ميسلون هادي، الشخص الثالث

المجهول واحتمالات التأويل في
قصص ميسـلون هـادي
دراسة تحليلية لمجموعة”الشخص الثالث”
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
(1)
ليس جديداً أن نقول إن القاصة الروائية ميسلون هادي تكتب قصصها ورواياتها ، وأحاسيس صادقة بشكل واضح ، هادئة أحياناً وعاتية أحياناً أخرى ، تتماوج في أعماقها . وهذا ليس قبل الشروع بالكتابة ، أعني والكاتبة تعيش أو تشهد التجربة فحسب ، بل أثناء عملية الكتابة أيضاً كما يمكن لنا أن نرصدها ونحن نقرأ قصصها ورواياتها (1) . بعبارة أخرى أن القاصة ممتلئة بعواطف وانفعالات هي بالتأكيد من عُدد الكاتب الرئيسة التي تمنح قصصه الحياة ، وهو الأمر الذي يفتقده غير قليل من الكتّاب . ولا نحسّه بهذا في أعمال الكاتبة الأخيرة فحسب حيث ثراء التجربة الحياتية التي ليس من الغريب بالطبع أن تمتلئ بمثل هذه العواطف والانفعالات ، والتمرس ووضع اليد على مكامن التجربة والكتابة كما يجب أن يكونا ، بل على امتداد التجربة الإبداعية لها بدءاً بمجموعتها الأولى “الشخص الثالث” ، ومن هنا يأتي في الواقع المبرر الرئيس لدراستنا القصيرة عن هذه المجموعة تحديداً(2).
ابتداءً يبدو أن هذا التشخيص الذي نجتهد فيه في ضوء ما تتركه قصص المجموعة فينا هو وراء الرومانسية الممتزجة بالواقعية التي يمكن ملاحظتها في معظم قصص المجموعة ، كما هو واضح تماماً في “الطمأنينة” و”البيت” مثلاً . إلا أن القاصة لم تحلّق ضمن رومانسيتها هذه في أجواء الخيال الجامح الذي كثيراً ما يصير هو عالم القصص الرومانسية ، ولم تته في مفردات الطبيعة المنفصلة عن الحياة المتحركة ضمن واقعيتها ، كما يفعل الرومانسيون ، بل هي استعارت بعض مفردات ذلك وملامحه لإضفائه على القصة . ربما من هنا برزت ظاهرة الأصوات والألوان والروائح والأضواء عناصر داعمة لموضوع القصة ولسير حدثها أو أحداثها. والواقع أن القاصة ، إذا كانت قد نجحت في استخدام هذه العناصر بذكاء وحرفية توظيف فني في عموم المجموعة ، فإنها قد استخدمتها في بعض القصص وسائل إيصال وتأثير يبدو ضرورياً لها إضافة إلى إسهامها تقنياً ودرامياً في تشييد القصة وصياغتها ، كما يتمثل ذلك بشكل خاص في انطلاق كابوس قصة “الطاحونة” للبطلة من الضوء الذي “يذكّر بالظلمة أكثر مما يبددها” – ص 31 – ليبقى في نهاية القصة كعلامة استفهام لنا وللبطلة ، حين”غابت تحت رداء الليل” – ص 35 .
ويقترب الأمر في قصة “الشخص الثالث” حيث يولِد الصوتُ الحدثَ .. “جاءنا صوت الهاتف مكتوماً وخافتاً عبر الجدار الذي يفصلنا عن البناية المجاورة” – ص 37 – ليتطور الحدث بعد ذلك متلازماً مع ترددات الصوت أو الأصوات .
وإذا كان للرائحة دورها الأقل بين العناصر ، فإنها تسهم مع ذلك ، إلى جانب الضوء والصوت ، في دعم القصص ، كما في قصة “الحلية” .. “كان الجو مشبعاً برائحة أزهار الشبوي المنبعثة من حدائق الدور المتراصة” – ص64 .
ويبدو أن القاصة انتهت إلى أهمية هذه العناصر جميعاً للقصة التي تكتبها وهي تنطلق من دواخل النفس البشرية التي تتردد فيها أصداؤها ، ولكن بعد أن تترك تأثيراتها في الأعماق التي قد لا نعرف عن كنهها إلا القليل ، وكثيرة هي الأشياء والظواهر التي لا نعيها أو لا نعرفها أو لا نفهمها في حياتنا وفي دواخلنا ، ومن وعي ميسلون بهذه الحقيقة يأتي اهتمامها بهذه الأشياء والظواهر ، كما هو حال (الشخص الثالث) الموجود وغير الموجود الذي يظهر في قصص ميسلون بأشكال مختلفة .. حقيقةً ، أو تخيّلاً ، أو توهماً ، أو إحساساً ، أو تأثيراً … . بتعبير آخر “قد يكون هو الإنسان الثالث غير الموجود وغير المرئي وأحياناً هو ليس بالإنسان وإنما هو الشيء وما أكثر الأشياء حينما تدخل حياتنا ، وهو أحياناً ليس بالشيء وإنما هو قيمة زمنية لها أثرها في حيوات الإنسان وعلى مجرى الزمن نفسه”(3) .
ومع التلقائية التي بها تكتب القاصة قصصها بشكل عام ، وتوظف هذه العناصر بشكل خاص ، فإنه ليس هيناً الدور المقصود الذي تعطيه لها ، ومن هنا يأتي في الواقع انسجامها وفنيتها . لكن القاصة قد تخرج عن هذه التلقائية ، ولكن عن وعي منها ، على ما يبدو لنا ، بأن بعض القصص التي تكتبها تحتاج إلى أن تهيئ لها حالةً وجواً ، أو مسرحاً وظروفاً ، أو مقدمة أو تمهيداً كما هو حال قصة “الشخص الثالث” . وربما تجد الحاجة لمثل هذا في مرحلة من مراحل التطور الحدثي للقصة كما فعلت مع قصة “الحلية” ، إذ تعمل فيها على استحضار المكان والجو لحدثها وبطلتها إلى حد التجسيم أمام القارئ الذي تتحرك القصة وبطلتها حينذاك أمامة بيسر وحياة ..
“أمامها كانت الطريق الممتدة باستقامة مأهولة بآخر المارة وأكثرهم من الكبار الخارجين من بيت الميتة والعائدين إلى بيوتهم . كان الجو مشبعاً برائحة أزهار الشبوي المنبعثة من حدائق الدور المتراصة . وبالرغم من أن الوقت لم يكن متأخراً بعد فقد أحست لبنى أن الحدائق كانت معتمة أكثر مما ينبغي” – ص 64 .
ولكن حتى في هذه الحالة ، فإن تلك الظواهر الغريبة – المألوفة سرعان ما تنطلق من عنانها عبر لا وعي القاصة لتتشرنق مع الحدث ، بل لتكون جزءاً منه أحياناً ، كأن تأتي (رائحة أزهار الشبوي) المنبعثة من حدائق الدور كإشارة ذكية إلى ذلك الوقت القصير الذي يبدأ من مغيب الشمس وامتداداً حتى أوائل الليل ، حين تخلو الشوارع عادة إلا من بعض المارة ، بينما يخيّم هدوء شبه تام على المناطق والأحياء البغدادية الحديثة التي تجري في أحدها أحداث القصة .
إن للإحساس اللغوي الواضح للقاصة دوراً أساسياً في نجاحها هنا . فإلى جانب البساطة والتماسك والجمالية التي تتميز بها لغتها ، فإن القاصة دقيقة في اختيار المفردة المناسبة لما تعبر عنه والملائمة للتركيب ، والمتناغمة مع أجواء القصة وأحداثها ، وهي ضمن ذلك متميزة في استحضار التشبيهات الجميلة والمبتكرة أحياناً . على أننا يجب أن نقول بأنه لم يكن للغة وحدها أن تمنح القصص سحرها وقدرتها على سحب القارئ إلى دواخل شخصياتها ، بل أن وراء ذلك أيضاً وربما قبل أي شيء آخر اختيار الموضوعات الخاصة التي تستطيع القاصة إيصاله إلينا . وإذا كانت تفعل ذلك كله ، بينما الأحاسيس التي أشرنا إلى أنها تعتمل في دواخلها تُلبس قصصها ، وضمن ذلك موضوعاتها ثوباً رومانسياً ، فإن الأرضية الواقعية تبقى أساسية في أغلب قصصها وبؤرة هذه القصص ولكنها مقدمة بنفس رومانسي ، إذا ما استثنينا من ذلك قصة “ألم تنس شيئاً قبل أن تخرج؟” ، ومبررها أنها قصة علمية (مستقبلية) .

(2)
لعل من أبرز العناصر التي تسعى الكاتبة إلى دعمها لتمنح قصصها الإقناع ، أيّاً كان تصنيف هذه القصص ، عنصر الشخصية في اختيارها ورسمها ومنحها الحياة ، وخاصة من خلال التعامل معها على امتداد القصة وكأنها تعيش مع القاصة ومعنا ، وهو ما نستشعر به دائماً ونحن نقرأ القصة ، بل بعدها في أحيان كثيرة . والمثير هنا أن ميسلون هادي تقدم عموم قصصها ، باستثناء “الشخص الثالث” و”الوشاية” ، بضمير الغائب ، ومع ذلك هي تهيئ لنا التوغل في دواخل أبطالها إذ هي نفسها تفعل ذلك ففتوغل فيها بحنكة وذكاء . فهي في كل الأحوال تقدّم القصص ، بأحداثها وأفكارها من خلال شخصياتها ، وهو الأمر الذي يذكرنا بما فعله فؤاد التكرلي في بعض أعماله ، خاصة “الوجه الآخر” وبعض فصول “الرجع البعيد” . ويخرج عن هذا الحكم العام حين تجمع بين مثل هذا التقديم وبين الوصف الخارجي للشخصيات والأحداث في قصص أخرى مثل “الحلية” ولعل مبرر ذلك لميسلون ولنا هو أن بطلتها طفلة ، أو تستغني كلياً عن ذلك في قصص ثالثة مثل “ألم تنس شيئا قبل أن تخرج؟” ومبرر ذلك ، مرة أخرى ، أنها قصة من الخيال العلمي تعاملت فيها القاصة مع شخصيات غير كاملة الإنسانية بل مستلبة بعض إنسانيتها . ربما من هنا جاءت التفاتتها الذكية مع هذه القصة الأخيرة بتكرار كلمة (الرجل) بشكل مفارقة يُراد منها دلالة معاكسة لما قد تبدو في ظاهرها إشارةً إلى بطل القصة . وعموماً تكيف القاصة تعاملها مع أبطالها وفقاً لظروف وطبيعة كل قصة ولمتطلباتها الفنية والموضوعية .
وتعلّقاً بالشخصية تطرح قصص ميسلون هادي دائماً ما يشبه (الهدف) أو (الأمنية) التي تريد ، وربما تسعى ، الشخصية إلى تحقيقها أو الحصول عليها . وتتوزع هذه الأهداف والأمنيات على نوعين ، النوع الأول أشياء ترغب الشخصيات بها ، وتسعى للحصول عليها ، رغم الموانع الواقعية أو الغيبية ، كما في “النخلة” و”الحمامة” و”الحلية”. أما النوع الثاني من الأهداف والأمنيات فهو أشياء ، معنوية غالباً ، مختفية أو ضائعة تفتقدها الشخصية وتعمل على استعادتها ، كما في “الطمأنينة” و”البيت” و”ألم تنس شيئاً قبل أن تخرج؟” . والملاحظ أن قصص المجموعة الأولى التي تطرح أشياء مادية تنتهي سلبياً ، فمع أن القاصة لا تريد غالباً الأشياء لذاتها بقدر ما تريد دلالالتها ينتهي مسعى الشخصيات للحصول عليها بالإخفاق ، سواء أكان ذلك من خلال استغنائها عنها أم الهرب منها ، فيستدير (عبدالله) في “النخلة” عائداً رغم إعادة فتح الجسر المغلق الموصل إلى نخلته التي كان يسعى إليها ، ويفر (عوف) في “الحمامة” هارباً رغم إنزال (محروس) للحمامة وعرضها عليه بعد أن كان يبغي الحصول عليها ، وترمي (لبنى) في “الحلية” بالخرز بعد تكلل سعيها للحصول عليها بالنجاح . أما قصص المجموعة الثانية التي تطرح أشياء معنوية غالباً تسعى الشخصيات لاستعادتها بعد فقدها فإنها تنتهي إيجابياً ، فتعود الطمأنينة إلى (مها) في “الطمأنينة” ، ويستعيد (مازن) دفء البيت والألفة والحب في “البيت” ، بينما تكون هناك إشارة ضمنية إلى استجابة عاطفية ستتحقق من الزوج تجاه زوجته في “ألم تنس شيئاً قبل أن تنسى؟”. وإذا كانت هذه الأشياء المعنوية المفتقدة تكون غالباً مصدر القلق وعدم التوازن والانقطاع عن الآخرين ما دامت مفتقدة فإنها تكون مصدر الاستقرار والطمأنينة والتواصل مع الآخرين حين تُستعاد ، “وتتمثل الطمأنينة في عودة الشخصية إلى تواصلها مع الآخرين أو ثقتها بهم أو محبتها إياهم” (4) . وفي كل الأحوال أن هذه الأشياء المشتهاة أو المفتقدة أو المرغوبة إنما تعبر عن العوز الإنساني والخاص والملحاح لأشياء وقيم وأحاسيس كثيراً ما تركبنا بل تشكل أجزاء من همومنا واهتماماتنا اليومية . بعبارة أخرى هي إنسانية ، وهي وإن لم نرصدها أو ننتبه إليها موجودة فينا دائماً ، ولكنها تظهر وتشتد وتبدأ تكون فاعلة في حياتنا وتفكيرنا وأحاسيسنا في لحظات أو ظروف أو في ظل عوامل ومؤثرات معينة . وتعلقاً بذلك هي كثيراً ما لا تبدو ظاهرياً من الواقع الذي نعرفه جميعاً ونلمسه ، وهذا ما التفتت القاصة أو القصص وعبرت عنه عبر الوهم والخيال وحلم اليقظة والحلم الذي يداعبنا ، ولأنه كثيراً ما لا يكون ملموساً مشخصاً ، فيكون فإنه يصير عند ذاك إلى اللغز . والقاصة تمنح هذا الحلم أو الوهم أو اللغز أبعاداً أعمق مما قد يبدو عليه ظاهرها ، إلى جانب ما ينطوي عليه في ذاته من إمتاع وشد يمنحان القصص أبعاداً جمالية مضافة حد أن نجد “الطاحونة” و”الشخص الثالث” ، وهما من النماذج التي طرحت مثل هذا اللغز الملغم بالغموض والإثارة ، ضمن أكثر قصص المجموعة إثارة وجذباً للانتباه . وواضح أن للزمن دوراً كبيراً في تقديم هذه الأحلام أو التوهمات أو الألغاز ، بل يمكن أن نقول إن غالبيتها تتم في ظل الزمن أو بتأثيراته بحيث كان لاعباً مهماً في حركة الحدث والشخصية . لكن الكاتبة لا تقع في شرك فضفضة اعتماد الزمن في ظل ما يبدو لنا شغفاً وانبهاراً وربما استسلاماً من القاصة لتأثيراته في حياتها كما في حياتنا . يقول عبدالرحمن الربيعي عن ذلك : “حتى الزمن عندها ليس بفضفاض هو الآخر إذ أن هناك تكثيفاً فيه وجعله متناسباً ضمن مساحة الحدث لا خارجها ولا زائداً عن حاجتها”(5) .
إن مما ساعد القاصة في تحقيق ذلك كله إلى جانب استغلالها لهذه (الإداة) في إثراء انتباهها إلى سمة عززت ذلك كله ، وهي الاقتصاد في اللغة الإنشائية والوصفية لحساب التركيز على حدثية أو احداث القصة التي أهملها الكثير من قصاصي ما بين الستينات والثمانينات . هي تدخل غالباً حدث القصة من أول فقرة ، إن لم نقل أول جملة ، كما يبدو ذلك واضحاً في افتتاحيات “الطمأنينة” و”الشخص الثالث” و”الحلية” مثلاً . وإذا ما خرجت بعض القصص عن هذا التعميم ، مثل “النخلة” و”البيت” ، فإن ذلك إنما يكون من خلال التمهيد للحدث بمقدمة وصفية قصيرة لا تؤثر سلبياً في حركة القصة وحيويتها بقدر ما تعمل على إحياء (مسرحها) ، وعلى أية حال غالباً ما لا يكون هذا الانشغال بالتهيئة للحدث لأكثر من عبارات محدودة ، إن لم تكن هذه التهيئة ذاتها حدثية . وهي عموماً تفعل ذلك انطلاقاً من بداية الحدث ، أو من مرحلة معينة من مراحل مجراه ، لتعود بعد ذلك إلى بداية خط تطوره باستخدام تقنية الفلاش باك ، أي وفق ما يسمى البناء الدائري متّبعة خطى كتاب عراقيين أجادوا في توظيف هذه التفنية مثل فؤاد التكرلي وغائب طعمة تفرمان وعبدالخالق الركابي ، معتمدة فيكل ذلك الامتداد الإنسيابي للخط الحدثي في عموم القصة من البداية حتى النهاية.

(3)
يمكننا أن نقول بعد هذه اللمحة التحليلية العامة إن المجموعة إذ كانت قد ضمت قصصاً تقاربت مستوى ونضجاً ، وهو أمر طبيعي إلى حد كبير ، فإن لبعض منها ما يميزها عن البقية ، ليس من ناحية الجيدة والأجود ، فهذا لا يعنينا كثيراً هنا ، بل من ناحية أن هذا البعض هو أوضح تمثيلاً لما عرضناه وقلناه في عن قصص المجموعة . ويبدو لنا أن من أهم هذه القصص المتميزة في هذا كانت “الشخص الثالث” و”الحمامة” ، وقبلهما أكثرها أهمية “الطاحونة” التي نجد من المهم أن نتوقف عندها .
تطرح “الطاحونة” حدثاً غير اعتيادي ، ربما الكثير منا يمر به أو يقع له أحياناً ، وإن كان بتعبير أو بشكل مختلف تفصيلاً عنه في قصة ميسلون ، حين نرى مشهداً أو حدثاً أو شخصية يخيل لنا أننا قد رأيناها من قبل ، أو نمر بمواقف أو حالات دوار خفيف تأخذنا بسرعة خارقة إلى عوالم كأنها في أعماقنا ، ولا نعرف لها تفسيراً . هي أمور غريبة في طبيعتها ، ولكنها موجودة من حيث أنها تبدو وكأننا قد رأيناها من قبل .. وكل ذلك ضمن أبعاد مكانية غير واضحة تماماً وأبعاد زمانية غامضة . الفرق الرئيس هنا أن القاصة إذ تتناول هذه الحالة بمقترب من الحقيقة بداية ، سرعان ما تبدأ وبأسلوب فني متأنٍ وحِرَفي ومؤثر بمنحها أبعاداً خيالية ورمزية وميتافيزيقية ، لتتمكن في النهاية وفق هذا (المبرر) الفني والموضوعي والفكري من أن تبقيها بدون جواب . ولكن من جميل ميسلون هنا أنها تضّمن هذا التناول الهذه الحالات ، نقاط دلالة قد تفيد القارئ في ذلك ، ولكن لا ليجد الجواب أو ليحل ما تثيره من ألغاز أو أسئلة ، بل ليجتهد في لمح الاحتمالات المختلفة عبر محاورة ما بينه وبين النص ، وما بين هذا وذاك فرق بالطبع(6). والكاتبة تبث من خلال هذه الموضوعة شتى الأفكار عن الحياة والعالم الذي نعيش فيه ، وبشكل يذكرنا بوليم فوكنر في “الصخب والعنف” وفي بعض قصصه القصيرة ، وبفؤاد التكرلي في “الوجه الآخر” . ذلك كله تفعله الكاتبة بشكل نموذجي من خلال (يسري) بطلة القصة
“توقفت الحافلة المضاءة بنور خافت وصعدت إليها الفتاة الوحيدة التي كانت تقف في المحطة … إضاءة الحافلات تضايقها كثيراً وتبعث في نفسها شعوراً ممضاً بالضيق يجعل شطراً من قلبها يرفرف كعصفور ذبيح . فكرت أن النور الأصفر الشاحب يذكر بالظلمة أكثر مما يبددها وكأنه يتسلل إليها من عصر آخر سحيق في القدم ليمسك بخناق الحافلة ويرميها في عالم آخر من الفناء .. من الأبدية .. من الأفكار المخيفة عن البشر الذين عاشوا وماتوا .. عن الأديم الذي نمشي عليه .. عن العصور القادمة التي سيشهدها الجميع إلا نحن …” – ص 31 .
تنجح القاصة من خلال هذا المدخل في تهيئة المناخ الملائم للصدام القاسي الذي يأتي بشكل مقابلة غريبة وغامضة بين الفتاة وعجوز تجلس إلى جانبها حين تلاحظ (يسرى) أن العجوز ترقبها بشكل غير اعتيادي . وبسرعة تأتي المفاجأة ، إذ تكتشف المرأتان أنهما كانتا زميلتي دراسة ! ولنا أن نتصور إذا كانت لهذه أن تشكل ما يشبه الصدمة للقارئ ، أي صدمة إذن تلك التي تسببها لكل من الشخصيتين ؟!
هذا هو محور القصة وقضيتها وسؤالها الذي لا تجيب عليه “الطاحونة” بقدر ما تثيره أمامنا وفي أذهاننا ، خصوصاً أننا نعيش بعض أصوله لكننا قد لا نعيره انتباهنا أو قد نعتاده أو بالعكس قد يتحول فينا إلى حالة مرضية ، ويبقى السؤال الكبير : ما هو هذا الشيء ؟ ما هي هذه (الطاحونة)؟ ربما هي الزمن ، أو الخيال ، أو الغيب ، أو الوجود .. إلخ ، وفي كل الأحوال تبقى قسوتها ويبقى غموضها .. وتبقى .. ما هي ؟ ويبقى الجواب في ثنايا القصة ، ولكنه جواب غير حاسم ، بعبارة أخرى هو أجوبة يجتهد القراء في اكتشافها أكثر منه جواباً واحداً يراه كل قارئ . الأمر يصدم المرأة العجوز وهي ترى زميلة دراستها الفتاة التي يُفترض أنها عرفتها قبل أربعين سنة ، ويصدم الفتاة وهي ترى زميلتها المرأة العجوز التي يُفترض أنها لم تفارقها إلا قبل سنتين .. قالت الفتاة :
“- لكنها سنتان يا دينا !
“كان الخوف قد زال عن وجه المرأة لوهلة وحل محله شيء من البلادة ولا مبالاة العجائز ، قالت :
“- بل أربعين …” – ص 33.
وبعد محاورة لا تزيد من الأمر على المرأتين وعلينا إلا غموضاً ، تنتهي القصة بأن تقوم العجوز فجأة لتترك الحافلة ، دون أن تنتهي التساؤلات إن لم نقل إن مجموعة أخرى منها تبدأ ، وتترى معها احتمالات التأويل المختلفة التي توحي بها القصة تبعاً لفهم كل قارئ . فقد يجد البعض حدث القصة خيالاً مجرداً لا يحتمل أية تفسيرات واقعية ، وقد يرى آخر في ما حدث لـ”يسرى” تهيّؤات رأتها ضمن ظرف خاص ، ويسند هذا الفهم الثاني أن القصة إذ تبدأ بـ”يسرى” وهي تصعد إلى حافلة لتقابل العجوز بعد ذلك بشكل مفاجئ وغريب تنتهي باختفاء هذه العجوز بشكل مفاجئ وغريب أيضاً حين “غابت تحت رداء الليل الفسيح” – ص 35 . احتمال ثالث تتقبله القصة وهو أن الفتاة والعجوز شخصية واحدة تعاني من مرض سايكولوجي يشتد عليها ضمن ظروف لم تجد القاصة من حاجة موضوعية أو فنية لسردها ، لكنها لمّحت إليها . فإذ تبدأ القصة بالفتاة وهي تتضايق من النور .. “إضاءة الحافلات تضايقها كثيراً وتبعث في نفسها شعوراً ممضاً بالضيق ..” – ص 31 ، تنتهي بالعجوز وهي تعلن تضايقها من النور .. “- يا إلهي .. هذا النور المزعج .. وعجوز مثلي” – ص 35 . وتفرعاً من هذا التأويل قد نرى في (يسرى) الإنسان في معاناته من طاحونة الزمن وصراعه معها ومحاولتة السباحة عكس تبارها ، إذ تريد أن تطحنه بقسوة ضغطها – العمر – الذي يهرب منه كما تهرب بطلة القصة ليصطدم بحقيقته المتمثلة للبطلة بالعجوز . وهنا لا تكون (يسرى) الشابة إلا تشبثاً بشيء لا وجود له إلا في قناعة مزيفة تركن في أحدى زوايا نفسها ، وربما في ماضٍ بعيد ، وهو بصورة ما تشبث جلجامش بالحياة وسعيه دون جدوى بالطبع للحصول على أسباب الخلود .
ومرة أخرى يبقى الأخذ والرد في هذا كثيراً شأن ذلك هنا شأنه في قصص أخرى في المجموعة ، مثل “الشخص الثالث” وإلى حد ما “الحمامة” و” النخلة” . وفي كل الأحوال لا يكون ذلك إلا زخماً وإثراء لقصص ميسلون هادي في مجموعتها الأولى ، ومؤشراً لمسيرة بدأتها بهذه الخطوة لتتلوها خطوة أخرى هي مجموعة “الفراشة” والمجاميع والروايات التالية ، مما نأمل أن تكون موضوعات دراسات ومقالات قادمة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1)أصدرت ميسلون هادي لحد الآن المجاميع القصصية الآتية : “الشخص الثالث” – 1985 و”الفراشة” – 1986 ، و”أشياء لم تحدث” – 1992 ، و”رجل خلف الباب” – 1994 ، و”لا نتظر إلى الساعة” – 1999 ، و”رومانس” – 2000 . كما أصدرت الروايات الآتية : “العالم ناقصاً واحد” – 1996 ، و”يواقيت الأرض” – 2001 ، و”العيون السود” – 2002 ، و”الحدود البرية” 2004 . كما أصدرت العديد من قصص وروايات الأطفال والشبان .
(2)ميسلون هادي : الشخص الثالث ، منشورات مكتبة الدار القومية للكتاب العربي ، بغداد ، 1985 .
(3)خضير عبدالأمير : من هو الشخص الثالث في مجموعة ميسلون هادي القصصية ؟ ، جريدة الثورة ، بغداد ، 10/12/1987 .
(4)د. عبدالقادر القط : الشخص الثالث ، جريدة الشرق الأوسط ، لندن ، 30/12/1985 .
(5)عبدالرحمن الربيعي : قصص “الشخص الثالث” والبحث عن عنصر المفاجأة ، جريدة الشرق الأوسط ، لندن ، 22/6/1968 .
(6)هذا يعني ضمناً أن هذا النوع من قصص ميسلون ، وهو في الواقع ما ينطبق على جل قصصها ، يتجاوب مع نقد نظريات التلقي والقراءة بشكل نموذجي .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *