إيقاع القصة القصيرة في الرواية
قراءة في رواية موسى كريدي “نهايات صيف”
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
(1)
تبقى الرواية مهما قيل في شأن القصة القصيرة، حلماً سحرياً مغرياً للقاصين حتى حين يكونون متميزين في كتاباتهم، ومتمكنين من حرفتهم، وحتى حين تشح عندهم متطلبات الفن الروائي أحياناً من حيث الأسلوب وطول النفس والقدرة على إدارة العمل التركيبي الواسع، كما ينطبق ذلك على الرواية([1]). هذا أدى إلى اقتحام معظم القصاصين، السريع والمندفع، خصوصاً في حدود التجربة المحلية، لحدود العالم السحري للرواية. فعرفنا من قصاصينا ممن فعلوا ذلك: ذو النون أيوب وعبد الحق فاضل وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعبد الستار ناصر وعبد الخالق الركابي وعلي خيون وخضير عبد الأمير ولطفية الدليمي ومهدي عيسى الصقر وميسلون هادي، وغيرهم ليسوا قلائل. هذا لا يعني بالطبع أنك إن أجدت في كتابة القصة القصيرة فلا تُقدمْ على كتابة الرواية، بل إن ذلك ممكنٌ جداً، لأن ما هو مشترك من خصائص ومقومات ومتطلبات بين الفنين واسع، ولهذا كان نجاح كتّاب في مثل هذا التحول أو الاقتحام، مثل فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعبد الخالق الركابي وعلي خيون وخضير عبد الأمير ومهدي عيسى الصقر وميسلون هادي، خصوصاً أن من الشائع جداً أنْ يبدأ الكاتب السردي كتابة القصة القصيرة قبل أن يتحول إلى الرواية، بل أن بعض هؤلاء حققوا في مجال الكتابة الروائية، فيما بعد، ما تجاوزا فيه إنجازاتهم القصصية. الذي نعنيه هنا إذن هو أن إجادة الكاتب وتميُّزه في الكتابة القصصية لا تبيح له بالضرورة ولوج العالم الروائي. لكن المشكلة تكمن، على ما يبدو، في أن لألاء الفن الروائي يبقى يومض للقاص ويومض ويثيره حتى ينتهي به إلى أن يستجيب القاص للإغراء الأزلي فيقتحم الفن السحري، على الأقل على سبيل التجريب، ولكن بطبيعة الحال مع احتمال النجاح والإخفاق([2]).
القاص الكبير موسى كريدي كان على موعد مع هذا التحول والوقوع في دائرة سحر الرواية، بعد مسيرة طويلة وثرية في كتابة القصة القصيرة([3])، ولكن لا ندري إن كان للتجريب أو هو صدر عن قناعة بالتحول، حين قدم روايته الأولى والأخيرة “نهايات صيف” في عام 1995([4])، بعد خمس مجاميع قصصية. فهل نجح القاص روائياً؟ هذا هو جزء مما تريد هذه الدراسة الوصول إليه.
متطلبات الفن الروائي تختلف بلا شك عن تلك التي يتطلبها فن القصة القصيرة، مع ما بين الاثنين من مشترك كثير وكبير كونهما فنّين سرديين، وتفضيل أي منهما على الآخر مردود نقدياً بالطبع. ولعلنا نبدأ هذه المتطلبات من خارج الفنّين، أو لنقل قبل الدخول إليهما عملياً، وهو الاستعداد الذاتي للكاتب للدخول في هذا الفن الساحر عبر المعرفة النقدية المعمقة بطبيعته أولاً، وتعلّقاً بذلك الوعي بمتطلباته الفنية المتمحورة حول العناصر أو المقوّمات التي يقوم عليها ثانياً، وامتلاك ما يسمّيه جبرا إبراهيم جبرا الموضوع الكبير([5]) ابتداءً ثالثاً. ولأننا لا نريد أن نحول موضوعنا عن رواية “نهايات صيف” إلى محاكمة نقدية تجنيسية للعمل ولصاحبه، كما قد تبدو فعلاً، سنقوم أساساً بالتوقف التحليلي عند الرواية بوصفها رواية من جهة، وما حققته فنّياً، ليأتي التعرض لما نراه قصوراً في تلبية متطلبات هذا الفن وفقاً للتوصيف النقدي له، وحضوراً أو هيمنةً لخصائص القصة القصيرة التي قد تأبى الانفلات من بين يدي الكاتب، في ضوء هذا التحليل، ولا يُقصد به أن يكون موضوع الدراسة.
(2)
حين نحاول، ونحن ننتهي من قراءة “نهايات صيف”، أن نمسك بموضوعها أو حتى نبحث عنه فإننا لا نكاد نحظى بموضوع ينطبق عليه توصيف (موضوع روائي) أو( كبير) على حد تعبير جبرا السابق، ولا يقلل من هذا الافتقاد ما نحسّه من إخلاص حقيقي، عرفناه عند كريدي من قبل، يبذله لكي يوفر لعمله مثل هذا الموضوع. هي تقدم علاقة هيمنة أو رغبة في السيطرة لشخص غني ذي نفوذ بآخرين تنفرد من بينهم فتاة تشترك فيها معه في تكوين محور العمل. لكن ما يعيب هذه العلاقة، لتكون محور عمل روائي، أنها تقصر عن أن تكوّن محور العمل ومسار أحداثها، وتحديداً بما يفتقده الصراع الذي تنطوي عليه دواعي مقنعة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن الشخص (نايف كنعان) هو زوج أم الفتاة (هناء) التي، في دفاعها عن الدار الذي يسعى (نايف) إلى سلبه منها، لا تمثّل نفسها فحسب، بل بناته هو- أخواتها من أمها. والواقع أن الخلاف، الذي يُفترض أن يبرّر الصراع، يفتقد هو ذاته الإقناع إذا ما عرفنا أن (نايف) يمتلك ما يغنيه عن السعي لسلب الدار من بناته وأمهن قبل سلبه من ابنة زوجته. قد يحاول البعض تلمّس أن يكون ما وراء هذا الصراع، مما يمكن أن يكون في ذهن الكاتب، ما هو أبعد من ظاهره، كما ربما هو الحال مع ظاهر الشخصية وما يمكن أن تنطوي عليه عنده من دلالات أبعد من ذلك. وربما يكون هذا معقولاً ومنطقياً لوهلة، لكن أن يكون هذا في ذهن الكاتب غير كاف، ونحن ما عدنا من عقود معنيين بالمؤلف، ولا نقول مؤمنين بموته. وإذا ما شعرنا بشيء من ذلك تشي به بخجل الرواية حدثاً أو شخصيةً أو إشارةً ولا يشكل أهمية لمسار الأحداث، غير كاف، خصوصاً حين يأتي مفتعلاً عادةً. وبرأينا أن سبب هذا الذي يُخفق فيه الكاتب هو بساطة الموضوع ومحدوديته وتقليديتيه، وكونه موفقاً لا يمكن إلا أن يكون، إذا ما تجاوز الرغبة والموقف الضمني، فعلاً وصراعاً، ليكون بذلك ملائماً للقصة القصيرة، التي نعرف أنها قد تقدم وربما تفرض موقفاً أخلاقياً عادة، وتقوم غالباً بانتقاده، على حد تعبير أندريه جيد. أما الرواية فتعرض، تعلقاً بهذا، مواقف متعددة وراءها شخصيات متعددة لا تتضح طبائعها أو طبائع مواقفها وتقويمها إلا من خلال الصراع فيما بينها وضمن ذلك من مسار الأحداث بالطبع، ودون هيمنة موقف أو صوت بالتحديد بشكل مسبق، كما يفعل موسى كريدي، كون الرواية فن حواري متعدد الأصوات. فتبعاً لهذا الفرق الجوهري بين القصة القصيرة والرواية، يكون مؤلف الأولى، إذ يقدم موقفاً متبلوراً معبّراً عنه بموضوع، “على علم بنهاية قصته في الوقت الذي يبدأ فيه بعرضها”، على حد تعبير فيرنانديز، وبالتالي “يعرف أن يتجه، ويرتّب إشاراته تبعاً للمنحنى الذي يرسمه”([6])، وهو ما يبدو أن موسى كريدي قاصاً يفعله وهو يكتب روايته، غافلاً عن تعددية الأصوات في الفن الروائي وحواريتها اللتين تحولان بينه وبين أن يفعل ذلك، تهيّئ له طريقاً آخر، “فإن الروائي يعطينا الإحساس بغموض المستقبل، وبأنه قد لا يعرف حتى اتجاه الأحداث”([7])، وفي ذلك تكتسب الرواية برأينا أهم خصائصها التي تتمرد فيها على كاتبها، وربما تكون أكثر الأجناس الأدبية انسجاماً، بل (سعادةً) مع فكرة موت المؤلف والدعوة إليها نقدياً. وربما في ضوء هذا يقول ناقد آخر، بإيجاز بلاغي معبّر بدقة وعمق، بأن القصة محكية سردية، والرواية تمثيلية معروضة، وهو ما تجاهلته رواية موسى كريدة. وإذا ما بدا القاص ساعياً بجد أحياناً إلى تحقيق متطلبات الرواية في كتابة رواية، فإنه عادةً ما يأتي متكلّفاً في افتعال الأحداث، وفي الدفع بشخصيات عديدة ما استطاع تجنيبها، وفقاً لذلك، الشحوب وافتقاد الحياة والقدرة على الفعل، فالمعنى الفني للكلمة.
(3)
والآن لماذا يتمكن البعض من كتابة قصة، ولا يتمكن من كتابة رواية، حين يريد؟ نعتقد ابتداءً أنه بسبب كون الرواية عملاً تركيبياً وعقلياً معقّداً ولا ينبني ولا ينبني على الأفكار والرؤى المجردة وردود الأفعال والانفعالات والوصفية فحسب، كما يمكن أن نقول إن القصة القصيرة تفعل الكثير منها، كما يفعل الشعر، قبلها، بعضاً. ابتداءً هي تحتاج، فضلاً عن هذه أو بدونها، ومع التعددية، إلى الاستيعاب المشبع والشامل للتجربة، والنظرة الشمولية الموضوعية والمتعددة الزوايا، والتخطيط، وطول النفس، وإعمال فكر والاستنفار الدائم للذهن للنظر إلى الحياة والواقع. فالكتابة الروائية عملية خلق حقيقي معقّد وليست محكية. ولذلك يكون الإخفاق حين تكون الكتابة قبل امتلاك القدرة على الإمساك بهذا الزمام، وإذا كان بعض من امتلك زمام القصة القصيرة قد انجذب إلى سحر الرواية فكتب فيها وأخفق، فببساطة لأن زمام هذه غير زمام تلك، وهذا يصح على التحول المعاكس، وإن بدرجة أقل بالتأكيد.
من الواضح أن موسى كريدي قد سعى إلى أن تكون روايته رواية، حين حاول أن يوفر لها موضوعاً كبيراً، لكنه لم يمتلكه أصلاً، وجمعاً من الشخصيات، لكن أكثرها افتقد الحياة، وتعددية لغة تعباً لطبيعة الشخصيات ولغاتها، فما رأينا ذلك، وصراعات ومواقف، فما نجح في ذلك، ووفي. لقد سارت الرواية من البداية بإيقاع بطيء، لأنه لم يكن هناك ما يسرّع هذا المسار ويمنحه الحيوية، فما كدنا نقف على شيء في هذا الخصوص حتى نهاية الفصل الثامن- ص52- من فصولها الـ(26)، وصفحاتها الـ(145). وحتى بعد هذا الفصول الأخيرة تسير طبيئة وأفقة تماماً، بل ممن الواضح أن أغلبها مقحَم في العمل، فلم تقدم شيئاً له، وما كان لها لتؤثر فيه، بل كانت لتفيده، لو تم حذفها. فلنقرأ المقطع الآتي مثالاً صغيراً على هذا الذي نذهب إليه:
“وضع النادل في الصحنين المتقابلين قطعتين من حم ستيك مع شيء من البطاطا والزاليا، وجيء بالصاص والخبز المحمّص. وُضع الخبز في سلة صغيرة من الخوص. ثمة قنينة من الماء الصافي. وقبل أن يمسكا بالسكاكين والأشواك قام ربيع إلى مرفق مياه ثم ما لبث أن عاد فرأى هناء غائمة الوجه، ترتدي نظارتها السوداء…”([8]).
ليستمر النص في هذا إلى حين، وواضح أنه لا يقدم أي شيء. وبظننا أن هذا ناتج عن أسلوب القصة القصيرة الذي تمكن منه كريدي وعُرف فيه بلغة وصفية تُعنى بصغائر الأشياء، ولكنها الصغائر التي تقوم عليها قصصه. وعموماً أن تمكّن القاص من السيطرة معلى مواقف أو حدث أو خط حدثي محدود في القصة القصيرة التي يكتبها لا يعني أن تيمكن بالضرورة من إدارة خط حدثي معقد تُطرح فيه وتنفرز، في الوقت نفسه، أحداث متعددة ومتشابكة دائمة التطور، بل قد تنتهي دون أن تأخذ القرار الذي تدخل فيه وتكون عليه وقد تخرج به لو كانت في القصة القصيرة، وكل ذلك ينطوي صراحة أو ضمناً على مواقف ورؤى متعددة، تعبر بدورها عن أصوات متعددة لا يعنينا أبداً أن يمثل أحدها، وعادة ما يمثّل، المؤلف، لكن المهم أنها تمتلك كياناتها التي لا يتمكن للمؤلف أن يحتويها أو يصادرها، وهو ما يمكن أن يدّعيه حقّاً له القاص. ومن هنا، ولأن بعض ما بدا لوهلة أحداثاً وخطوطاً حدثية من صلب حبكة الرواية ما كان له علاقة درامية بخط الرواية المفترض، فقد بهتت وانتهت دون أن تفيد بشيء. وتعلقاً جاءت بعض الشخصيات وسلوكياتها غير مبررة أو غير مفهومة أو غير مقنعة، لتثير تساؤلات لا نجد لها أجوبة، ببساطة لأنها ليست لها أجوبة يمكن أن تقدمها الرواية أو توحي بها أو حتى تثير التفكير فينا للبحث عنها. من ذلك مثلاً سلوك (نايف كنعان) الذي سبق أن تعرضنا إليه، وبعض تصرفات (هناء) التي لم يكن لها في معظم الأحيان غير اللف والتجوال بسيارتها أو على قدميها، ومثل توبة (شكور المسعود) الرومانسية الساذجة، ومقتل (أمين) و(قيس) غير المبرر، واختفاء (ساهرة) الغامض والغريب وغير المبرر درامياً أو حدثياً هو الآخر. لماذا كل هذا؟ أهو بسبب الشرطي القابع في دواخلنا الذي يؤدي بالضرورة إلى تضخم حجم المسكوت عنه في العمل الإبداعي؟ أم هو انفلات الزمام من يد صاحبه. أيّاً كان الجواب فإن النتيجة هو اختلال العمل الإبداعي، كما حدث لرواية “نهايات صيف”، إن لم يمتلك الروائي وسائل هذا الفن التي تمكنه من المناورة الفنية.
(3)
وهكذا، مع كل ما عرفناه من تمكن لموسى كريدي في كتابة القصة القصيرة أتاح له رفد القصة العراقية مجموعات قصصية سيظل بعضها علامات في هذه القصة، فإنه لم يتمكن من أن يكون مقنعاً في “نهايات صيف” بدءاً من الحدث الذي تنفتح عليه الرواية- مطاردة مجهول لهناء- حين أشعرنا بأن الرواية ستكون رواية حدث، وربما رواية حركة (novel of Action) إذا جاز لنا استعارة المصطلح السينمائي. لكن الكاتب سرعان ما يترك الحدث مقطوعاً وغير مفهوم وغير مبرر، وهو ما تبدو عليه أحداث أخرى في الرواية. ومن الواضح أن المؤلف يخلق الحدث وربما الشخصية أحياناً لغاية آنية أو طارئة ، إذا صح التعبير، في خط الأحداث الرئيسة، دون أن يوفر لهما مبررات كافة ليكونا مقنعَيْن. فمن ذلك مثلاً ظهور الأشخاص الغريبين لـ(هناء) فجأةً ليختفوا فجأة أيضاً، دون أن نفهم لماذا يظهرون؟ ومن هم؟ بل ما علاقتهم بشخصيات الرواية الرئيسين وبأحداثها وبموضوعها؟ فإذا كان للصدفة دورها وإقناعها في الحياة، بل حتى في صنع التاريخ، فإن العمل الروائي شيء آخر ولا يمكن أن يمكن أن نقبل في أي شيء، من حدث أو شخصية أو نهاية أو موقف، إذا لم يكن له مبرر للعمل ككل. وحتى حين نتقبل مثل هذا (الخرق) الموضوعي أو الفني، فإن تكراره يُخلّ بالعمل، وهو ما وقع فيه الكاتب هنا. وهكذا لم يكن مقنعاً مثلاً الظهور المفاجئ والغريب للمجرم الذي يطارد البطلة، ولا لظهور (خلف الساهي) و(المحامي) و(ياسين الكسار) وغرهم آخرين. في الواقع أن افتقاد الأحداث للتبرير قد وسم، كما قلنا، الرواية كلها، بدءاً بافتتاحيتها تلك، ومروراً لمسارها عموماً، وانتهاءً بنهايتها حين تحاول (هناء) تفسير اختفاء (نايف كنعان) الغريب قائلةً:
ربما أنهى حياته بطلقة، تلك إحدى الشائعات. أنا شخصياً لم أصدّق، لأن الرجل كان قاسياً، شهوياً، مقبلاً على الحياة حدّ الكفر بنعيمها، كما أنه بعد عمّا يدفعه لاختيار الموت انتحاراً. وقيل إنه قُتل خنفاً بعد شجار مع أحد أزلامه أو تابعيه، تلك شائعة ثالثة. وقيل إنه يعاني تعباً في القلب فمات بعد ليلة صاخبة، وذلك أمر محتمل. أما من سيذكر الصحيح، فذلك أمر متروك للزمان”.([9])
إن موسى كريدي قد حاول أن يغلف شخصية الرجل، من خلال نهايته، بما هو غير عادي ليضيف عمقاً وبعداً ما لشخصيته، غير تلك التي تظهر عليها حقيقة. فشخصية (نايف كنعان) هي أصلاً أبسط أسذج من أن تكون أسطورية مثلاً، ليُنهي القول عنها بهذا الشكر. إنها ليست (وليد مسعود) مثلاً في رواية جبرا “البحث عن وليد مسعود” التي قامت على حدث اختفاء وليد مسعود الغامض والدال في الوقت نفسه، وليست شخصية (حسين) في رواية فرمان “النخلة والجيران”، أو (علي) الشهيد أو الأسير أو المفقود في رواية ميسلون هادي “العالم ناقصاً واحد”، أو (عبد الكريم) في رواية التكرلي “الرجع البعيد”، أو (هند) في رواية ليلى الأطرش “وتشرق غرباً” أو (محمد حماد) في رواية إبراهيم نصر الله “براري الحمى”.. إلخ. بقي أن نقول، تعلقاً بهذه الشخصية المفترض أنها رئيسة نوعاً ما، ربما أراد الكاتب شيئاً ما لهذه الشخصية، من ذلك كله. ولكن ما يريده الكاتب، أي كاتب، شيء وما يمكن أن نراه نحن القراء حقيقةً شيء آخر.
في ظل مثل هكذا مآخذ نسجلها على الرواية، كان لا بد لها من أن تفقد، كما نراها نحن بالطبع، تماسكها ووحدتها ومنطقيتها الداخلية وفي النتيجة قدرتها على الإقناع. ولم يكن ليُصلح هذا أن تأتي بعض فصولها وفقرات من فصول أخرى متماسكة. فمثل هذا التماسك نسبي وجزئي، وهو متأتٍّ من امتلاك الفصل الواحد من هذه القصول، في الكثير من الأحيان، وحدة فنية هي في الواقع، وهنا يحضر موسى كريدي القاص، من جنس الوحدة الفنية التي تمتلكها القصة القصيرة بتقنياتها الخاصة. والواقع أنه يشغّل هذه التقنيات حتى وإن لم تكن ملائمة غالباً للفن الروائي وطبيعته. يتمثل مثل هذا التمكن من هذه التقنيات، الفنية في طبيعتها وغير الملائمة في حضورها هنا، في اللغة الشعرية ولكن الملائمة التي ألفناها في قصصه القصيرة، وقد هيمنت تمماً على بعض الفصول والفقرات في “نهايات صيف”، وهو ما كاد يفصل هذه الفصول، وهي ليست قليلة، عن مسار الرواية، خصوصاً وأنها تمتلك، كما أشرنا ضمناً فيما سبق، شيئاً من الاستقلالية الموضوعية فعززتها الاستقلالية الفنية. بتعبير آخر، أتاحت حِرَفية موسى كريدي وتمكّنه غير العادي من الفن القصصي، ومن لغتها بشكل خاص، أن تأخذ هذه الفصول مدياتها، وهي لم ترتبط باشتراطات ديمومة الصراع وحدّته وتصاعده ضمن المسار العام للرواية. وهي عموماً، وهنا تحضر القصة القصيرة أيضاً، في بعض تنويعاتها، بالوصفية والتأمل وربما بالتداعيات الفكرة الداخلية الخاصة باللحظة والتأزم الطارئ بالنسبة لمسار الرواية. هنا يجب أن لا يُفهم أننا نقول عدم ملائمة هذا كله المطلق للأساليب الروائية، بل هو كثيراً ما يكون ملائماً ولكنه في الكتابة الروائية، بخلاف الكتابة القصصية، يكون مشروطاً بخدمته للتطور الحدثي/ الدرامي للعمل الروائي شبه المفقود في العمل القصصي، وللتعددية التي يفرضها الفن الروائي في الأحداث والشخصيات والأهم الأصوات والرؤى. ولهذا، ولأن موسى كريدي لم يعرف جيداً أو لم يع عملياً، على ما يبدو، الفروق ما بين متطلبات القصة القصيرة التي كان يتألق في كتابتها، ومتطلبات الرواية التي يكاد يسجل فيها إخفاقاً من خلال روايته الوحيدة، حين تعامل معها كما يتعامل مع القصة. وهكذا أدى عدم التفاته إلى تعددي الأصوات والرؤى التي تمثلها الشخصيات أكثر من الشخصيات ذاتها، وما يستدعيه ذلك من تعدد في الأساليب، إلى أن تأتي الشخصيات وكأنها شخصية واحدة من النواحي الفنية والأسلوبية، وتحديداً حين تتلكم وتفكر وتعبر عن نفسها، سواء أكان ذلك كما تظهر لبعضها أو لنا وتحديداً في حواراتها، أو كما تتمثل من خلال دواخلها وتحديداً في تفكيرها وحواراتها الداخلية، لأن الحوار والتفكير والحوار الداخلي كلها، في رواية “نهايات صيف”، ليست لها بل لذلك المختبئ خلفها، ولكن عيبه أننا نستطيع أن نراه، نعني المؤلف. فلنرجع مثلاً إلى الحوار الآتي لنرى واضحاً ما نعنيه:
“أما هناء في تلك اللحظة فقد عادت إلى مادة العمارة لتجعل منها مدار اهتمامها:
“- ربيع.. أريد بحثك الخاص بـ(الموسيقى المتجمدة)… إنك تعرف أن العمارة ليست هيكلاً مجرداً قائماً على الأرض، إذ لا بد من أبعاد جوهرية تناظراً وتماثلاً.
“عقّب ربيع مضيفاً: إن هذه الأبعاد وإن اتصلت عادةً بالتكوين الفني الخاص للعمارة إلا أن اتصالها بالحياة ومتغيرات الحياة والفكر وقاعدته الإنسانية أمر جوهري وجمالي في آن.
فقالت هناء: أي أن المهم هو إيجاد نمط إبداعي متفرّد يتصل بمنظور آخر هو كيف يرى المعماري الحياة؟… لكن ربيع ألا ترى معي أننا نتجه إلى معايير خاصة بنا. إننا نتطلع غالباً نحو الخارج… أعني أننا ننبهر بما لدى الأمم من خصائص معمارية ونظريات دون أن نلتفت إلى ما لدينا من تجارب ورموز وإمكانات وقيم جمالية وذوقية في البناء والمعمار…
“- نعم هذا صحيح. الانبهار مرحلة مؤقتة، كذلك التقليد في حين يبقى الإبداع وخلق النمط الوحيد في إطار التأسيس والإضافة الحقيقية”([10]).
وهنا يجب أن نتذكر الشخصين المتناقشين مهندس وطالبة، وهما إذ يعكسان حقيقةً، في حوارهما، وفي حوارات أخرى لهما في الرواية، مستوىً ولغةً وفكراً ليست من مستوى الفئات التي يمثلانها ولا لغتها ولا فكرها، فإن حوارهما أو حواراتهما لا تكاد تنم عن أنهما لشخصين، بل لشخص واحد. وما ذلك، كما أشرنا ضمناً قبل قليل، إلا لأن هذه الحوارات إنما هي كلامُ مَن يقف وراءها، نعني المؤلف. وهنا يجب أن نقول أننا، حتى وإن ذهبنا مرحلياً أو جزئياًمذهب أولئك الذين يرون “أن السرد يبثّه شخص… إنه المؤلف الذي تتبادل في ذاته، بدون انقطاع، شخصية وفن فرد يمكن التعرف عليه بشكل واضح، كما أنه هو الذي يمسك العلم كل مرة ليكتب قصة: إن السرد، ولاسيما الرواية، ليس سوى تعبير عن (أنا) خارج عنه”([11]). نقول نحن حتى وإن ذهبنا مذهب أصحاب هذا الرأي، وهو إلى حد كبير صحيح، فإن تجرّد المؤلف من ذاتيته وأنّيته أمر ضروري حين يكتب، خصوصاً الرواية، ويستحضر شخصيات متعددة ذات اتنماءات متعددة، ومن انحدارات طبقية وثقافات فكرية وعقلية متباينة، وهو ما لم ينجح الكثير من الروائيين فيه، ومنهم موسى كريدي في تجربته الروائية الوحيدة، الأمر الذي قاد الرواية إلى أن تكون ذات طبيعة أسلوبية ولغوية واحدة. “إن الرواية بسبب طابعها التمثيلي والتشخيصي يكون المبدع فيها مدفوعاً إلى تنويع الأبطال ليكونوا، من مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية… وحتى إذا كانت الرواية تصوّر شريحة واحدة، فهي تحافظ دائماً على تفاوت نسبي لدى كل شخصية في مستوى التفكير ونوعية السلوك الفردي… وهكذا يواجه الأسلوب الفريدي للمبدع الروائي أساليب متعددة.. لأن هذه التعددية الأسلوبية هي خاصية جوهرية في الجنس الروائي”([12]).
أخيراً، إذا كان من السهولة وضع اليد على الكثير مما يُحسب بإخلاص وموضوعية لموسى كريدي في تجربته القصصية، مما يجعلنا لا نتردد في الإشادة بتلك القصص التي اتخذت مكانات بارزة بين القصص العراقية، مثل “طقوس العائلة” و”عربة الليل” و”الكلب” و”حرش” و”إغفاءة”، فإننا يجب أن نكون صريحين وبالإخلاص والموضوعيه نفسيهما، في الإشارة إلى ما يشوب تجربة الكاتب الروائية، والتي نلخصها في جانبين، يتمثّل الأول في كل ما سبق أن قلناه في “نهايات صيف”، والثاني في اختلافنا مع من يقول، وهو بظننا يجامل، إن الرواية هي امتداد نوعي لمنجز الكاتب الإبداعي. فالرواية لا تنتمي إلى منجز موسى كريدي الإبداعي المتميز. لكنها على أية حالت تجربة، ويبدو أنها، كما قلنا محاولة لتحقيق الحلم الذي يداعب ذهن كل قاص وهو يواجه سحر الرواية، فيقول لنفسه: حسناً، لأجرب الكتابة الروائية، وإن لم أنجح، فإنها بالتأكيد لن تكون بدون فائدة. يُقال إن مساعد أديسون قال له مرة بإحباط، وفي أعقاب المئات من التجارب من دون تحقيق نتائج إيجابية: لقد ضيعنا كل جهودنا ووقتنا بدون فائدة. فرد عليه أديسون: أنك مخطئ، فنحن لم نضيّع وقتنا، ببساطة لأننا عرفنا الآن أن كل تلك التجارب لا توصلنا إلى الكشف الذي نسعى إليه، ولن نحتاج إلى إجرائها، وعليه فلنجرب غيرها، وهذا هو بحد ذاته فائدة وإنجاز في الطريق نحو الإنجاز.
[1] ) ولهذا لا تزدهر الرواية عادة في أزمان الأزمات والوقائع الكبيرة التي تؤثر فيه وقد تخلخله، حين تضطرب في ظلها الحياة ويفقد الأفراد استقرارهم النفسي، فمنعهم هذا، في النتيجة، من التفكير المتزن والنظرة الموضوعية إلى الناس والأشياء والمتغيّرات والوقائع، ومنها الأزمة نفسها.
[2] ) يُنظر د. علي جواد الطاهر: القصة القصيرة في ضوء مصطلح الرواية، السبعينات، مجلة (ألف باء)، ع352، 18/6/ 1975، ص44-45.
[3] ) أصدر القاص، قبل رواية “نهايات صيف” المجاميع الآتية: “أصوات”- 1968، و”خطوات المسافر نحو الموت”- 1970، و”غرف نصف مضاءة”- 1979، و”فضاءات الروح”- 1986. وأصدر مجاميع أخرى بعد الرواية.
[4] ) موسى كريدي: نهايات صيف، رواية، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 1995. وكان القاص قد أصدر قبلها المجاميع القصصية الآتية:
[5] ) جبرا إبراهيم جبرا:
[6] ) ميشيل رايمون: بصدد التمييز بين الرواية والقصة، ترجمة حسن بحراوي، مجلة (آفاق)، الرباط، ع8 و 9، 1988، ص122.
[7] ) المصدر السابق، ص177.
[8] ) الرواية، ص117.
[9] ) الرواية، ص144.
[10] ) الرواية، ص63. وانظر: ص44، 65، 92.
[11] ) رولان بارت: التحليل البنيوي للسرد، ترجمة مجموعة مترجمين، مجلة آفاق، بغداد، ص21.
[12] ) حميد لحمداني: أسلوبية الرواية.. مدخل نظري، الدار البيضاء، منشورات دراسات سال، 1989، ص18.