مهندس في شركة لنقل الموتى

مهندس في شركة لنقل الموتى
ميسلون هادي
لم أكن أتوقع أن تكون رحلة زميلنا العزيز القاص البصري المبدع (فيصل عبد الحسن) مع الغربة على هذه الدرجة من العذاب… سنوات عجاف امتدت منذ نهاية التسعينيات حين غادر مع عائلته لتدريس الرياضيات في (سبها) بليبيا وحتى الآن، حيث توجه من هناك إلى مدن شتى في المغرب لكي يكون قريباً من المفوضية العليا للاجئين في الدار البيضاء، عسى أن يشفع الوضع الصحي لصغيره والوضع السياسي له، باعتباره عمل في اذاعة مناوئة للسلطة، في حصوله على الهجرة. ولكنه سرعان ما سيكتشف أن تلك المفوضية محض كذبة بيروقراطية، وأنها ستماطل معه وتتصرف بذات الروتين الذي تتعامل به دوائر بلاده، فيكون في وضع لا يحسد عليه بعد أن أحرق السفن خلفه وأصبح اسمه ضمن قوائم الذين يكتبون في صحف المعارضة.
عرفت فيصل عبد الحسن كاتباً قصصيا متميزاً في الثمانينيات، ثم انقطعت اخباره في التسعينيات التي صاح فيها الناس الغوث وتوقعت أنه قد استقر هادئ البال في بلد من بلاد المنافي البعيدة، ولكني عندما قرأت كتابه الصادر حديثا بنسخة إلكترونية (سنوات كازبلانكا) فوجئت بما عاناه هذا الكاتب الوطني الشهم من أهوال وما مر به وعائلته من مواقف بعد مغادرته ليبيا ووصوله الى المحمدية ثم كازبلانكا وبدء رحلة المعاناة في سنوات مؤلمة تدمي القلب.. حيث لا يستطيع إرسال أولاده إلى المدارس ولا يستطيع توفير العيش اللائق لهم، ولولا مكافآت شحيحة ترسلها مجلة خليجية هبطت عليه من السماء كهبة إلهية، لما استطاع إنقاذ أولاده من ذلك الوضع. فقد عمل، وهو المهندس، في شركة لنقل الموتى عبر البحار دون أن يخبر زوجته بذلك لئلا تقرف منه ومن ملابسه، وبدلاً من أن يرسم خرائط المباني والعمارت ومحركات الطائرات النفاثة أو يشارك في إعمار بلاده بعد الحرب، فإنه كان يأخذ قياسات توابيت الموتى ويرسم أشكالها حسب طول وعرض الميت أو حسب طلب الزبون، حتى أنه يقول ساخراً بإن الوضع انتهى به إلى النظر إلى كل من يمشي على قدمين وهو يتخيل قياسات تابوته والشكل الملائم له.
يسمي فيصل كتابه “سيرة دينار في بلاد الدراهم”، في اشارة منه الى كون الدراهم هي العملة الدارجة في المغرب.. وهذا (الدينار) يصف نفسه كالأعمى في تلك البلاد الغريبة، وكالضائع بين ناسها المغلقين على أنفسهم في أسواقها الغالية. ثم يروي الكاتب أسباب هروبه من الوطن بايجاز وهي كتاباته التي كان يحاول تخفيفها باستمرار وجعلها على شكل طرائف ساخرة بشأن الحكم الشمولي، ثم يعرج على تجارب مماثلة لكتّاب ساخرين دخلوا السجون بسبب جرأتهم، بينما نال الآخرون العطايا بسبب نفاقهم للحكام. ولا ينسى الكاتب ان يستذكر، في تلك الرحلة، أيام شبابه ورفاق صباه وتنقله بين الجبهات وتعداد عذاباته كلاجئ عراقي وكاتب في المنفى عاش مضطراً في أسوء الظروف بينما يظنه الآخرون يعب الهواء البارد ويشم أجمل الزهور.
أكثر ما يعجب في هذا الكتاب هو أن فيصل يفرق بين الحاكم والوطن، ولا يسئ لبلده حتى وهو في قمة عذاباته كما فعل بعض من تركوا الوطن، ومنهم زميله طالب اللجوء الذي كان يدلي بمعلومات كاذبة أطالت أمد الحصار من أجل مصلحة ضيقة. ولكن السؤال المؤلم الذي أثاره في نفسي هذا الكتاب هو كم من العراقيين عاشوا ويعيشون تجربة فيصل عبد الحسن القاسية؟ وإذا كانت معارضة النظام السابق قد تسببت في كل هذا العذاب، فأين النظام الحالي من مثل هؤلاء المبدعين؟ ولماذا لا ينصفهم ويكرمهم ويعوضهم عن سنوات العذاب التي عاشوها في الغربة اللعينة!؟.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *