نحن والآخر
في الرواية العربية المعاصرة
د. نجم عبدالله كاظم
كلية الآداب – جامعة بغداد
مقدمـــة:
أتى دخولي إلى الوطن الحبيب، العراق لأول مرة بعد السقوط الدرامي لبغداد بثلاثة أشهر، وفي أعقاب سبع سنوات من الغربة والبعد عنه وعن الأهل والأحبة. وللقارئ أن يتوقع حجم ونوع الأحاسيس والعواطف والانفعالات التي كانت تتفاعل وتصطخب في داخلي، كما يمكن أن تكون في داخل أي إنسان في طريقه إلى وطنه بعد غياب طويل، مضافاً إلى ذلك أنْ يكون هذا الوطن حينذاك في ظل احتلال أقبح وأقسى قوة إمبريالية عرفها التاريخ. والواقع لم أكن قادراً حينها على تصور اللُقيا، فارتبكت عند أولى خطوات أخطوها على تراب الوطن عابراً الحدود البرية العراقية– الأردنية وأنا المح أول مظهر كنت أُمّني نفسي عبثاً بأن لا أراه، عسكرياً أمريكياً يقف إلى جانب بضعة موظفين عراقيين. كان الوحيد الذي يحمل سلاحاً طالما رأيته في الأفلام السينمائية والوثائقية والإخبارية على شاشات التلفزيون يحمله العسكريون الأمريكيون ويفعلون به كل ما هو مسموح وممنوع. لم أعرف كيف أتصّرف وأنا أجدني مضطراً إلى الاقتراب من ذلك العسكري وقد تفجّر الآن الغضب في داخلي، إذ كان يقف عند شباك ختم الجوازات، ولكن عند اقترابي منه بادر فوراً إلى سؤالي بودّ غريب: هل أنت من العائدين؟ فأجبت باقتضاب: نعم. فعاد ليقول بنفس الود: أهلاً بك في وطنك. وأحسسته يشدّد على “وطنك”. عندها فقط تأملته فانتبهت إلى حداثة سنه.. كان في الواقع صبياً أكثر منه رجلاً مقاتلاً، فتوقعت أن يكون مجنداً وليس عسكرياً محترفاً. والطريف الذي جذب انتباهي هو أنه بدا لي يحاول بخجل وتردد أن يكون ودوداً. هنا نبعت في داخلي، إلى جانب الغضب الطبيعي على (الآخر) بوصفه محتلاً، رؤيا إنسانية قد تبدو غريبة في ظرف العدوان والاحتلال. فإلى جانب المعتدي المحتل كما يتمثل ذلك في الأمريكي بشكل خاص، وجدت من الطبيعي أن يظهر الإنسان العادي الذي يمكن أن يكون بين الغربيين، بل الأمريكيين. من هذه التجربة الإنسانية القصيرة اتقدت فكرة البحث في هذا الجانب، أعني (نحن والآخر) كما تَمثَّله أحد فنون الأدب العربية الحديثة، نعني الرواية، وتحديداً المعاصرة، وخاصة تلك التي صدرت في العقدين الأخيرين، لما شهده هذان العقدان من أحداث مؤثرة في العلاقات بين العرب والغرب، خاصة في فلسطين والعراق. بقي أنني أردت أن يكون بحثي في ضوء النزعة الإنسانية أولاً التي تفرض على الروائي رؤية الآخر الإنسان، والالتزام ثانياً الذي يكون عادة بمثابة بوصلة هذا الروائي لتحديد الآخر المعتدي وتحديد الموقف منه. ففي العودة إلى تلك المشاعر المتناقضة، وربما الطبيعية التي أشرتُ إلى تصارعها في داخلي، عند دخولي الوطن في ظل الاحتلال، ورؤيتي للجندي الأمريكي في نقطة الحدود، وجدت أن هذه العلاقة مع الآخر تتسم بحساسية خاصة بسبب طبيعة التاريخ والعقيدة والمؤثرات المختلفة. وعليه كان من الطبيعي أن يخضع المتعامل مع هذا الموضوع إبداعياً، وهو عندنا الروائي، لمؤثرين رئيسين لا بد من أخذهما بنظر الاعتبار عند بحث الموضوع، نعني النزعة الإنسانية خاصة في التعامل مع الآخر ورسمه من جهة، والالتزام بقضية الانتماء ومرجعياتها الوطنية والقومية والدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية وغيرها من جهة ثانية.
الروائي العربي ولقاء الشرق والغرب:
نجد من المفيد، قبل الدخول عملياً في تناول هذا الموضوع، التوقف عند نقطة تكتسب أهمية، تلك هي عاطفية تناول مثل هذا الموضوع في الأدب. فنحن جميعاُ نعي العاطفية التي كثيراُ ما تدفع العربي إلى تبني المواقف وإلى الفعل وضمن ذلك تعلقاً بموضوعنا إلى تصور الآخر بهذا الشكل أو ذاك مع كل ما يصاحبها من سلبية. وإذ نعي وجود هذه العاطفية فإننا لا يمكننا تجاوزها تجاوزاً تاماً، ولكننا ننتظر من نخبة المفكرين والمثقفين، والأدباء منهم بالطبع، الإقرار بوجودها وبفعاليتها التي هي ليست بالضرورة سلبية، خصوصاً إذا ما تم إخضاعها، في علاقتها بالموقف من الآخر وفي ملاحقتها للأمور المتعلقة به من أحداث ووقائع وشعوب وتعاملات وحوارات معه، للعقل والمنطق ولو بدرجة ما. بتعبير آخر نحن ننتظر لا أن تُلغى العاطفية العربية، عاطفيتنا، بل أن تُلحق بالعقل، وما بين هذا وذاك فرق بالطبع. فالإلغاء يتناقض مع الواقع خاصة حين يعني إلغاء خاصية مهمة من خصائص الشخصية العربية، هذا إذا كان الإلغاء ممكناً أصلاً، وبما يعني مسخاً بدرجة أو بأخرى لهذه الشخصية. ونعتقد أن غير قليل من المفكرين والكتاب والسياسيين والناس العاديين إذا لم يكونوا ينكرون هكذا توجه فإنهم على الأقل لا يستطيعونه. وعلى أية حال وتعلقاً بموضوع رؤيا العربي ورؤيته للآخر وعلاقته به، لا نعتقد أن هذه العاطفية هي تحديداً التي تشكل هذه الرؤيا، بل إن عاملين رئيسين– قد يتفرعان بدورهما إلى عوامل ثانوية– كانا وراءها، وبشكل خاص وراء التصور المطلق في سلبيته لشخصية الغربي كما شاع في أذهان الغالبية الكبيرة من العرب، مع عدم إنكار أن تلعب العاطفية ذاتها دوراً مؤثراً في فعل هذين العاملين. هذان العاملان هما:
العامل الأول: هو حقيقة الغربي ذاته، في طبيعته ورؤاه وسلوكه وما يصدر عنه فعلياً تجاهنا من أعمال ومواقف عدائية أو غير ودية (not friendly)، على حد التعبير الإنكليزي.
العامل الثاني: هو محدودية احتكاك العرب عموماً أو في وقت بعينه بالغربيين، ويكون هذا العامل فاعلاً خصوصاً حين يكون محدودي الاحتكاك هؤلاء وراء التصور السلبي للغربيين في ظل تأثيرات موضوعية وغير موضوعية يخضع لها.
إن اللقاء بين الشرق والغرب قضيةً، وقبل ذلك واقعةً، هو أوسع من أن يكون قضية فنية أو أدبية فقط، فاللقاء تحقق عبر العصور مرات عديدة، بل لعلنا يمكن أن نقول إنه يقترب من أن يكون أمراً متواتراً وطبيعياً. لكن هذا القول يصح إذا ما أخذنا اللقاء بحدود تعلق الأمر بتحققه مجرداً، أي بمعزل عن طبيعته، وفرديته أو جماعيته، وتأثيره أو عدم تأثيره ، وكونه ظاهرة أو فعلاً عابراً. أما اللقاء الحضاري الذي يعنينا فإنه شيء آخر، ولا يمكن أن يكون فعلاً أو واقعةً مجردةً، وهو الذي يعني المؤرخ والباحث السياسي والاجتماعي والنفسي والأديب، وكتحصيل حاصل يعني الناقد والدارس الأدبي وتحديداً حين يكون هذا اللقاء موضوعَ العمل الإبداعي الأدبي، أو مؤثراً بهذا الشكل أو ذاك فيه. وإذا ما كنا نقصد بالشرق العرب وإلى حد ما العالم الإسلامي، ونقصد بالغرب أوروبا وإلى حد ما أمريكا، فإن مثل هذا اللقاء بين الشرق والغرب قد تحقق ثلاث مرات رئيسة في التاريخ. الأولى حين وصلت جحافل الإمبراطورية العربية الإسلامية بإنسانها وفكرها وحضارتها إلى أوروبا ابتداءً من القرن السابع الميلادي وما استتبع ذلك من تأثير ضخم وشامل للحضارة العربية الإسلامية في أوربا. المرة الثانية كانت قد تمت من خلال الحملات الصليبية العديدة. أما المرة الثالثة فكانت حين وصل الغربي إلى عالمنا، خاصة عبر بوابتي مصر وبلاد الشام من خلال حملة نابليون وما تلاها من وسائل، غازياً ومبشراً دينياً ومستعمراً وعالماً ومعلّماً. والذي يعنينا في دراستنا هو اللقاء الثاني بالطبع.
كان لا بد أن يكون من نتائج هذا اللقاء بين الشرق والغرب على أرض الواقع، وانطلاقاً من تجربة كل منهما للآخر ونظرته إليه، أن تتبلور صورة أو صور كل منهما في ذهن الآخر وما تفرضه تلك الصورة أو الصور أو ترتبط بها من أساليب التعامل فيما بينهما. وتعلقاً بصور الغرب والغربيين، وكما يعبر عنها الأدباء العرب، وخاصة الروائيين، فإنها تأتي حصيلة مؤثرات وعوامل موضوعية، هي في معظمها وسائل اتصال هؤلاء الأدباء بالغربيين وتعاملهم معهم. أما أهم هذه المؤثرات والعوامل ووسائل الاتصال فهي الآتية(1):
أولاً: الاستعمار والوجود الأجنبي وما يتصل به من وجود قواعد عسكرية، أمريكية بشكل خاص، وقوى دعم لأنظمة عربية وغير عربية. ومن الروائيين التي تأثرّوا بهذا مهدي عيسى الصقر في “الشاهدة والزنجي”- 1988- وتخيّّله لوجود أمريكي في بغداد الأربعينات، وأحلام مستغانمي في “عابر سبيل”- 2002- وتعاملها مع بعض ذكريات الاستعمار الفرنسي، وميسلون هادي في “الحدود البرية”- 2004- وتعاملها مع العراق في ظل الاحتلال الأمريكي الحالي.
ثانياً: الصراع العربي الإسرائيلي، وكان لهذا العامل تأثيره الكبير في نظرة الكُتّاب إلى الغرب والغربيين ورؤاهم المبنية على ذلك. ومن أبرز الروائيين الذين نرى تأثرهم في بعض رواياتهم بهذا العامل رضوى عاشور في “الرحلة”- 1982- التي لا تكاد القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي يغادران ذهن بطلتها، وليلى الأطرش في “وتشرق غرباً”- 1987- التي تقع أحداثها في قلب القضية والصراع والمقاومة.
ثالثاً: الخلفية الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقائدية، وتعلقاً بذلك القومية والدينية، وهو العامل الذي كان له تأثيره في رؤى الكُتاب ونظراتهم المسبقة الموجَّهة غالباً إلى الغرب والغربيين. فقد قاد هذا التأثير في النتيجة إلى أن ينطلق الكاتب في كتابة عمله، وضمناً في التعامل مع الغرب وفي رسم الشخصيات الغربية فيه، من نيّات مسبقة لأن تكون هذه الشخصيات بالصور التي يريدها أن تكون عليها. ولعل أكثر ما انعكس هذا على النظرة إلى المرأة والجنس والعلاقات ما بين الجنسين، وإلى القيم المختلقة للعالمين المتباينين. وبدا تأثير هذا العامل في الكثير من الروائيين، مثل الطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال”- 1970، وعيسى الناعوري في “ليلة في القطار”- 1974، وعبد الرحمن منيف، وناجي التكريتي في “نورا”- 1981.
رابعاً: وسائل ومؤسسات الاتصال والثقافة والإعلام، خاصة المنشورات المكتوبة والمسموعة والمصورة أو المرئية. وتتوزع هذه الوسائل والمؤسسات من حيث تأثيرها إلى قسمين، الأول يضم غالبية وسائل الإعلام العربية التي كانت تلعب دوراً في تشكُّل الصورة السلبية أو القبيحة للغرب الرأسمالي. أما القسم الثاني فيضم الوسائل الغربية وفي مقدمتها الأمريكية، وكانت هذه تصور الغرب، وبشكل خاص أمريكا، بصورة جنة الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد. وكانت هي أيضاً وراء صورة (السوبرمان) الأمريكي التي لم تظهر كثيراً في الرواية العربية. ولعل هذا العامل، إذا ما ألحقنا به التعرف على الغرب عبر الطرق السريعة أو غير المباشرة كالسياحة والسماع، هو أكثر العوامل تشويهاً للصورة وإبعادا للموضوعية في تعامل بعض الكُتّاب العرب مع الغرب والغربيين مقارنة مع الواقع، خصوصاً حين تعاملت الرواية العربية مع المرأة الغربية التي ندر أن جاءت فيها سوية أو متزنة أو شريفة. ولعل من الروائيين الذين عكست بعض أعماله تأثرهم بهذا العامل عيسى الناعوري في “ليلة في القطار”، وعلي خيون في “العزف في مكان صاخب”.
خامساً: المعايشة والاختلاط والعلاقات التي يقيمها الكاتب مع غربيين، وخاصة حين تكون نتيجة دراسته في الغرب أو هجرته إليه، وهو الأمر الذي كان غالباً وراء الجانب الموضوعي في تعامل بعض الكتاب مع الغرب والشخصية الغربية، كما قد نجد ذلك بدرجات مختلفة في “السفينة”- 1970- لجبرا إبراهيم جبرا، و”الثلج الأسود” لمحمد أزوقة، و”كم بدت السماء بعيدة”- 1999- لبتول الخضيري.
أنماط صور الغرب والغربيين في الرواية العربية
إذن اهتم الأدباء بلقاء الشرق والغرب مستجيبين له بتمثّل أشكاله ومناقشين لقضاياه أحياناً، ومجسدين لرؤاهم فيه عادة، وكان ذلك طبيعياً في ظل انفتاح العرب على الغرب، وبشكل أكثر تحديداً أوربا قبل أن يشمل أمريكا في وقت لاحق، وانفتاح الآخرين. وكان لهذا أن يطرح بالضرورة علاقة كل من الطرفين مع الآخر في ظل الاختلافات الكثيرة بينهما، الأمر الذي يثير بالضرورة أيضاً الخلاف والرفض أحياناً والقبول، ربما المتحفظ، أحياناً أخرى. لقد كان من الطبيعي أن لا تتأخر هذه الاستجابة أو التمثل عن فعل اللقاء نفسه وما أثاره خاصة في ظل الاختلافات الكثيرة(2) إلاّ بحدود تأخر ظهور النوع الأدبي عند العرب الذي يعنينا. عدا ذلك اهتم العرب من خلال مفكرّيهم ومثقفيهم بهذا اللقاء مبكراً، فقد “انشغل مفكرو عصر النهضة العربية بقضية العلاقة بين الشرق والغرب، وسجلوا تجاربهم لدى ارتطامهم بالحضارة الأوروبية، وحددوا مواقفهم ورؤاهم بالنسبة لهذه العلاقة وآثارها ونتائجها”(3). وكُتب في ذلك الكثير مما لسنا معنيين هنا إلاّ بما كان له علاقة بموضع اهتمام هذه الورقة، نعني الرواية. وحتى هنا، إذا ما أردنا أن نكون مرنين بما يكفي للتعامل مع تلك الكتابات التي اشتملت على بعض ملامح العمل القصصي، خاصة التي يرى النقاد والباحثون أنها مهدت لظهور الرواية، فإننا سنجد هـذا (الانشغال)– على حد تعبير نزيه أبو نضال– والتمثُّل الإبداعي كما سيكون بعد حين، كان مبكراً نسبياً أيضاً، بل هو واكب إلى حد كبير الاتصال الحضاري المتحقق بين الشرق والغرب. وهكذا كان الروائيون أكثر الأدباء العرب تناولاً لهذا الموضوع، بالرغم من حداثة الفن الروائي بشكل خاص والقصصي بشكل عام في الأدب العربي مقارنة بالشعر مثلاً. ويبدو أن مرد هذا التناول الملفت للنظر هو طبيعة الجنس الروائي نفسه المتعامل مع الحياة والواقع والناس والتجربة أكثر من أي جنس آخر وهو الأمر الذي يجعلنا نختلف مع قول أحد الباحثين: “انتبهت الرواية العربية لقضية الشرق والغرب في النصف الأول من هذا القرن [العشرين] بتأثير البعثات الدراسية للطلبة العرب إلى أوروبا من جهة، والزيارات التي قام بها أدباء عرب إلى أوروبا من جهة أخرى”(4). يبقى أن هذا الاهتمام أو التمثل في الرواية العربية مر بمراحل، وفقاً لمراحل الاتصال أو اللقاء ولطبيعة كل مرحلة منها من جهة، ولمراحل تطور الرواية العربية نفسها من جهة أخرى، وقد طرحت روايات كل مرحلة أنماطاً مختلفة بدرجة أو أخرى من صور الغرب والغربيين ومن علاقات العرب بهم، كما سنسعى إلى عرضها فيما سيأتي(5).
المرحلة الأولى، وهي المرحلة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر تقريباً إلى الحرب العالمية الأولى، وكانت كتاباتها عبارة عن وصف للغرب أو لبعض جوانبه مع الانتباه إلى ظواهر الأمور وإعطاء بعض ذلك اهتمامات خاصة، وكل ذلك مع غلبة التعميم ونقص الوضوح عادة، وحتى في حالة بيان الرأي أو الآراء فإنها تكون في “شكل الانطباعات الشخصية”(6). كان أهم من مثلّ ذلك رفاعة الطهطاوي في “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”- 1834– وعلي مبارك في “علم الدين”- 1883.
المرحلة الثانية، وهي الممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى فترة التحرر والاستقلال وحركات التحرر والثورات في الخمسينات والستينات، وربما إلى نكسة حزيران 1967. “بعد أن برزت صورة (الغرب) بوجهها الاستعماري التسلطي، فإن تلك العلاقة على رغم أنها أصبحت علاقة ملتبسة، يختلط فيها جانبه الاستعماري وجانبه الحضاري، فقد بقي لقاء الحضارات في الروايات التالية محور التواصل والترافق والمثاقفة والمواءمة”(7). وقد شهدت هذه مرحلة شهدت التأسيس الفني للرواية العربية وتطور هذه الرواية في جل الأقطار العربية من جهة، وانفتاح العرب أكثر- مجبرين ومختارين- على الغرب وإسهامهم الفاعل في زيادة العلاقة به وترسيخها وتفعيلها، خاصة في النصف الثاني من هذه المرحلة، نعني ما بعد الحرب العالمية الثانية. المهم أن روايات هذه المرحلة قد وصلت في ظل هذا التأسيس الفني والتطور إلى “ما يسمح للكاتب بتعديد وجهات النظر والخطابات حول إشكالية متعددة المستويات والأبعاد، وتتطلب من “الحوارية” في الأذهان والأساليب والنصوص أكثر مما تتحمله من الرؤى والمواقف الحدية والأحادية”(8). أهم أعمال هذه المرحلة: رواية “عصفور من الشرق”- 1938- لتوفيق الحكيم، و”أديب”– 1932– لطه حسين، و”قنديل أم هشام”– 1944- ليحيى حقي، و”الحي اللاتيني”– 1953- لسهيل إدريس، إضافة إلى إمكانية ضم رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”-1970– للطيب صالح التي هي وفق تصنيفنا صمن المرحلة التالية.
المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي تمتد من نكسة حزيران إلى الوقت الحاضر، ونعني تحديداً إلى الاحتلال الأمريكي للعراق وما عناه ذلك من عودة صريحة وجديدة للاستعمار والهيمنة الأجنبية على العرب، ولكن عبر هوية جديدة يدّعيها هي هوية الأمريكي الصديق والمخلّص والمحرر، مع أن صورة الاستعمار التقليدي لا تزال في ذهن العربي، “فالذكريات ما تبرح جثة، دامية، محرقة، والمشاعر ما تزال متأججة. وإذا كانت هذه المرحلة من جهة امتداداً للمرحلة السابقة من حيث وعي كتابها، وتقديمها روايات ظهرت في مرحلة متقدمة من مراحل تطور الرواية العربية، فإنها جاءت أكثر استيعاباً لثنائية الشرق والغرب، ولكن مع بعض الارتباك في فهم المثقفين العرب بشكل خاص، ومنهم الروائيون بالطبع، لما يجري من حولهم وانقسامهم حوله، وهو الارتباك الذي أحدثته حروب الخليج والاحتلال الأمريكي للعراق، وعزّزه بلا شك الوضع المتزايد في مأساويته في فلسطين في ظل تتالي حكومات إسرائيلية يمينية عنصرية عنيفة إلى حد الوحشية، وفوق ذلك مدعومة بأمريكا وإلى حد ما الغرب الأوربي. وعموماً بدت غالبية الأبطال مثلاً، وأوضح تمثيلاً لوعي الروائيين في تعاملهم مع الغرب، وخاصة حين قدموا شخصيات غربية وشرقية في لقاءات تراوحت ما بين ترسيخ لصورة الغربي المعادي تحديداً وللصورة الإنسانية والفكرية والندّية –إن صح التعبير- له مع ميل إلى الاتزان والثقة في التعامل مع ذلك.
ملاحظتنا مهمتان نسجلهما على روايات هذه المرحلة. الأولى أن غالبيتها روايات واقعية، مما يشجعنا على أن نحاول تلمس رؤية العرب للغربيين عبر رؤى بعض كتاب هذه الروايات كما تنعكس في الصورة التي تقدمها رواياتهم للغرب والغربيين وفي المواقف منهم. الملاحظة الثانية هي أن الكثير منها إنما هي ثمرات لتجارب حقيقية للكتاب مع الغرب والغربيين. وتعلقاً بذلك وبكون هؤلاء الروائيين هم وراء الشخصيات التي تقدمها الروايات فقد كان أبطالهم غالباً مثقفين، وعليه فهي تصلح تماماً لتقديم مقولات ورؤى عما يتعلق بلقاء الشرق والغرب هي أصلاً للكتاب أنفسهم من جهة، كما أن تفرّد هؤلاء الروائيين بهذه التجارب الحقيقية تجعل من شخصياتهم التي هم وراءها ممثلة للناس بدرجات مختلف من جهة ثانية. وربما من هنا أيضاً تأتي القيمة لما نخرج به من التناول التطبيقي للروايات التي تناولت موضوع (الشرق والغرب) بالرغم من محدودية هذه النماذج التي تدخل مختبرنا. أما هذه النماذج، والتي نجدها ضمن أبرز الروايات التي تعرضت للغرب والغربيين في هذه المرحلة، وعليه فقد كانت مركز اهتمام دراستنا، فهي: “سباق المسافات الطويلة”- 1979- لعبد الرحمن منيف، و”نورا”- 1981- لناجي التكريتي، و”الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا”- 1983- لرضوى عاشور، و”وتشرق غرباً”- 1987- لليلى الأطرش، و”الشاهدة والزنجي”-1988- لمهدي عيسى الصقر، و”الثلج الأسود”-1988- لمحمد أزوقة، و”الميراث”- 1990- لسحر خليفة، و”كم بدت السماء قريبة”- 1999- لبتول الخضيري، و”رقص على الماء”- 2000- لمحمود البياتي، و”عابر سرير”- 2002- لأحلام مستغانمي، و”الحدود البرية”- 2004- لميسلون هادي.
نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة:
في ظل ما رأيناه، وعبر مراحل تطور لقاء الشرق والغرب، من عدم فهم العرب للغرب مرة، ومحاولة فهمه مرة ثانية، وفهمه مرة ثالثة، تنوعت وتباينت صور الغرب والغربي كما يراهما العربي في الرواية العربية. ومع استمرار هذا في الرواية العربية المعاصرة، أي في أعمال المرحلة الأخيرة، هيمن بعض هذه الصور، الأمر الذي كان يعني أن يشمل هذا التنوع والتباين المواقفَ من اللقاء بين العرب أو الشرق والغرب. وكان ذلك بفعل ما طرأ على العلاقات العربية الغربية من متغيرات وما شهدته المرحلة من أحداث جسام خاصة خلال العقدين الأخيرين لعل أهمها اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل، وحربا الخليج، والاجتياح الأمريكي- الغربي للعراق، والانتفاضتان الفلسطينيتان. ويكشف لنا المسح والتأمل والتحليل عن توزع رؤى العرب عن الغرب والغربيين وتبعاً لذلك المواقف منهما، ومن لقاء الشرق والغرب، في روايات هذه المرحلة، وخاصة خلال هذين العقدين، بين نوعين من الصور والرؤى: صور الغرب الإيجابية، وصور الغرب السلبية.
أولاً: صور الغرب الإيجابية– الغرب المشرق، والمتحضر. ومن الطبيعي أن تستتبع هذه الصور تجاوبَ العرب مع اللقاء بالغرب، بل ربما تحمّسَهم للقاء إلى الحد الذي قد يصير الغرب به لبعض العرب حلماً. فعلى خلاف المتوقع غالباً تُصوّر لنا بعض الروايات هذا الغرب عالماً مشرقاً، فهو عالم تحضر، أو جمال، أو ثقافة، أو وعي سياسي وفكري.. إلخ. نقول إن هذه الصور تأتي على خلاف المتوقع، ذلك لأن نعرف أن صورة الغرب لدى العرب تكونت على أرض الواقع غالباً في ظل أجواء وظروف الاستعمار والهيمنة والمواقف غير المنصفة من قضايا العرب، وخاصة القضية الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي. على أية حال لم يتمثل الغرب في هذه الصور أووفق هذه الرؤيا بشكل كبير وبارز ناهيك عن قلة الروايات ذاتها التي تعالمت معهما، كما لا نكاد نجد رواية تتبنى، وبوجهة نظر مهيمنة، مثل هذه الرؤيا، بل إن التعبير عنها، أو بتعبير أدق عن الصورة الناتجة عنها تتسلل قليلة باهتة في بعض الأعمال ومن خلال بعض شخصياتها. في الواقع نحس أن غالبية هذه الأعمال لا تشكل هذا الرؤيا والصورة المترتبة عليها (صورة الغرب الحلم) كما تقدمها هدفاً لها بقدر ما أنها تستهدف في مرحلة متقدمة من مساراتها الروائية إظهار خطئها وتسفيه الذي يرسمها من الشخصيات العربية. ولعل هذا ما يبرر لماذا يكون الغرب بشكل حلم أو حلم يقظة أو ما يشبه الحلم، وبما يعني إمكانية انهياره في كل لحظة، كما يأمل مثلاً عم (زينة) لحلم ابنه (مازن) بأمريكا، في رواية سحر خليفة “الميراث”..
“إحكيلك يا زينة معاه كلمة تفيده، يمكن يسمع، يمكن يقنع، يمكن يلاقي بأفكارك فكرة تهديه، يمكن إنْ حكيت عن أمريكا والعيشة هناك والتعب والشقا بأميركا وكيف الأميركان بيشتغلوا هناك زي الآلات يمكن يصحى، يمكن يفيق من أحلامه”(9).
ويبدو أن بعض الروائيين، ومنهم سحر خليفة في روايتها السابقة، وناجي التكريتي في رواية “نورا”، أن يقدموا صوراً عن الغرب تعكس في إيجابيتها موضوعية ما، خاصة حين تكون تلك الصور وفق نظرة أبطالهم العرب، لكي لا يظهر هؤلاء الأبطال في مواقف عداء للغرب ورفضٍ له أو على الأقل عدم رضا مسبق عنه، وهم يجسدون أفكار الكتّاب أو عقائدهم أو رؤاهم السياسية المرتبطة بالعروبة أو القضية الفلسطينية أو الدين. ومن هنا فإننا غالباً ما نجد مثل هذه الصور عن دول غربية غير أمريكا، وحتى هنا فإن هؤلاء الروئيين لا يذهبون بعيداً في مدح الغرب، كما يعبر عن ذلك (البيك) في رواية نفسها إذ يقول:
“بس الألمان دمهم ثقيل، لكن للحق ناس شغّيلين، عمّروا بلادهم بعد الحرب خلال سنوات وصار اقتصادهم في العالم بعد اليابان. هيك الشعوب اللي بتفهم، مش زي حالنا”(10).
هنا يجب أن لا ننسى أنّ عوامل وظروفاً سلبية كثيرة في الوطن، سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، تلعب دوراً فاعلاً في تحول الغرب، وخاصة أمريكا، عند العربي إلى حلم، كما صار بفعل ذلك عند (فيوليت) و(زينة)- الراوية- في الرواية نفسها:
“انتهزَ مازن الفرصة ودخل على الخط:
“الست فيوليت نسيت حالها ونسيت الناس وما بتتذكر إلا أميركا. هاتي لنشوف إيش فيه بأميركا أحسن من هونه؟
“رمقته بغيظ… لكنها الآن لا تأبه، ولن تأبه ، ستبيع الدار والصالون وتهاجر إلى فلوريدا وتعيش مثل الملكة. تروح وتجيء وتسبح وترقص وتغني وتشترك بناد أو فرقة ثم تتزوج وتنجب طفلين أو ثلاثة ويكون لها بيت جميل بحديقة وكراج بريموت كنترول مثل جريس، وتعيش حياة مريحة من غير عقد، من غير صراع، من غير نكد… أميركا قارة. أميركا فيها كل الألوان. أيام الربيع تصيح جنة. زهر التفاح في واشنطن، زهر البنفسج في فرجينيا والكارولاينات، ثم الدافوديلز والأزاليا أصفر، ورق كالريش نشي فوقه كفراش طري ولا نشبع من ألوانه. أيام الشتاء ثلج أبيض، ندف وعواصف رعدية، والدور تشعّ بدفء حول المدفأة ونار الحطب. أين أميركا؟ وبدأت أحن!”(11).
وكثيراً ما يبدو أن الروائيين ينطلقون في تقديم هذه الصورة، من نزعة أو نظرة متعاطفة وإنسانية خالصة تتمثل في عدة جوانب: تعامل الروائي عملياً مع الموضوع ككل، ورسم صورة الغرب ذاتها، والشخصية العربية الحالمة. من ذلك مثلا الإشارة الصغيرة، لكن الجميلة والمعبرة، التي ترد في رواية أخرى لسحر خليفة، هي “مذكرات امرأة غير واقعية”، حين تلتقي بطلتها على طائرة بامرأة ايرلندية فتنقل لنا على لسان البطلة هذا اللقاء بنفس إنساني جميل:
“فقد اكتشفت أني أجلس إلى جانب فنانة آيرلندية تعزف البيانو في قصور الثقافة. ابتسمتُ لها فابتسمتْ لي، خاطبتها واستعنت بما تبقى في الذاكرة من اللغة الغربية. وبلهفة المحروم من دنيا الناس وارتداداً لعالم كنت ما زلت أحمل له كل أشواق التفاح أقبلت عليها. من أنت وماذا تفعلين وكيف تزوجت وكيف طُلّقت وكيف بدأت من جديد؟ عازفة بيانو؟ حرفة أم ولوج الجنة؟ والأجنحة؟ بلى بلى، هتفت باندفاع طفلة وأنا أستمع إليها. أعرف هذا الإحساس، جربته. وبلهاث حكيت وعبّرت وعبرت إليها. وكانت تكبرني بسنوات كثيرة وتجارب تمتد من محيط إلى محيط، وهتفت بشباب أصغر منها بعشرين سنة: بلى بلى. والتقينا.
“ورأتني ساهمة أفكر فربتت على كتفي وابتسمت:
“لشعبينا قصتان متشابهتان. وأنا وأنت متشابهتان.
“صدمتني المقارنة فتلعثمت. تمتمت ويدي على صدري:
“- أنا… أنا.. لا أعرف.
“وعدت أحلم من جديد بالأجنحة والطيران وانفتاح الشرنقة”(12).
وفي مشهد آخر من رواية أخرى، هي “الثلج الأسود” لمحمد أزوقة، نلمح هذه النزعة الإنسانية، ولكن من خلال زاوية أخرى، وفي مشهد مختلف يعبر عن الحب والإخلاص والإنسانية متمثلة كلها في الأمريكي (روبرت) تجاه خطيبته، بالرغم من أنها صارت مقعدة نتيجة حادث سير يقع لها وهي برفقة عشيقها العربي (سعيد):
“استغربَ أن يقرأ في وجه روبرت كمّاً من السعادة والرضى، يبدو أنّ هذا التعس قد حصل على فرصته في الاهتمام بجانيت أخيراً، وتمثيل دور المعين لها، لكنه عاد فعدل عن قسوته تجاه المسكين، فهو يحبها ولم يخطئ في تصرفه بل على العكس، أبدى خلقاً وترفعاً عن الصغائر، وأهم من هذا كله تغلب على كل مشاعر الغيرة واستطاع أن يحضر إلى هنا ليقوم بخدمة جانيت ويقف إلى جانبها”(13).
ومن طريف ما نلاحظه على تقديم بعض الروايات لهذه الصورة، وتعلقاً بكونها تأتي في إيجابيتها على خلاف المتوقع ، أنها تأتي أحياناً متكلفة أو على الأقل مقصودة لغاية ما، كإضفاء الموضوعية على السلبية التي يريد الكتّاب في النتيجة إضفاءها على الغرب والغربيين. ذلك ما يبدو أن محمد أزوقة فعله في روايته “الثلج الأسود”، كما قد يبدو شيء من ذلك في النص السابق. والكاتب، وهو يعمل على أن يبدو موضوعياً حين يُظهر العربي متميّزاً ومتفوقاً على الغربي، يقدم لنا، في مثال آخر، الشخصية الغربية الرئيسة في الرواية المهندسة الأمريكية (جانيت سومرز) وهي تصل مطار عمّان بالشكل الآتي:
“توقفت المحركات وفُتحت الأبواب، بدأ الناس يخرجون من الطائرة، خليط عجيب من العرب والأجانب، الملابس مهرجان من الألوان الزاهية والأنماط المتضاربة… هذا رجل أعمال يرتدي بذلة صيفية فاتحة الألوان وربطة عنق حمراء يحمل حقيبة سامسونايت وكيساً مليئاً بالسيجار والويسكي، وتلك سيدة بدينة تلبس فستاناً أحمر فاقعا ًوتحمل ثلاثة أكياس عليها أسماء المحلات الشهيرة في نيويورك، والأطفال كذلك يحملون نصيبهم من علب الكرتون والأكياس. بقيت جانيت جالسة حتى خف الزحام ثم قامت إلى الخزانة التي فوق رأسها وأخرجت لفائف الخرائــط والرسومات الهندسية وحملت حقيبتها اليدوية الجلدية العتيدة التي ترافقها حيثما ذهبت… [وبعد ذلك] فتحت حقيبة ملابسها الوحيدة أمام الموظف، ابتسم لبساطة محتوياتها، وأشار إليها بإغلاقها والتقدم”(14).
بقي أن صورةً للغرب ترد في بعض الروايات تقترب كثيراً من الصورة الإيجابية، أو على الأقل تبتعد عن أن تكون سلبية، هي قد تميل إلى الحياد مع تمظهر لموضوعية يتبناها الروائي من خلال نظرة بطله العربي إلى الغرب. وهو في ذلك عادة ما يقدم لهذا الغرب صورة العالم القرين. نعني بذلك تحديداً هنا هو أن يُنظَر إلى الغرب على أنه عالم شبيه لعالمنا في الإنسانية، وفي الوقت ذاته هو ليس كعالمنا من حيث امتلاك كل من العالمين خصوصيته. وفي كل الأحوال يُستبعد أن تنطوي هذه الصورة على ما ينم عن تفوق للغرب على العرب إلا ما كان بشكل معقول وموضوعي كالتطور التكنولوجي والعلمي مثلاً، وهذا ينسحب بالفهم والرؤيا على الناس نعني الغربيين. ويستتبع هذا النوع من الصور أو الرؤى موقفاً إيجابياً من اللقاء بالغرب، أو على الأقل مرناً أو موضوعياً أو متجرداً من الموقف مع أو ضد، مع تقبل العلاقة معه أو عدم رفضها. وإذا لم تتميز نظرة الشخصيات في الروايات التي تمثلت هذه الصور أو الرؤيا عن الغرب والغربيين بقصدية، كما في المثال السابق، فإنها تتميز بحيادية وموضوعية، كما أشرنا، خاصة حين يكون وجودها ليس بوصفها غربية بل بوصفها فنياً شخصيات، أو أناساً فحسب ضمن عالم الرواية وأناسها بمعزل عن جنسها أو عنصرها. لهذا غالبية ما تمثلته الروايات من هذا كان ضمن تمثُّل للغرب متكاملاً، نعني بمختلف أوجهه ضمن صورة أو رؤيا عامة واحدة . وممن فعل ذلك، أحلام مستغانمي في “عابر سرير”، وسحر خليفة في “الميراث”، ومحمد أزوقة في “الثلج الحار”. ففي واحد من مشاهد الرواية الأخيرة يصف لنا بطلها أمريكا بعين حرص الكاتب فيها أن تكون عين مشاهد حيادي:
“بعد دقائق من التجوال ، وجد نفسه ينظر إلى الناس بدلاً من البضاعة المعروضة، فالتركيبة في نيويورك خليط فريد من الأعراق والأجناس وحتى اللغات… يمر بك زنجي يجعلك ترتعد من طوله البالغ حوالي المترين، وفي نفس اللحظة يمر في الاتجاه المقابل فيتنامي لا يزيد طوله عن المتر والربع ولا يزن أكثر من ثلاثين كيلوغراماً. أما الملابس فهي أشدّ غرابة من الأشكال… فقد شاهد في هذه الزيارة أكثر من مرة الكثير من النساء والرجال يهرولون في الشوارع، كما أن بعضهم كان يتزلج على السكيت، هذه المرأة تمشي كمن ملكت الدنيا…”(15).
ثانياً: صور الغرب السلبية– الغرب القبيح أو الوحشي والمعتدي. ومن الطبيعي أن تستتبع هذه الصور المواقف الرافضة، وربما المقاومة، أو على الأقل غير المؤيدة للقاء بالغرب. وتكتسب هذه الصور أهمية غير عادية لأنها أصلاً الإفراز الرئيس على أرض الواقع، الذي افترضناه، للقاء الشرق والغرب وما مثله مما سُمّي، في أشد أشكاله صراعاً حضارياً، وفي أخفّها تعارضاً حواراً حضارياً. ويزيد من أهمية هذه الصورة أو الصور، أولاً، هيمنتها على ما قدمته الروايات التي تناولت اللقاء أو استوحته، وثانياً، لأن هذه الروايات هي ضمن أبرز روايات المرحلة التي تدرسها ورقتنا، وثالثاً، لأنها الأكثر إثارة لجدل علاقة الشرق والغرب وموضوعة (نحن والآخر).
لقد كان طبيعياً أن يستحضر وعي الروائي العربي أو لاوعيه وهو يتعامل مع موضوع (نحن والآخر الغربي) الغرب كما عرفه العرب في الغالب معتدياً غازياً وسالباً واستعمارياً، فهذا ما سجله التاريخ، وحفظه الوعي واللاوعي الجمعيان ويراه العرب بشكل أو بآخر الآن. ولهذا فندر أن خلت رواية من الروايات التي تعاملت مع هذا الموضوع من صورة الغرب الاستعماري وما يلازم ذلك من صفات الغرور والهيمنة والسوبرمان، ولعل من أبرز هذه الروايات: “سباق المسافات الطويلة” لعبد الرحمن منيف، و”الرحلة” لرضوى عاشور، و”نورا” لناجي التكريتي، و”الشاهدة والزنجي” لمهدي عيسى الصقر. ووفقاً لرؤيا الروائي هذه ما كان للغربي أن ينظر إلى العرب أو الشرقيين إلا بوصفهم تابعين، أو على الأقل مؤهلين ليكونوا كذلك، إن لم يكونوا شبه أموات. فهذا الإنكليزي (بيتر) في رواية “سباق المسافات الطويلة” يقول:
“هؤلاء الشرقيون ولدوا للموت… إنهم أموات بمعنى معين”(16).
وفي المقابل ليس للغربيين إلا أن يفعلوا أي شيء في سبيل السيطرة على الشرق، يقول (راندلي) لـ(بيتر):
“يا صديقي العزيز… المهمة التي تذهب من أجل تنفيذها كبيرة وخطيرة، وعليها يتوقف مستقبلنا في الشرق. أنت يا بيتر لا تعرف ماذا يعني الشرق، فالثروة ليست كل شيء. صحيح أنها مهمة جداً، لكنها ليست الشيء الوحيد. الشرق هو المستقبل، يجب أن نعترف بذلك، ومن يكسب هذا الشرق يكسب المستقبل”(17).
وإذا ما تمثل الغرب لنا بنفسه بهذا الشكل عبر الشخصيات الغربية في رواية منيف، فإن بطلة رضوى عاشور في “الرحلة” لا تخفي تبنيها لهذه الرؤيا، وتحديداً تجاه أمريكا، مسبّقاً وهي تبدأ رحلتها إلى أمريكا..
“كرفاعة [الطهطاوي] كنت في طريقي إلى بلاد بعيدة عنا غاية الابتعاد، لتحصيل المعارف، ولكني لم أكن مثله ذاهبة بحياد من لا يعرف شيئاً مما هو مقبل عليه، ولا كنت مثل أجيال لحقته من مبعوثين راحوا وعادوا مدلهين ف يعشق الأنوار الإمبريالية”(18).
ومما يبدو لنا موقفاً مسبقاً من الغرب، ممثلاً هنا في أمريكا، تسير الكاتبة ببطلتها في طريق دعم رؤياها هذه عبر التقاطها كل سلبيات الأمريكيين والمجتمع الأمريكي التي تصب في صورتها الإمبريالية بشكل خاص، بل هي بصراحة وبثبات رؤيا، حتى حين تستوقفها مظاهر العمران الهائل والتقدم، تقول في نهاية الرواية:
“أتساءل أحياناً إن كان بمقدوري أن أنظر إلى أمريكا بعين موضوعية. وكيف للملدوغ أن يتحدث بهدوء معملي عن خوص العقربة؟ وأين أذهب بذلك القهر الخاص بإنسان العالم الثالث الذي ازداد حدة باقترابي من تجربة العنف الاستعماري الآثم الذي تأسست فيه التجربة؟”(19). لقد جاء اعتراف الشخصية هذا بتبني هذه الرؤيا بشكل مسبق مقروناً بتوضيح مقنع موضوعياً، لكنه ليس كذلك فنياً لأنه جعلنا نلمح بسهولة سوْق الكاتبة، من خلال بطلتها، لكل الأحداث والحوارات، وبقصدية واضحة، نحو ما يعزز هذه الرؤيا. لكن هذا في الواقع ليس هو السياق الفني في تعامل الروايات عموماً مع موضوعة (لقاء الشرق والغرب) حتى حين ينساق السرد فيها نحو الصفة الاستعمارية للغرب. فذلك يأتي في رواية “عابر سرير” لأحلام مستغانمي مثلاً ضمن السياق السردي لخط الأحداث وبما لا يكون معه مقصوداً لذاته، بل متمشياً مع خط الأحداث، خصوصاً وأن من الطبيعي أن لا ينسى العربي أو الشرقي حين يعيش في الغرب أن هذا الغرب قد استعمره، وربما لا يزال يستعمره، ودون أن يعني هذا انعكاسه هنا على تفكير الشخصية وسلوكها مع الآخر. فيستمع بطل الرواية لـ(فرانسواز)، دليلة معرض فني، وهي تشرح له إحدى اللوحات:
“- هذه رسمها زيّان تخليداً لضحايا مظاهرات 17 أكتوبر 1961، خرجوا في باريس في مظاهرة مسالمة مع عائلاتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروض على الجزائريين، فألقى البوليس بالعشرات منهم مَوْثوقي الأطراف في نهر السين. مات الكثيرون منهم غرقاً، وظلت جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على السين لعدة أيام، لكون معظمهم لا يعرف السباحة…
“فقدتُ صوتي فجأة أمام تلك اللوحة التي ما عادت مساحة لفظّ نزاعات الألوان، بل مساحة لفظ نزاعات التاريخ”(20).
ويتخطى استحضار الروائي للآخر الاستعماري المتحقق على أرض الواقع إلى تخيُّل استعمار أو احتلال لم يحدث حقيقةً، كما فعل تحديداً مهدي عيسى الصقر في روايته “الشاهدة والزنجي”، حين تخيّل، في ما يشبه النبوءة بما نراه اليوم، احتلالاً أمريكياً للعراق بعد الحرب العالمية الثانية لم يحدث حقيقةً. يأخذ الكاتب من هذا الوجود الأمريكي المتخيّل مشاهدَ تحقيق كولونيل أمريكي مع فتاة عراقية شاهدت، وهي في وضع شائن، قتلَ عسكري أمريكي لزميل له. يقدّم لنا الروائي المظهر الخارجي للأمريكي تبدأ صورة القبح ترتسم تدريجياً وتحديداً من أول مقابلة تحقيق بين الأمريكي والعراقية، ومعها ترتسم علاقة غير متوازنة بالطبع، ولنا أن نستقرئ من ذلك الكثير من الدلالات:
“- سو.. ذسّ إز ذا بيج.
“لم تفهم كلماته، لكنها أدركت من نبرة صوته أنه قال شيئاً رديئاً عنها، [الأمر الذي يحيّر الفتاة العراقية] لم تكن تدري ما الذي كان يريده منها، ولكنها أدركت على الفور أن الرجل يكرهها، وأن مصيرها كله معلق بكلمة منه”(21). وتتوقف الفتاة، كما نتوقف نحن معها، أمام العسكريين القساة الذين يكون عليها أن تجد بينهم القاتل، لتتساءل ماذا يمكن أن يحدث لها لو أن “عشرات من الجنود الأمريكيين، سوداً وبيضاً، كانوا سيزحفون عليها، مثل أسراب النمل، من ثكناتهم في الصحراء؟”(22). ومن الطريف أن الجواب على تساؤل الفتاة والروائي، ونحن معهما، يأتي اليوم حين يزحف الأمريكيون نحو العراق والعراقيين، ليفعلوا ما لم يعرف العرب مثيلاً له غير ما فعله ويفعله الصهاينة بالفلسطينيين.
من خلال التقابل الذي نراه في كل زيارة من زيارات (نجاة) إلى المعسكر للتحقيق بين صورة المرأة، في بساطتها وضعفها وخوفها، والكولونيل الأمريكي المشرف على التحقيق، في سطوته وعنجهيته وقسوته، يتحقق ما نرى أنه أهم ما أرادت الرواية أن تقوله لنا. إنه سقوط إحدى هاتين الشخصيتين، نعني شخصية الضابط الأمريكي بكل ما تمثله، وسمو الشخصية الأخرى، نعني شخصية (نجاة) بكل ما تمثله. هي ثنائية المرأة الحالمة والعالم القبيح.. وهي ثنائية القوي ظاهرياً المنحدر حقيقة من جهة، والضعيف ظاهراً السامي جوهراً من جهة مقابلة. فأنت لا تستطيع وأنت تتابع البطلة في مثل هذه المواقف، المكررة مع أبعاد أكثر ولكن مع ترسيخ للجوهر الذي تريد، إلا أن تتعاطف مع الفتاة متجاوزاً طيشها، لأنك تبدأ تنظر إلى الجوهر الذي إن فقده الإنسان، كما يفقده الكولونيل الأمريكي، فقد إنسانيته. وهي لم تفقد شيئاً من ذلك، بل إن جوهرها لم يُمسّ، وهو يتمثل في كل ما تأتي به، خاصة في محاولات تعرفها على القاتل، وما تفكر فيه حول ذلك وحول كل شيء، لنصل إلى أنْ لا تحس أن هناك خطيئة ارتكبتها، بل ارتُكبت في حقها، خاصة حين يكون في مقدورها الخلاص من مأزقها بالإشارة إلى أي من العسكريين الأمريكيين الذين يُعرضون عليها لتقول إنه القاتل، فتأبى. وفي مقابل ذلك يبدو الكولونيل الأمريكي فاقداً لذلك الجوهر، فلا نرى فيه إلا القسوة والسطوة والعنجهية.
لعل من الطبيعي أن تشتمل الصورة أو الصور التي قدمتها الرواية العربية للغرب وما استتبعته من مواقف، وهي تنطلق غالباً من وعي بما مثّله هذا الغرب في التاريخ القريب وربما لا يزال، من استعمار، على ملامح التعالي والرغبة في الهيمنة، بل على العنصرية أحياناً. ويبدو أن ما عزز هذا الملمح أو صورة الغرب العنصري هذه هو ما لاقاة ويلاقيه اليوم العرب والشرقيون المهاجرون إلى أمريكا والبلدان الأوربية. ومن أكثر الروايات التي بين أيدينا رسماً لصورة الغرب العنصري “الرحلة” لرضوى عاشور، و”رقص على الماء” لمحمود البياتي. فالمهاجرون الشرقيون عموماً في رواية البياتي يُوضعون ابتداءً في مجمعات سكنية معزولة عن مجمعات المواطنين وأحيائهم السكنية، ومع أن هذا يرسخ لدى المهاجر من البداية بالتمييز، فإن التعامل الذي لا بد منه مع مواطني البلد المضيف يرسخ لا هذا التمييز فحسب بل العنصرية التي يتبناها الكثير منهم ، وكما يلاقيها بطل الرواية في أكثر من مناسبة، وهي عنصرية نتجر على العرب والشرق والإسلام وكل ما يتعلق بنا وتُترجم أفعالاً معادية أحياناً ، وحوارات أحياناً أخرى:
“- أنتم إرهابيون، أعنف أمة، تاريخكم ملطخ بالدماء منذ ظهر محمد هذا في الجزيرة العربية.
“…
“أوشكت أن أسعل لكنني استطعت أن أضيف:
“- نبينا قال : لئن تزول السماوات والأرض أهون على الله من قطرة دم تُسفك.
“… سألني العبوس بصوت مرتفع:
“- ألا تعتقد أن المهاجرين أمثالك يشكلون خطراً على ديمقراطيتنا ؟”(23).
ومن الواضح أن هذا كله، استعمارية الغرب وعنصريته وكره العرب والانحياز إلى اليهود والصهاينة، قد قاد إلى الموقف الغربي، وخاصة الأمريكي، السلبي من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وهو الموقف الذي قلما نجد رواية من الروايات التي تناولت موضوع الشرق والغرب لم يتجسد فيها. وكان غالبية ذلك عبر نقاشات وجدل بين أبطال الروايات أو شخصياتها العربية وغربيين (24).
كانت صورة الغرب والغربيين، كما بدت وفق القسم الأول، نعني الصورة الإيجابية، خاصة كما تبدو للعربي، تستتبع بالضرورة كما أشرنا رغبة العرب في العلاقة به أو على الأقل عدم رفضها. أما كل ما استعرضناه وأوجزناه هنا من صور سلبية لهذا الغرب، خاصة في علاقته بالشرق والإسلام والعرب، فإنه يستتبع عدم إمكانية إقامة علاقة مع الآخر الغربي، وهو ما تمثل في الروايات بشكل صريح أحياناً، وبشكل ضمني أو غير مباشر أو رمزي أحياناً أخرى. أما أبرز ما عبر عن ذلك، في الروايات العربية التي قدمت ذلك، فقد كان من خلال إخفاق علاقات الرجل العربي والمرأة الغربية، وأحياناً محاولات زواج العربي أو زواجه فعلاً من غربية. جسدت ذلك مثلاً علاقة سعيد، بطل رواية “الثلج الأسود”، بالأمريكية جانيت سومرز التي انتهت بحادث مروري أقعد جانيت وعودتها إلى صديقها الأمريكي، ووضع الحياة العائلية غير السوية لأبي زينة، بطلة “الميراث”، مع أمها الأمريكية، والوضع العائلي المضطرب وعدم الانسجام بين الأب العراقي والأم الإنكليزية لبطلة “كم بدت السماء قريبة” وانتهاء العائلة بالطلاق، وفشل البطلة نفسها في علاقتها بانكليزي. هنا يبرز السؤال الآتي المثار ضمنياً على امتداد الورقة: هل يمكن للقاء العرب بالغرب أن ينجح، في ضوء صور الغرب وما استتبعته من نظرة العرب إليه كما قدمتها الرواية العربية المعاصرة؟ نعتقد من المنطقي ابتداءً، وقد تعاملنا مع روايات، أن نبحث عن الجواب المعقول وفقاً لذلك في الأعمال الروائية نفسها . وهذا في والواقع ما نعتقد أن رواية بالتحديد قد قدمته وافياً ، وهي رواية ميسلون هادي “الحدود البرية” ، كما سنعرض ذلك في خاتمة ورقتنا.
نرى مما سبق غلبةً واضحةً للجوانب السلبية على مجمل الصورة أو الصور المستنبطة من الروايات عن الآخر الغربي، وخاصة الأمريكي، الأمر الذي يستدعي السؤال البسيط: لماذا؟ نقول: إذا ما افترضنا خصوصاً أن هذه النظرة أو الرؤيا تمثل نظرة العربي أو رؤياه عن الغربي على أرض الواقع، فإن الإجابة على هذا ربما تحتاج إلى دراسة أو دراسات أدبية وفكرية وسياسية واجتماعية. ولكن لا بأس في أن نطرح افتراضات يشكل بعضها وجهات نظر نتبناها. أول هذه الافتراضات عبرّتْ عنه الروايات المدروسة نفسها، وهو أن هناك صراعاً، ربما كان حضارياً أو تنافسياً أو استعمارياً… الخ، لا يخبو أو، على الأقل، لا يختفي في كل لقاء بين الشرق أو العرب والغرب. ويبدو هذا الصراع صريحاً أحيانا، وضمنياً أو مقنّعاً بأقنعة مختلفة– إن صح التعبير- أحياناً أخرى، كما قد يبدو صراعاً على وشك التفجر أحياناً ثالثة.
أما لماذا تلك الجوانب الإيجابية– على تواضعها- التي تظهر في الرواية على الغرب والغربيين عموماً، في ظل ما يبرر على أرض الواقع ظهور الجوانب السلبية؟ فنعتقد أنه يعود إلى عوامل أو أسباب ثلاثة: فني، وواقعي، وذاتي. أما الفني فهو سعي الكتّاب إلى أن يكونوا موضوعيين فنياً في تعاملهم مع موضوع شائك إلى حد ما وفي رسمهم لشخصياتهم الروائية، ونحن نعرف أن الشخصية في الرواية لا يمكن أن تكون ذات وجه واحد، فلا يمكن أن تكون مطلقة السلبية ولا مطلقة الإيجابية، ولا تكون شريرة، ولا خّيرة بشكل مطلق . أما السبب الواقعي فيتمثل في طبيعة الواقع من حولنا بشكل عام والواقع المتحقق الذي يعرفه جميعنا للعلاقة بالآخر بشكل خاص، وهي العلاقة التي قدمت لنا هذا الآخر بأشكال مختلفة لا بشكل واحد. أما السبب أو العامل الذاتي فهو ما فرضته تجارب الكتّاب الحقيقية مع غربيين عرفوهم وعايشوهم أو ارتبطوا معهم بعلاقات مختلفة إذ وجدوا بينهم بلا شك أناساً عاديين. فتعلقاً بهذا السبب الأخير بشكل خاص، لقد أن عرفنا أن غالبية الكتابات قد جاءت ثمار مثل هذه التجارب، كما “يعلم كلٌّ منا أن الروائي يبني أشخاصه، شاء أم أبى، علم ذلك أم جهله، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة، وأن أبطاله ما هم إلاّ أقنعة يروي من ورائها قصته، ويحلم من خلالها بنفسه”(25). ذلك في الواقع وضع الروائي، كما وضع الكثير من المثقفين العرب في إشكالية معرفة الغربي، والأمريكي بشكل خاص عبر التماس الحقيقي معه إنساناً يرتبط به كما يرتبط بأي إنسان آخر في مجتمعه، وبالتالي فهو فهو يتقبله بروح إنسانية ويتقبل الاندماج معه، وإلى جانب ذلك معرفة الفعل الغربي، وخاصة الأمريكي غير الودي، بل غالباً المعادي على المستوى السياسي مما يفرض عليه رفض هذا الغربي. ولعل رواية “الحدود البرية” لميسلون هادي تقدم حلاً حضارياً وإنسانياً يفك اشتباكات هذه الإشكالية حين لا تضع العلاقة بالآخر في سلة واحدة، كما يفعل الكثيرون في الفن وفي الواقع، وذلك من خلال تعبيرها عن الموقف عبر مسيرة بطلها (خالد) ذات الأبعاد المعبرة المتعددة. وأهمية الرؤيا التي عبرت عنها هذه الرواية أنها جاءت في مستوياتها المختلفة في عمل واحد، ومن خلال تجربة شخصية روائية واحدة معبرة. فخالد، أولاً، يتقبل العلاقة بالآخر حين يهاجر إلى هذا الآخر بحثاً عن خلاص من أزمته في الوطن، حتى وإن كان مضطراً شأنه شأن معظم المهاجرين العرب، فـ”بدلاً من أن يعود من مستشفى الرمادي إلى بغداد كما أوحى لـ(بيان) في مكالمته الأخيرة لها من المستشفى، فإنه قرر، في لحظة قدرية أخرى، عبور الشارع إلى ضفته الأخرى لكي يتبع الأمر الذي عزم عليه من البداية، ويواصل طريقه في الاتجاه الآخر”(26) وهو، ثانياً، يقبل الاندماج بهذا الآخر حين يتزوج من أمريكية، “قالت له: دعك من البحث… دعك من هذا، وتعال معي إلى أمريكا… فطلب منها الزواج وذهب معها إلى هناك وتعهد بأن يصبح مواطناً صالحاً وأن ينظر، وهو ينتظر الكارت الأخضر، إلى الدنيا بعين واحدة”(27). ولكنه، ثالثاً، لا يتقبل هذا الاندماج حين يكون عبر مصادرة الـ(أنا) أو الـ(نحن) حين صادرته زوجته بتلبسها لبوس الممتلك له “فأصبح خارجها [خارج الصحراء العربية] عظاية تعرضها أنستازيا [زوجته الأمريكية] للرائح والغادي من أصدقائها حتى ملّت وكفّت عن الزهو بملكيتها لأثر من آثار الصحراء البعيدة”(28). ولذا ما كان لهذا الزواج، رابعاً، إلا أن يثمر مسخاً أو موتاً، “ابنته التي ولدت بلا أرجل ولا أيد”(29). وهكذا يرفض كل هذا الدمج غير الطبيعي، فيطلّق زوجته ويعود إلى الوطن. ومقابل قبوله لأشكال أخرى من اللقاء بالآخر، يتعزز رفضه من جهة أخرى برفض ضمني حين يجد الوطن، بغداد، في ظل الآخر ممثلاً بالأمريكي المحتل غير الوطن الذي يعرفه: ” يا إلهي!.. ما هذه الفوضى! .. ما هذا الدخان!؟.. إنها [بغداد] أكثر خراباً من أي وقت مضى”(30).
خاتمـــة
والآن، وبعد أن تعرفنا على أشكال اللقاء بين الشرق والغرب وما طرحته من رؤى عن الغرب وعن اللقاء به في الروايات التي درسناها، هل يحق لنا أن نسقط ما رأيناه فيها على واقع لقاء العرب والغرب وما ينفرز عنه، لتكون رؤى الروايات هي بدرجة ما رؤى الواقع؟ إن هذا، في الواقع، يحيلنا إلى تساؤل أوسع أو أشمل وأسبق، وهو هل يحق لنا مقابلة عوالم الرواية بما تشتمل عليه من شخصيات وأفكار ومواقف بعالم الواقع بأناسه وأفكارهم ومواقفهم؟ بل هل يحق لنا مقابلة المجتمع المتخيل للعمل الفني أو الأدبي بالمجتمع الحقيقي؟ نعتقد أننا إذا أردنا الموقف النقدي الخالص، وإذا أردنا جواباً نقدياً خالصاً على سؤالنا، فإن هذا الإسقاط لا يكون أمراً صائباً غالباً، مع أنه لا يخلو من المشروعية، خاصة إذا ما تخطينا– كما فعل النقد فعلاً ذلك– القول بأن العمل الفني إنما هو انعكاس للواقع. ولكن في موقفنا هنا، حيث انطلاق الروائيين غالباً من الواقع بل أحياناً من تجاربهم الذاتية، يتسع هامش المشروعية الذي أشرنا إليه، بل يكون مبرراً تماماً فعل ذلك، خصوصاً ونحن نتعامل ضمن ما نتعامل معه في هذه الروايات مع شخصياتها بشكل خاص، وهي شخصيات نفترض أن تكون بدرجة أو بأخرى، ومهما ابتعد المتخيل عن المبدع في ظل تحييد حضور المؤلف أو تغييبه، والذي هو- نعني المؤلف– بدوره وبدرجة أو بأخرى من أناس المجتمع الذي ينتمي إليهم، وهم هنا العرب بالطبع. وهكذا وانطلاقاً من تبنّينا لهذا الموقف، لا بد أن تعبر المواقف والرؤى التي تنطوي عليها الروايات عن مواقف العرب ورؤاهم، على الأقل جزئياً.
يبقى لنا بعد هذا كله أن نتساءل مرة أخرى، ولكن بشكل آخر قد يكون أكثر صراحة: هل تقدم الروايات التي درسناها ومضامينها، واللقاءات بين الشرق أو العرب والغرب، كما قدمتها، لقاء الشرق والغرب والمواقف منه حقيقة؟ هنا لا نميل إلى الإجابة على هذا السؤال، بل نترك ذلك للقارئ وقد عرف الروايات وعرف طروحاتنا وافتراضاتنا، وخاصة أن كل ما نخرج به، لا من دراسة روايات تعاملت مع واقع ما فحسب بل من أي عمل أدبي، لا يعني بالضرورة صحيحاً أو متفقاً مع ما يخرج به الآخرون.
الهوامش والمصادر:
1.انظر تفصيل هذه العوامل في دراستنا “صورة الأمريكي في الرواية العربية في العراق وبلاد الشام”، في: العلاقات العربية– الأمريكية نحو مستقبل مشرق، تحرير د. سامي عبدالله خصاونة، الجامعة الأمريكية، عمّان، 2001، ص 52– 53.
2.هنا نستغرب إشارة أحد الباحثين، هو الدكتور معجب الزهراني حين يقول وهو يقدم لتناوله صورة الغرب في الرواية العربية: “رأيت التركيز في هذه المقاربة على صورة الآخر الغربي من منظور جديد ومختلف عما تعودنا عليه ونحن نقرأ ونعمل، بوعي أو بدون وعي، على محو الاختلافات والخصوصيات لصالح التشابهات والعموميات”. مجموعة: أفق التحولات في الرواية العربية.. دراسات وشهادات ، دار الفنون / مؤسسة عبد الحميد شومان، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، 1999، ص 58– 59.
3.نزيه أبو نضال: المثقفون العرب والغرب، 1- صدمة (العصفور الشرقي) توفيق الحكيم، جريدة الدستور، عمان، 1/10/1999؛ وانظر: رجاء عيد، مصدر سابق، ص57-76.
4.عيسى العبادي: الرواية الأردنية 1967- 1990، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الآداب بالجامعة الأردنية، عمان، 1994، ص 34.
5.انظر للباحث: “صورة الأمريكي في الرواية العربية”، مصدر سابق ، ص54.
6.عيسى العبادي: مصدر سابق.
7.المصدر السابق.
8.مجموعة كتّاب، مصدر سابق، ص11.
9.سحر خليفة: الميراث، دار الآداب، دار الآداب، بيروت، 1997، ص 93.
10.الرواية، ص 143.
11.الرواية، ص256- 257.
12.سحر خليفة: مذكرات امرأة غير واقعية، دار الآداب، بيروت، ط2، 1992، ص 82– 83.
13.محمد أزوقة: الثلج الأسود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992، ص296.
14.الرواية، ص 5- 6 .
15.الرواية، ص 119- 120.
16.عبد الرحمن منيف: سباق المسافات الطويلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر– بيروت والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع– عمان، ط 8، 2000، ص 95.
17.الرواية ، ص220.
18.رضوى عاشور: الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أميركا، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 3، 1987، ص6.
19.الرواية، ص 168.
20.أحلام مستغانمي: عابر سبيل، منشورات أحلام مستغانمي، بيروت، ط 8، 2003، ص58- 59.
21.الرواية، ص26.
22.الرواية، ص94.
23.محمود البياتي: رقص على الماء.. أحلام وعرة، الوكالة الدولية للإعلام ، 2002، ص85؛ وانظر ص49- 51، 81- 89؛ وانظر أيضاً: الثلج الأسود، مصدر سابق، ص105، و سباق المسافات الطويلة، مصدر سابق، ص 134.
24.انظر: الرحلة، مصدر سابق، ص31؛ و وتشرق غرباً، مصدر سابق، ص77؛ والثلج الأسود، مصدر سابق، ص137، 235، 265.
25.ميشال بوتور: بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، 1978، ص64.
26.ميسلون هادي، الحدود البرية، مصدر سابق، ص131.
27.الرواية.
28.الرواية، ص 25.
29.الرواية، ص 124- 125.
30.الرواية، ص141.