مهدي عيسى الصقر، الشاهدة والزنجي

زيف السطح ونقاء الجوهر
في رواية “الشاهدة والزنجي”
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
(1)
معروف أن مهدي عيسى الصقر واحد من كبار القصاصين الذين وضعوا القصة العراقية في مسارها الفني الصحيح حين حملوا في الخمسينات أول لواء حقيقي للتحديث في تاريخها ليُكسبوها هويتها التي بقيت تعرف بها. كما أنه من قلائل أولئك الخمسينيين الذين عادوا إلى الكتابة بعد صمت جيلهم في أعقاب ثورة 14 تموز 1958، إلى جانب أبرز أعلام ذلك الجيل العائدين، نعني فؤاد التكرلي. والصقر لم يكتف بهذه العودة- كما هو الأمر مع التكرلي- بل لم تمض سنوات قلائل حتى اقتحم عالم الرواية السحري وقدم عمله الطويل الأول “الشاهدة والزنجي”- الصادر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد في سنة 1988.
كان من الطبيعي، حين تفتح الكتاب وتطالعنا، في صفحة مستقلة، عبارة “حكاية امرأة حالمة في زمن متوحش”- الرواية، ص5، أن تنقاد قراءتنا بدرجة أو بأخرى ومن حيث أردنا أم لم نرد، بهذه العبارة وبما يمكن أن توحي به مما قد يجد استجابات له في وعينا وفيما اختزنه من جهة، وبما تومئ به الرواية بتفاعلها مع (أنا) القارئ ووعيه من جهة أخرى. وربما من هنا جاء قول الدكتور علي جواد الطاهر إنك إذ تقرأ العبارة في صدر الكتاب، فكأنك “تقرأ كل شيء فيه”. فهل تقول العبارة فعلاً ما تريد أن تقوله الرواية؟ نعم، ولا.. فهي تلتقي معها، ولكن دون أن تغلق على القارئ مهمة الاكتشاف الذي تهيئه الرواية له ولكن لا تضمن له في الوقت نفسه أن يوصله هذا الاكتشاف إلى كل شيء.. ببساطة لأن القارئ سيكتشف سريعاً أن الرواية هي أكبر من أن يقدمها عنوان، ومن أن تلخصها عبارة، بل من أن تصل إلى ما فيها قراءة واحدة، أو قراءتين. والواقع لو كان هدف النقد شرح النص أو إيضاحه، لما وجد ناقد “الشاهدة والزنجي” مهمته عسيرة، مع أنها لن تكون سهلة أيضاً، لكن “مهمة الناقد ليست إيضاح النص وشرحه كموضوع، بل بالأحرى كشف آثاره على القرئ” على حد تعبير ولفغانغ أيزر الذي يرى، ونرى معه أن “القارئ، إذن، ملزم بسبب من الطبيعة الناقصة للنص بربط قيم البطل… بمعايير مختلفة ينتهكها البطل في أحداث معينة. والقارئ وحده يستطيع أن يحقق الدرجة التي ترفض عندها بعض المعايير أو تكون موضع سؤال”، خصوصاً إذا ما تجاوز السطح الذي قد يكون زائفاً، نعني ما يبدو من ظاهر الشخصيات والسلوكيات والظواهر والأحداث، إلى العمق أو الجوهر الذي قد لا يبدو لأول وهلة لنا. وكل ذلك يرتبط بالطبع بوعي القارئ للوسائل الفنية ، أو لنقل بالكيفية، التي بها يقدم العمل نفسه.
(2)
“الشاهدة والزنجي” قصة بحث عن قاتل أسود البشرة، بالاعتماد على شاهدة وحيدة يتحتم عليها البحث عن وجهه بين مئات الوجوه السود لعسكريين أمريكيين تُعرض عليها. أما مَنُ هذا القاتل؟ ومن هي الشاهدة؟ أو بعبارة أخرى مَنُ يمثل كل منهما؟ فإنها تساؤلات، تعلّقاً بالواقع الذي نفترض أن الرواية تنطلق منه، قد لا تكون واردة . لكنها تفرض نفسها علينا هنا حين نجد الكاتب يخالف بما يقدمه من وقائع أولية وقائع التاريخ في الفترة التي ربط الكاتب نفسه وعمله بها. قد يقال، بموضوعية وليس بتبرير مجرد، إن الرواية بأحداثها وشخصياتها وأجوائها متخيلة وليس من أساس حقيقي لها غير الفكرة أو الثيمة ودلالتها، خصوصاً إذا ما اتفقنا على أنه “لا يمكن أن تكون هناك واقعية إلا إذا تركنا فيها حصة للخيال وأدركنا أن الخيال هو قائم على الواقعي، وأننا لا نرى الواقع إلا من خلاله”. يبدو الأمر مقنعاً قبل أن نصطدم بما يقلل بعض الشيء من مشروعية هذا الطرح. فورود إشارة صريحة إلى انتهاء الحرب العالمية باندحار هتلر قبل شهرين من بدء أحداث الرواية بما يعني أن أحداثها تقع ما بعد الحرب العالمية الثانية في ما يبدو واضحاً أنه العراق حتى وإن لم يسمِّه الروائي، يضع الكاتب وروايته أمام مساءلة ومحاججة تاريخية لا مهرب منها حين نواجَه بوجود الجنود الأمريكان، وهي المحاججة التي ما كان لها تفرض نفسها لو أن المؤلف قد جعل الجنود الأمريكان، الذين ما عرفنا لهم وجوداً في العراق من قبل، إنكليزاً ونحن جميعاً نعرف أن الإنكليز قد احتلوا العراق. والواقع أننا لنحار أمام هذه (الإشكالية) الشكلية التي نُجبر على التوقف عندها دون التوصل إلى حل لها. لكن ما يخفف من تأثيرها، خاصة في القارئ الناقد هو أنها لا تعرقل مسار القراءة الواعية للرواية وتلقيها والاستمتاع بها والاستجابة لخطابها، خصوصاً أن الكاتب يركز على الأبعاد والجوانب الإنسانية، بمعنى التي تخص الإنسان بمدلوله العام أو المطلق، أكثر منه على المحلية التي يفرضها (الواقع) المفترض، مع عدم تخليه عن النفس المحلي الجميل والممتع الذي يُكسب الشخصيات والأشياء وعالم الرواية حياة وصدقاً ونكهة خاصة. وهذا الأمر يتجسد بشكل ثنائية بظننا يصعب التمكن منها عادة، وهي تتمثل هنا في البساطة الظاهرة لهذه الشخصيات من جهة، والعمق في دلالاتها عبر أفعالها وكلامها وأدوارها في حركة الرواية من جهة ثانية.
(3)
يرسم الصقر شخصية الرواية المركزية، امرأة، أو (فتاة) بسيطة حد السذاجة لا منحرفة ولا ساقطة، مع أن الفعل الذي تأتي به، في عزله عن صاحبته وسلخه من عالم الرواية وخطها، قد يصنف اجتماعياً أو أخلاقياً على أنه انحراف أو سقوط. فالكاتب يغلف هذه الشخصية ببراءة تستحوذ عليها، هي برأينا براءة الروح، ليقودها إلى ما سيبدو لها أنه يلبي حلمها الذي فقدته يوماً وتفتقده كل يوم منذ أن زُوجت برجل عجوز وهي بعد، في شخصيتها وتفكيرها وعواطفها ونوازعها، وتبعاً لذلك في سلوكها، أقرب إلى الطفولة منها إلى البلوغ، بينما تكتشف متأخرة، أو لنقل في بلوغ مفاجئ ومتأخر، وهي تسترجع فعلها ومعاناتها وسذاجة تصرفاتها وتفكيرها، كم كانت طفلة، “حسون كان دائماً يقول إنك طفلة يقولها بحنان كأنه أبوك وليس زوجك حسون”- ص129.
إذن وبإبعاد كل هذه الأنساق والمفردات وبسلخ الفعل من الرواية، لا نرى في (نجاة) غير فتاة انساقت وراء رجل لم تعِ أنه عرف كيف يدغدغ مشاعرها بأمل بناء عالمها الحلمي واقعياً، ليقودها بزمام سذاجتها أو نقائها إلى أحضان جنود سود أمريكان كانوا يلهثون لإطفاء شبقهم الجنسي، ومن ثم لتجد نفسها في مأزق بدا لا مخرج لها منه، حين يقتل أحد هؤلاء العسكريين أخرَ، ويكون عليها، بوصفها الشاهدة الوحيدة، أن تتعرف على هذا القاتل من بين وجوه العسكريين السود. وتعي فجأة أنها في عالم متوحش يشترك في تكوينه كل مًن حولها، وهي بعد ليس لها غير أحلام لا تناسب هذا العالم، إلى المصير الذي آلت إليه، وهذا هو ظاهر فعل (نجاة) وهو بدوره ظاهر الرواية الواقعي. ولكن هل يكون مقبولاً الحكم على أي فعل أو واقعة أو شخصية بمعزل عن وسطها داخل العمل الفني الذي ترد فيه؟ نعتقد أن هذا سيكون حكماً من خلال الظاهر، وهو ما لا يكون مقبولاً عموماً، كما أنه لن يكون مقبولاً من القارئ حين يعيش الرواية بعالمها ومسارها، ويحس بوضوح أن القضية هي أعمق من هذا الذي تبدو عليه لأول وهلة. إنها من وجه من الوجوه قضية “امرأة حالمة في عالم متوحش” التي نقرأها في مقدمة الرواية، ولا تتكرر بعد ذلك في لفظها، كما لا تُقال بشكل مباشر، لكن معانيها ودلالاتها تترى بالتسلل من خلال سياق الرواية كله وما خلفه هذا السياق، ليترسخ ذلك تدريجياً وتحديداً عبر مركزية سلسلة زيارات (نجاة)– مع أمها أو بدونها- برفقة المترجم (توفيق) إلى المعسكر الأمريكي للتعرف على القاتل. فمن الواضح جداً أن هذه الزيارات ليست حدثاً أو أحداثاً مجردة، بل هي أكثر من ذلك بكثير، ولذا ليس أمراً غريباً أن تقوم الرواية عليها.
(4)
ومن خلال التقابل الذي نراه في كل زيارة من زيارات (نجاة) إلى المعسكر بين صورة المرأة، في بساطتها وضعفها وخوفها، والكولونيل الأمريكي المشرف على التحقيق، في سطوته وعنجهيته وقسوته، يتحقق شيء لا نريد أن نقول إن المؤلف قد أراده، ولكنه بالتأكيد مما يمكن أن توحي به الرواية ويتصوره القارئ، ذلك هو سقوط إحدى هاتين الشخصيتين، نعني شخصية الضابط الأمريكي بكل ما تمثله، وسمو الشخصية الأخرى، نعني شخصية (نجاة) بكل ما تمثله. هي ثنائية المرأة الحالمة والعالم القبيح.. وهي ثنائية القوي ظاهرياً المنحدر حقيقة، والضعيف طاهراً السامي جوهراً. باعتقادنا أن هذه الثنائية تحديداً هي واحدة مما أرادت الرواية أن تقولها. والحقيقة أن من جميل ما فعله الصقر أن وضع طرفي هذه الثنائية جنباً إلى جنب دون أن تصريح أو تلميح إلى أنه يريدك أن ترى ما يصنعه هو، بل أن تكشف أنت بقراءتك شيئاً من هذا، فهو لا يلجأ إلى عقد أي مقارنة أو حتى تنفيذ أي احتكاك مباشر ما بين طرفي المعادلة. بدلاً من ذلك كان هناك عنصر يلعب الدور الرئيس في إيصالك إلى ما تصل إليه تعلقاً بذلك، نعني شخصية المترجم (توفيق) الذي يكون دوماً ما بين الاثنين، خاصة حين تجد نفسك تستمع مع (نجاة) إلى ما يقوله ترجمةً لا لما يقوله الكولونيل فحسب، بل لحقيقة هذا الكولونيل التي تتكون عبر التغير والتبلور الذي يتكون، وأنت تمضي في القراءة، لتتحول بعد ذاك إلى شخصية (نجاة) ويتكون لديك بنفس الطريقة ما قد يكون بعيداً كل البعد عن الانطباع الأول الذي قد يتركه فينا، في موقف أو ظرف آخر، فعلها الشائن:
“سمعته [الكولونيل] يتمتم بينه وبين نفسه وهو ينظر إليها:
“- سو.. ذسّ إز ذا بيج.
“لم تفهم كلماته، لكنها أدركت من نبرة صوته أنه قال شيئاً رديئاً عنها… وحين توجهت بنظراتها متسائلة إلى وجهه [المترجم]، لعله يوضح لها ما يدور حولها من كلام، رأته يهرب مرتبكاً منها بعينيه، فأدركت مصدومة كم كانت هي وحيدة وعاجزة”- الرواية، ص 25.
فأنت لا تستطيع وأنت تتابع البطلة في مثل هذه المواقف، المكررة بأبعاد أكثر وأكثر ولكن مع ترسيخ للجوهر الذي تريد، إلا أن تتعاطف معها متجاوزاً طيشها- حلمها- لأنك تبدأ تنظر إلى الجوهر الذي إن فقده الإنسان فقد إنسانيته، كما هي حال الكولونيل الأمريكي. وهي لم تفقد شيئاً من ذلك، بل أن جوهرها لم يُمسّ، وهو يتمثل في كل ما تأتي به، خاصة في محاولات تعرفها على القاتل، وما تفكر فيه حول ذلك وحول كل شيء، بينما لا تحس أن هناك خطيئة ارتكبتها، بل ارتُكبت في حقها. وحين تبدأ حقيقة هذا العالم تتكشف لها لتغير وعيها وأحاسيسها، فإن هذا التغيير لا يمس إلا السطح الظاهر، صورتها وملامحها، بينما يبقى الجوهر نقياً ينبض بالإيمان بالحياة والناس بالرغم من أن صدمتها بما تراه من آثار هذا التغيير، كما تلاحظها على نفسها:
“راحت تتمعن في ذلك الوجه المنسحق المهان الذي فاجأها وسط الزجاح: يا إلهي! هل هذه الامرأة أنا حقاً؟ ما الذي جرى لي!؟ متى انطفأ البريق في العينين!؟ في أي يوم.. في أية ساعة!؟ ولمن هذا الوجه المعفر بالتراب!؟”- الرواية، ص 66.
وهي حين تكون في أقسى لحظات حياتها، ويكون في مقدورها أن تخرج سليمة من المأزق الذي حوصرت فيه، بأن تشير إلى من قد يكون هو القاتل من بين الوجوه السود التي تشبه ذلك الوجه الذي رأته مرة بصورة خاطفة، فإنها لا تفعل ذلك، لأنها تؤمن في أعماقها أن ذلك لا يخرجها، في الحقيقة، سليمة إلا جسدياً أو ظاهرياً، أما الجوهر فسيُنسف بالتأكيد ليعني نهايتها إلى الأبد، فتقول لـ(توفيق) ببراءة ونقاء:
“- أخاف أغلط.. أشير إلى شخص آخر غير الجاني، فيعدموه على كلامي”- الرواية، ص70.
هي بدلاً من ذلك ترجع إلى نقاء رؤيتها للعالم والأشياء من حولها، وإلى براءة أحلامها لتتشبث بأمل بديل يبدو لها في شخص (توفيق). ففي قمة يأسها، والتعب يأخذ منها كل مأخذ تبرق فجأة ومضة في داخلها حين تنتبه إلى كلماته الرقيقة وتعامله الخاص وتعاطفه الواضح معها كلما تشتد الأمور عليها، وكل ذلك مع إيحاءات لا تخطئها المرأة عادة تتعدى التعامل اللطيف والتعاطف، ليبزغ الأمل في داخلها فيه وفي حلم بحياة جديدة تبعدها عن كل سوداويات عالمها، وليس مهماً أن تكون تلك الحياة الحلم في بلد (توفيق) ما دام بعيداً حيث لا يعرفها أحد غيره ولا تعرف هي غيره.. المهم أن تعيش حياة بلا خوف، ولا كوابيس، ولا ظلم، وعلها فوق ذلك كله أن تبني حياة جديدة لها فعلاً في ذلك العالم الجديد. لكن ومضة الأمل الوحيدة هذه التي تبزغ في ظلمة حياتها سرعان ما تخبو هي الأخرى حين تكتشف أنها ليست بالنسبة للرجل أكثر من امرأة تهيأ له أن ينالها ففعل، حتى وإن لم يكن في فعله وسلوكه معها ليقصد إيذاءها، فهذا ليس مهماً في ظرفها، بل المهم هو أنه قد آذاها، إذ هولم يفكر في انتشالها لأنه، وإن لم يكن سيئاً، لم يميز منهالا جوهرها، بل هو رأى السطح، الأنثى التي فيها، وربما هو ما كان ليعنيه إلاّه، فيضيع منها بذلك كل شيء، وتنكفئ من جديد، وفي هذه المرة تكون القاضية، مع أنها لم تتركها تكون قاضية لها، كما سنأتي إلى ذلك:
“كل شيء تتعلقين به يغدو وهماً في اللحظة التالية… ماذا بقي!؟ لو أنهم قتلوك أنت أيضاً في تلك الليلة لجنوبك كل هذه المهانة والتمزق”- الرواية، ص129.
(5)
ولعل من جميل ما يتحقق بين القارئ والرواية أننا نصل إلى قمة تعاطفنا مع بطلتها، تماماً حين يبدأ في داخلها بالانهيار، وبعد أن يزول كل أمل في إيقافه.. لماذا يكون هذا؟ لربما نتيجة تعاطف غير منظور، أو على الأقل غير مباشر، معها، وربما لأننا نصل إلى الجوهر الذي تمثله، بالرغم من خطيئتها، وربما بسبب القسوة والعنجهية والاإنسانية التي يمثلها القطب المقابل، الكولونيل الأمريكي.. المهم أن من جميل ما يتحقق ونحن في خضم الانشغال بما يجري في الرواية ولبطلتها التي تكاد تقضي، هو إحساسنا بأننا نكاد نفقد عزيزاً علينا، مع قناعة بأنها لا تستحق النهاية التي تبدأ ملامحها بالارتسام والتشكل. هذا التشكل يبدأ عبر تداعيات البطلة نفسها وحواراتها الداخلية، مع أن الرواية مروية بضمير الغائب، ذلك أن وعي الشخصية هو في الحقيقة الفاعل والمشتغل والمهيمن على مسار الأحداث وعلى تطور الانفعالات والأحاسيس التي تنبض بها. والصقر هنا يلتقي متأثراً أو غير متأثر مع فؤاد التكرلي، خاصة “الرجع البعيد”، وكلاهما يعكسان أسلوباً جويسياً وفوكنرياً:
” تنحني عليها أمها وتقبّلها في جبينها. تحس رطوبة الشفتين الدافئتين لبعض الوقت. ما كنت تتصورين أمك الشرسة تحمل في ثنايا قلبها كل هذا الفيض من الحنان. كنتِ، منذ الصغر، ترينها وحشاً مخيفاً يترصد حركاتك… ما كنت تعرفين أنها تحبك كل هذا الحب. أنت دائماً تكتشفين حقيقة الأشياء متأخرة”- الرواية، ص132.
ولأن جوهرها يبقى نقياً بالرغم مما ألحقه بها الزمن المتوحش، تقرر تحمّل مسؤولية ما ارتكبته وما سببته من ألم لأناس تحبهم، والسير بانسحاق وشبه خذلان في طريق اختارته كما اختارها، لتكون نهاية للرواية جميلة ومعبرة:
“يجب أن لا تدع أحداً يشعر بها وهي تغادر البيت عند الفجر، وخصوصاً أمها… تنتبه أمها بعد قليل وتقول لها: ابنتي الغرفة حارة… أفرش لك في الفناء؟
“- مثلما تريدين.
” لتترك لأمها هذه المتعة الصغيرة.. متعة القيام بعمل من أجلها.. لقد أتعبتها كثيراً. حان الوقت لتضع حداً لكل هذا التعب.. تعبها هي وتعب الآخرين نم حولها. سوف يجن الكولونيل عندما يسمع النبأ. تود لو تستطيع أن ترى وجهه… تدخل عليها أمها:
“- الفراش حاضر بنتي.
“تترك سريرها وتخرج إلى الفناء، وتستلقي على الفراش الممدود على الأرض”- الرواية، ص138.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *