ميسلون هادي، سعيدة هانم

أنا وأنا الأخرى في رواية ميسلون هادي
“سعيدة هانم ويوم غدٍ من السنة الماضية”

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
أجدني، في هذا القراءة، أُخالف كل قراءاتي النصية الأخرى، خصوصاً التي أكتبها عن أعمال سردية، رواياتٍ وقصصاً قصيرة، فأدخل الموضوع من بعض استنتاجاتي النهائية، فأقول إن تجربة ميسلون هادي، في كتابة روايتها “سعيدة هانم ويوم غدٍ من السنة الماضية”- المؤسسة العربية، بيروت، 2015- تفعل أمرين قد يبدوان متناقضين. أولهما أنها تحافظ على أحد ملازمات تجربتها الإبداعية، كما تتمثل في غالبية أعمالها القصصية والروائية وهو اعتمادها الكبير لبنية الوهم والإيهام. وثانيهما أنها تخرج عن مسار تجربتها هذه حين تقدم عملاً يكتنفه غموض ربما مربك ولا يزول حتى مراحل متأخرة من الرواية، وهو الأمر الذي قد يعني أن الرواية تحتاج إلى قراءتين إنْ إردنا تحقيق تلقًّ مُرضٍ لها.
والآن، في العودة من النهاية إلى البداية، نجد أنفسنا قبل دخول النص، أمام عتبة خاصة إليه تتمثل في اقتباس للشاعر الأسباني خوان رامون خيمينيث (1881-1958)، ويكتسب دلالة نحس شيئاً منها ستثبت صحتها في قراءة الرواية، وفيه يقول:
“أنا لست أنا. أنا هذا الواحد السائر بجنبي الذي لا أراه، الذي أحياناً أستطيع أن أزوره، وأحياناً أنساه؛ الواحد الذي يبقى صامتاً بينما أتكلم، الواحد الذي يسامح بلطف عندما أكره، الواحد الذي يتمشّى عندما أكون في البيت، الواحد الذي يبقى واقفاً على قدميه حين أموت.”- الرواية، ص5.
لم يكن وصف بعض النقاد، ونحن منهم، تجربة (الوهم والإيهام) عند ميسلون هادي بالبنية اعتباطياً، بل هو يأتي من وعي هؤلاء النقاد، ومع إدراكهم بأنها ثيمة أيضاً، بأنها بنية تقوم عليها الكثير من قصص ميسلون هادي ورواياتها. وهي بنية ترتبط، ثيمياً، في الرواية التي بين أيدينا، بأحداث العمل ومساره، ولهذا لا نُفاجأ حين يأتي موضوع الرواية وقضيتها، كما سنأتي إليهما بعد قليل، مقرونَيْن بتجربة فنية غريبة ولكنها جميلة وفريده، حين تبدو الرواية أول وهلة محكية بضمير الغائب، ثم سرعان من تبدأ الظاهرة الغريبة، مؤقتاً على الأقل، متمثّلة بازدواجية استخدام ضميرَي الغائب والمتكلم متداخلين ليبدو هذا الاستخدام مُربكاً ومحيّراً، مؤقتاً مرة أخرى، بل هو، حتى بعد انكشاف أنه متعمّد ومبرَّر في مكان متأخر من الرواية، قد لا يُرضي بعض القرّاء، خصوصا حين يكون التداخل بين أنا (سعيدة هانم) وأنا (مليكة جان) الشخصيتين الرئيستين في من جهة، وبينهما وبين ضمير الغائب من جهة أخرى، وبما قد يبدو وكأنه خطأ تقني، إلى أن ينكشف لنا أن هناك سبباً موضوعياً وراءه يتعلق ببنية الرواية وخط أحداثها وشخصيتيْها، وهو أن (سعيدة) و(مليكة) شخصية واحدة.

( 2 )
والرواية هي تَمثّلٌ، من زاوية ما، لعوالم المرأة في ظرف وأجواء غير عادية وغير طبيعية، ولاسيما في علاقتها بالرجال، وبالماحول عموماً الذي مكوّنه الرئيس، ونحن نتوقعه شرقياً، الرجل. وفي الكثير من أوصاف (سعيدة) و(مليكة) وتصرفاتهما تناقضٌ وعدمُ التقاءٍ سيبرره انكشاف أنهما فتاة واحدة تعيش (ازدواج الشخصية)، الذي نتيجة له تقوم الشخصية بتصرف متناقض. وإذا كان هذا التصرّف المتناقض “يصدر عن شخص معيّن نتيجة لوجود مفهومين متناقضين كحالة تكيفيّة لظرفين متباينين تقتضيهما الحالة الإجتماعيّة”، فإن هناك عدة إشارات إلى أنه، في رواية (سعيدة هانم) يأتي نتيجة الظرف والماحول عموماً. وهذا يعني عادةً ووفقَ حالة أو مرض (ازدواج الشخصية) أنْ تأتي شخصيّتا الرواية متناقضتين وربما متعاديتين أحياناً. فـ(مليكة) تكره الخروج من البيت إلا لإيصال أختها، لاسيما ليلاً وحينها لا تكون على ما يرام، بينما تصير في حال أفضل نهاراً، وهي “لا تحب أن تكون مرئية من آخرين”، ولا تحتمل وجود الناس. هي كثيرة الشكوى، ولا تحب السياسة والتأريخ. في مقابل هذا كله هي تحب الغناء والرقص، والأكثر الرسم فتنغمس فيه، ولكنْ لأنها عموماً غريبة وربما غير سوية، فإنها حتى في لوحاتها التي ترسمها ليست طبيعية، فترسم مخلوقات غير مألوفة وملابس كأنها أشخاص، لكنها بدونهم، والأشخاص الذين تعرفهم أو تراهم في الواقع يتحولون في لوحاتها إلى حيوانات.
وإذا ما كانت (مليكة جان) في طفولتها تحب (فنسنت)، فإن (سعيدة هانم)، كانت تخافه، ولكن فيما عدا هذا وما يعنيه، كونه ليس طبيعياً كما نعلم، هي طبيعية، فلا تخاف الخروج ولا الناس، بل هي تخرج بومياً لأنها مدرسة للغة العربية. وهي، بعكس (مليكة)، تحب السياسة والتاريخ. هي إذن منفتحة، كما أنها تحب العمل والفعل.
وإذا ما قبِلنا القول بحاجة الرواية إلى قراءتين، فإن دخول القارئ، إلى بعض مفاصلها، في القراءة الثانية، لن يكون مثل دخوله إليها في القراءة الأولى، فيفهم في الثانية ما قد لا يفهمه في الأولى، ومن ذلك التداخل ما بين الشخصيتين وما بين ضمائر الحكي. كما يكون الأمر حين نقرأ في الآتي المروي من (سعيدة):
“استمرت الشمس في الغروب، وتركت في السماء الحمرة مع اللون الوردي والذهب… وعلى الرغم من أن الأشجار اختفت عن الأنظار هي وظلها، فمن الواضح أنها كانت موجودة في خيال مليكة جان، وإذا كنتُ أنا لا أراها فأكيد أنها موجودة هناك وستبقى هناك… رفعتُ عيني عن الدفاتر إليها، وسرحت بعيداً لأجدها تمسك يدي بقوه بين صفوف الطالبات في المدرسة، نجلس في زاوية من زوايا المدرسة لنتناول طعامنا، ثم كبرتُ لأجدها أذكى مني وتتعلم كل شيء قبلي.. من الرسم إلى السياقة إلى السباحة، ولكني كنت أجرأ منها في الخروج مع صديقاتي إلى الأسواق والمطاعم…”- الرواية، ص51.
فلا يكون هذا الفهم في القراءة الأولى، ولكنه يبدأ بإحساس بأن شيئاً ما غير طبيعي يجري، ليأتي فهمٌ أولي في موقع متأخر من الرواية، لكنه لن يكون مفاجئاً في كل الأحوال حين ينكشف أن الأختين شخصية واحدة هي (سعيدة):
“سقطتْ مليكة جان من السطح وأصبحت موجودة على مقربة منه، ولكن أخي سليمان بيك لم يرها ولا شعر بوجودها على الأرض… لم يتمكن من النظر إلى مليكة جان التي سقطت ممددة على أرض الحديقة، لأنه لم يرها أصلاً.”- الرواية، ص170.
ثم يتم الإفصاح عن الأمر بشكل صريح في الصفحات الأخيرة من الرواية:
“أنا أعلم جيداً أن مليكة جان ميتة، بل غير موجودة بالأساس، إلا من خلال أفكاري… في لحظة أكون سعيدة بهذا الواقع من خلال السبورات والدفاتر وضوضاء الطالبات، وفي اللحظة الأخرى لا يعني شيئاً بالنسبة لي على الإطلاق، وأمسخه في اللوحات التي أرسمها.”- الرواية، ص176.

( 3 )
تمشياً مع علم النفس وتشخيصاته للاختلالات النفسية، ومع المنهج النفسي، في قراءة العمل الإبداعي الذي يقدم شخصيات مصابة بها، كان للفلاش باك حضور مهم وفاعل، كونَ جلِّ مسببات هذه الأمراض والاختلالات والأعراض النفسية ترجع إلى الماضي والتجربة والواقع، من طفولة وصِبا، مما يعني أن علاج مثل هكذا شخصية سايكولوجياً على أرض الواقع، وفهمها قرائياً ونقدياً في الإبداع، لا تتمّان إلا بالرجوع إلى ذلك الماضي. ولهذا فكل شيء تعبّر عنه الرواية من خلال الشخصية/ الشخصيتين هو من إفرازات الواقع غير العادي، هو واقع بغداد والعراق. وإذا لم يحضر هذا الواقع واضحاً أو مباشراً، فواضحُ أنه وراء هجرة الأخ (سليمان بيك) إلى كندا وتركه لأخته وحدها ليزيد عليها المأساة مأساةً، حتى قبل أن تتحول بالنسبة له إلى عبء بسبب وجودها في بيتهما الذي يريد أن يبيعه، فينشغل بمحاوله تزويجها، ليتخلص من عبئها. كما أن هذا الواقع سيحضر صريحاً في فصل متأخر متمثّلاً بسقوط قذيفة هاون على غرفة (مليكة) أو (سعيدة). ولتعبّر الرواية عن استمرار المأساة العراقية المترجَمة، في مسارها، في ازدواج شخصية البطلة، تصنع من حجارة الانفجار تمثالاً لمسخ، لتعبّر به لأخيها عن الكثير مما لم تنطق به له صراحةً:
“لم يبق من تلك الحجارة شيء على ممر الحديقة.. تحوّلت إلى جسم غريب الملامح يشبه جسم رجل… فجعلته على شكل عمود بعين واحدة وإذن واحدة ورِجْل واحدة تنبثق من بطنه يد معقوفة من جهة المرفق تحمل قنينة الرضاعة الملوثة التي تركتْها فاتن [جيرانهم] في بيتنا. جفل سليمان بك بشدة عندما دخل البيت ورآه أول مرة… فشعر وكأنه جاثم فوق أنفاسه.. لم تكن مليكة جان تظهر للعيان عندما يأتي أخي سليمان بك.. فهي متعبة ومعذبة دائماً، ويستبد بها الرفض للقائه كلما حضر. ولكنها الآن ممدة بيننا على الحشيش وأخونا العزيز سليمان بك لا يراها ولا يعرف عنها شيئاً.”- الرواية، ص173.
ومع حضور المأساة العامة، المتمثلة في واقع العراقيين، والمأساة الخاصة المتمثلة في أزمة البطلة، لا تجد ميسلون هادي أنسب من أسلوب السخرية السوداء، الذي بدأته من قبل في رواية “حفيد البي بي سي”، ثم عزّزته في رواية “أجمل حكاية في العالم”، ليصير هنا أسلوبَ كتابةٍ. ومن الدراما الساخرة، ولكنْ الدالة، أن يصير النعال (المداس)، على سبيل المثال، دالاً، وعلامة بين (سليمان بك) وأخته (سعيد هانم)، كما حين يقول لها:
“نيالكم تكدرون تسافرون وتشترون نعالات لاستيك… آني منا لهنا ما أكدر أسافر، لأن ما عندي فلوس حتى اشتري نعال.”- الرواية، ص123.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *