك المستشفى التي لم يكن يسمح لوالدته الزنجية بالدخول إليها لولادته لولا ان والدها الطبيب الناجح هو احد مؤسسيها .
ان المصير الذي قرره ماكون ميت (( الابن )) لنفسه جاء متناقضاً مع أوليات هذه الشخصية ان لم نقل مفاجئاً و مشوشاً و غير ضروري … وإذا قلنا ان موضوع الرواية هو حلم العودة إلى الوطن و الهروب إلى الجنة مجسدة بذلك الطيران الرمزي _ الواقعي, فان ذلك يقتضي ان تقوم الرواية بأكملها على تطبيع الخرافات و أقاصيص العجائز و أغاني الأطفال وتحويلها إلى رموز أو فانطازيات كما فعل ماركيز بأجداده و أعمامه وأخواله عندما أدخلهم في مثرمة العجائب التي ابتكرها ثم أخرجهم منها عجينة من الوقائع و الخزعبلات .
أما هذه الرواية فإنها ترتدي بدلة أنيقة ومرتبة و تدعونا بشكل واقعي لتفاعل واقعي مع أحداث واقعية ثم تتركنا فجأة مع نهاية غير واقعية يمليها النشيد النوستالجي لأولاد وأحفاد سليمان بالطيران عالياً و العودة إلى الأرض الأولى مادامت الأرض الجديدة تعيسة وظالمة و غير ذات فائدة.
إنما كل ذلك قد يكون مسوغاً من وجهة نظر نقدية أخرى غير وجهة النظر هذه وليس الموضوع كما قلنا هو بطل هذه الرواية إنما بطلها هو التكنيك النابغ الذي استخدمته الكاتبة (( توني موريسون )) في صنع فسيفساء هذا العمل بشكل لا تجيد صنعه لذلك الإتقان سوى امرأة كاتبة … فهو مثله مثل صناعة الساعات و حياكة الأثواب و تطريز المفارش يحتاج إلى الصبر و الأناة … وقد صبرت الكاتبة بذكاء على مناوراتها الفنية فكانت تدعنا مع قصة أو مشهد أو حكاية و نحن نشعر ان ثمة نقصاً أو خطأ في هذا المكان ثم نمضي لنعثر على تكملة النقص أو تصحيح الخطأ في مكان آخر , وقد فعلت ذلك بصبر ومكر لاتقدران عليه سوى امرأة .
ان واحدة من مميزات جائزة نوبل للآداب هي تنبيهها الناشرين العرب إلى أعمال الكاتب الفائز بمجملها فتجعلهم يهرعون إلى تكليف المترجمين المهمين بنقلها إلى العربية ولعلنا لا نتمادى في الإطراء إذا قلنا في الأخير ان المترجم سمير علي قد برع براعة واضحة في نقل هذا العمل إلى العربية فأضاف من عنديات إبداعه الخاص الروح النابضة للكلمات , وكانت بصمته واضحة في اختيار المفردة المعبرة و الملائمة لكل مقام , وقد كنا نتمنى على الدار الاهلية للنشر في عمان ان تضع سيرة المترجم على الغلاف الداخلي الأخير للرواية مثلما وضعت سيرة المؤلفة على غلافها الداخلي الأول فجهد الترجمة لايقل أحياناً في صعوبته وحساسيته عن جهد التأليف ان لم يزد عليه في بعض الأحيان, وحري بالناشر الذي يعرف القراء العرب بالكتاب الأجنبي الذي انتقاه للترجمة ان يعرف أيضاً بالكاتب العربي الذي يقوم بمهمة نقله إلى العربية وخصوصاً عندما يعطي اسم هذا الأخير قيمة معنوية مضافة إلى الأول ويضم إلى صفه قارئاً لم يكن ليكتشف مزايا النص الأصلي لولا جودة الترجمة.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *