ملاحظات في حزن الثقافة المرير

ملاحظات على
“حزن الثقافة المرير”

د. نجم عبدالله كاظم
نشر الشاعر ياسين طه حافظ قبل مدة، مجموعة من المقالات تحت عنوان “حزن الثقافة المرير”، نشرها في جريدة (المدى) التي جمعتها الجريدة بعد ذلك في ما يشبه الورقةً وطرحتها في ندوة عقدتها للنقاش، وكنت أحد المشاركين فيها، فكانت مداخلتي التي طورتها إلى المقالة القصيرة.
لا بد أن أشير بداية إلى أنني، كوني لست سياسياً ولا محللاً سياسياً ولا حتى معنياً بالسياسة، سأعنى بالورقة بما طرحته بوصفها انشغالاً ثقافياً أو مثقفياً، إن صح التعبير. وتعلقاً بذلك ستقوم ملاحظاتي، بعبارة أخرى، على الثقافة والمثقف ولاسيما العراقيَيْن، وستكون على علاقة غالباً بمحتوى كتابي “هومسيك.. الوطن في غبار المبدعين”، والذي هو عبارة عن وجهات نظر خاصة بما رأيته سلبيةً من المثقفين العراقيين تجاه ما حدث ويحدث للعراق، بشكل خاص في المدة الممتدة من غزوه وسقوط بغداد وحتى بداية سنة 2008 حين انحسر العنف عنّا بعض الشيء. فتواصلاً مع بعض ما طرحتُه في هذا الكتاب، وفي ضوء قراءتي لورقة ياسين طه حافظ المعنية تأتي ملاحظاتي الآتية:
الملاحظة الأولى:
يُقال في علم النفس إنك إن أردت أن تغادر عادةً أو سلوكاً أو عيباً أو سلبيةً أو خطأً ما فيك فعليك أن تمر بثلاث خطوات هي: أولاً أنْ تشخص هذا العيب أو السلبية أو الخطأ، ولا يمكن لذلك كله أن يكون بالطبع، وكما هو واضح، إلا ضمن نقدك للذات. وثانياً أنْ تقرّرَ، بعد الاقتناع بأن المشخَّص هو عيب فعلاً، أنْ تغادره وتنبذه أو تستبدله بالبديل المناقض. وثالثاً أن تُقدِم على الفعل، بعد ذلك وبعد التسلح بالأدوات اللازمة والملائمة بالطبع، بإصرار وبدون تردد.
والآن أعتقد أننا إذ نجد ورقة الشاعر ياسين طه حافظ تشتمل، إلى حد كبير، على الخطوة الأولى، نعني تشخيص العيب، مع أن هذا غير متحقق عملياً عند الغالبية العظمى من المثقفين، فإنها، أعني الورقة، لا تقرر، بخطوة ثانية، التجاوز والمغادرة. في الواقع هي تدعو إلى شيء من هذا، ولكن بشكل حيي وبالتفافات واتّباع طرقٍ غير مباشرة، وبدون ما يمكن أن يكون خارطةَ طريقٍ مقترحٍ، وأعتقد أن لهذا علاقة بطبيعة الشخصية العراقية، بما فيها الشخصية المثقفة، التي ترفض أن ترى الخطأ، وإنْ هي رأتْه فإنها غالباً لا تقرّ به، بل أكثر من ذلك قد تقول بالعكس منه، كما فعل مرةً، مثلاً، الدكتور إبراهيم الجعفري حين قال بثقة لا يُحسد عليها: “لقد صار العراق في طليعة بلدان المنطقة، بل في العالم”. ونحن نعرف أن العراق صار في ذيل البلدان من جميع نواحي التقدم والتطور، سياسةً أمناً وعلماً وتعليماً وزراعةً وصناعةً وصحةً ونظافةً… إلى آخر القائمة، ووفقاً لذلك كان الجعفري سيكون مقنعاً لو أنه أقر بوضع العراق المأساوي ووعد بالإصرار على الخروج منه إلى ما هو أفضل، ومثل ذلك ينجر على جل سياسيينا ومسؤولي حكوماتنا المتعاقبة في هذا الزمن الرديء، بل على بعض مثقفينا. وهكذا، وبوجود الخطوة الأول فقط، من الخطوات اللازمة للتجاوز والتغيير، وعدم وضوح الخطوة الثانية صراحة، ليس لنا أن ننتظر الخطوة الثالثة والأخيرة، نعني الإقدام على التغيير وإصلاح المسار. وتعلقاً بالمثقفين أنفسهم، لا بالورقة تحديداً، أقول، وأنا أرى غالبية هؤلاء المثقفين لا يُقدمون حتى على الخطوة الأولى، نعني تشخيص الخطأ والسلبية، ولا يعترفون بشيء منهما، أتساءل كيف إذن ننتظر منهم فعلاً حقيقياً. هل أقول ليس من أمل؟ بصراحة أتمنى أن لا أقول هذا ولكن أخشى أنْ ليس لي أن أتخطاه كثيراً.. باختصار اسمحوا لي أن أقول إنني لست متفائلاً بهم. ولكن لأنني لا أريد أن أكون، من حيث أعي أو لا أعي، ضمن هؤلاء السلبيين، أواصل قراءتي وملاحظاتي، في جهد متواضع ولكنه يُخرجني منهم خصوصاً وأنا أزعم أنني لم أكن يوماً، كما كانوا، سلبياً.
الملاحظة الثانية:
في عموم الورقة ينبّه صاحبها الشاعر ياسين طه حافظ إلى ضرورة احترام اليسار للآخر يمينياً ودينياً وتوجّهاً. وإذ تبدو هذه الدعوة وعياً افتقدتْه قوى اليسار طيلة عقود، نرى أن احترام الآخر المختلف، والذي لم يتحقق أصلاً، شيءٌ، والتحالف معه، كما فعل هذا اليسار في النهاية، شيء آخر لا يُضمن أن يكون صحيحاً وصحّياً. فأنْ نتفاهم مع الآخر، أياً كان، وقبولنا له أو به وضمان قبوله لنا وبنا أمورٌ لا جدال في إيجابيتها وعصريتها ورقيّها، وهي تعبّر عن وعي ونضج أعتقد أن غالبية الجماعات السياسية والقومية والعنصرية والدينية والطائفية، بل المثقفة وربما حتى التربوية، تفتقدهما. كما أن مثل هذا، إن استطعنا أن نحققه يجب أن لا يصل مزايدةً واندفاعاً وهوجاً إلى التحالف مع من لا يتسق مساره بشيء معنا، كما فعلته بعض قوى اليسار فعلاً قبل غزو العراق وسقوط بغداد وبعدهما، فرأينا كيف أن من تحالفت معه خطأً قد اكتفى باستغلالها قبل نبذها، بل البدء بمحاربتها، لتكون النتيجة انحسار قوى اليسار هذه بسياسييها ومثقفيها وجماهيرها باتجاه زوايا الحياة عامة والحياة السياسية خاصة.
الملاحظة الثالثة:
مقارنةً للثقافة بالحقول و(القوى) الأخرى، تحاول الورقة بيان مكانة الثقافة غير المهيمنة في ما تسميه “منطقة النفوذ والفعل المباشر” وقوى النفوذ الأخرى في تسيير الدولة، من اقتصاد وتجارة وسياسة ودين وغيرها، واقتصار هذه الثقافة، على ما تسميه الورقة، من ذلك، “مستوى الاعتراض المدني” وربما دخول المثقف “شريكاً ثانوياً في بعض المشاريع البعيدة عن الدفاع والأمن الداخلي والمالية”. وتضيف الورقة القول: “انتهى، هنا دور الثقافة في نشر الوعي والإثارة”. هنا أتساءل: ومتى كانت الثقافة ظاهرياً أقوى من تلك القوى الأخرى في أي مجتمع من المجتمعات، وفي أي حقبة من حقبات التاريخ؟ هي لم تكن كذلك في يوم من الأيام. فنحن نعرف أن الإقطاع، والمرجعيات الدينية، والملك، والحالكم المفوض من الله أو الآلهة قد تناوبت على الهيمنة على السلطة، في عموم المجتمعات وعبر كل مراحل التاريخ. وما قد يرد خلاف هذا، لتبرز الثقافة مهيمنةً، إنما هو من الاستثناء الذي يعزز القاعدة والتعميم ولا ينسفهما. لكن ما شكّ المثقف طوال التاريخ بالثقافة ولا اعتقد يوماً أنها غير قادرة على الفعل، ببساطة لأنها لم تمر بالعجز الذي تمر به الآن في العراق، لاسيما في العقود الأخيرة، وإلى حد ما في الوطن العربي عموماً وفي مراحل بعينها. وهي، أعني الثقافة، لم تشْكُ من قبلُ من عجز عن الفعل، لأنها لم تكن تشتغل وتفعل من خلال وجودها سلطةً مباشرةً، بل كانت تفعل من داخل تلك السلطات المهيمنة التي تشير إليها الورقة. فنحن ننسى هنا أن للثقافة عادةً تمظهرَيْن، واحدٌ بوصفها كياناً أو مظهراً قائماً بذاته، والآخر تمظهر ضمني، أي داخل تلك القوى الأخرى، اقتصاديةً وسياسيةً ودينيةً وغيرها. وهكذا كانت الثقافة تفعل فعلَها بواسطة الشعر، مثلاً، من خلال الهيمنة القبلية في عصور العرب القديمة. وهي سعت إلى الإصلاح الديني في السلطة الكنسية في أوربا من خلال اللوثرية في القرن السادس عشر. كما هي قد عملت الشيء الكثير داخل السلطة الشيوعية في حقبة الاتحاد السوفييتي، ونعتقد أن دور أدباء وفنانين روس أو سوفييت معروفة. وضمن مثل هذه التجارب لا ننسى ثقافةَ مصر ومثقفيها في عهدي ناصر والسادات، وأخيراً ما كان لها، وما لها الآن من دور كبير في ثورات ربيع العرب، حتى بوجود سلبيي المثقفين. إذن الثقافة كانت تعمل دائماً، ولكن من داخل السلطات المهيمنة والحاكمة نفسها غالباً، وهو مع الأسف ما لم ولا يتحقق في عراق اليوم إذ انسحبت الطبقة المثقفة بل دعوني أقولها بكل صراحة جبُنت بفعل سلبي غير مسبوق، وكل علّمٍ من أعلامها يجد لنفسه من الأعذار ما يُسّكن به نفسه وإحساسه بالخزي وتأنيب ضميره، ولا يدري أن غالبية أعذاره هذه إنما هي ضمن ما يلام عليها من سلبيات، توجوها بتوزّعهم ما بين الانكفاء على الذات، والسير، أو راء مصلحة هذه الذات، وهو ما قد يشتمني البعض على التصريح به، كما شتمني آخرون على تناوله في كتابي المذكور، بسباطة لأنهم لا يريدون الإقرار به، أو هم يهربون منه.
الملاحظة الرابعة:
بخصوص اتهامات الأحزاب والقوى السياسية لبعضها وتشخيص أخطائها، يتساءل الأستاذ ياسين “ما ذنب القواعد” وهي أخطاء قيادات هذه الأحزاب والقوى ولا ذنب لهذه القواعد فيها؟. وهذا برأي تبسيط للمسألة يوقِع صاحبها بما ننتظر من صاحبها أن يكون رافضاً له نعني سلبية الفرد بشكل عام والفرد المثقف بشكل خاص. وأنا هنا ودائماً ضد أن نسعى إلى إعفاء أنفسنا مما نسهم فيه بقصد أو غير قصد من سلبية وانسحاب من ساحة الفعل، وعليه أتمنى من شاعرنا وغيره من المثقفين أن يعتمدوا المواجهة والاعتراف بالسلبية ليستطيعوا بهذه الخطوة الأولى الانتقال إلى الخطوة الثانية، نعني أن يقرروا التجاوز، ثم الإقدام، في الخطة الثالثة، على الفعل. فأتساءل: كيف لا يتحمل عضو صغير في الحزب الشيوعي مثلاً أية مسؤولية وهو يرتضي، أو على الأقل يسكت، على تحالف حزبه اليساري مع أكثر الأحزاب والقوى السياسية معاداةً للانفتاح والتقدم والديمقراطية والعلمانية، وتبعاً لذلك أكثرها معاداةً لهذا الحزب؟ وهنا أتذكر أن أبي الفلاح، حين كان عضواً صغيراً في الحزب الشيوعي قبل ثورة تموز 1958 وبعدها، قد فعل ما يعذر الشاعر ياسين اليوم أناساً أكثرَ ثقافةً ووعياً ومكانةً منه، حين رفع والدي صوته معترضاً على بعض ممارسات الحزب الخاطئة آنذاك. ومع أن ذلك الأمر قد قاده إلى الفصل من الحزب، فإنه قد سجل به موقفاً نعتقد أنه، حين يكون عامّاً، ولنقل حين تُتاح لأصحابه أن يتخذوه، يمكن أن يحقق الشيء الكثير الذي لا نجد فئة النخبة، نعني المثقفة، اليوم تجبن عن السعي لتحقيقه.
الملاحظة الخامسة:
يتعرض الأستاذ ياسين طه حافظ، في مكان آخر من ورقته، لهيمنة المال والأغنياء على العالم، لينتهي إلى القول: “ستُزعزِع هذه المعرفةُ المثقفَ وتُريه موقعه تماماً! ومثلما يؤسيه ذلك الحال، فهو حال يزيد بالتأكيد من لا مبالاته أو، في أحسن الأحوال، من وجعه الروحي”، وهنا كأني بالأستاذ ياسين يعلل ويبرر في الوقت نفسه للمثقف العراقي سلبيته وسلبيته التي وصلت درجة لا أظن أن المثقفين، لا في العراق ولا في الوطن العربي ولا في العالم، قد وصلوا إليها من قبل. تعليقاً على هذا أقول- إن كان فهمي لكلام الأستاذ ياسين على أنه تبرير”، كان يجب لهذا أن يؤدي بالمثقف العراقي إلى العكس، بتعبير آخر: أن يكون صاحب قضية cause وبها يكون صاحب موقف position وفي النتيجة يكون صاحب فعل action وهو ما لم يكنه إلا بشكل هامشي وعبر نسبة قليلة قليلة جداً من فئة المثقفين الذين ارتضوا، بديلاً عن ذلك، بالانزواء وبشخصية (المثقف اللاعضوي)، أو بالدعة في أقاصي الدنيا. هنا نعتقد أن ياسين طه حافظ يُسقط، حتى وإن لم يُرِدْ، أعذار المثقفين السلبيين وتبريراتهم، ويُثبت إمكانيةَ أن يكون المثقف صاحب قضية، وفي ضوئها صاحب موقف، وفي النتيجة صاحب فعل، أقول إن صاحب الورقة يُسقط أعذار المثقفين في سلبيتهم هذه ليكون بهذه المواصفات، وذلك بمجرد تقديمه ورقته هذه، فهو الفعل الذي عززته جريدة (المدى) بعقد ندوة مناقشة الورقة، مع أنه، أعني الشاعر، لم يستطع تجاوز الذات والقَبلية المتمثلة في في الدفاع عما لا يجب الدفاع عنه من سلبية المثقفين، وفي النتيجة أسقط الكثير مما كان من الممكن لورقته أن تكتسبها من تشخيصات، ووضع الأصبع على الجرح، واقتراح الحلول والعلاج، حتى وإن أشار بشكل حيي إلى شيء من ذلك.
وأخيراً،
وتعلقاً بهذا، يشخّص ياسين طه حافظ ما أَتّفقُ فيه معه من سلبية المثقفين أو على الأقل محدودية دورهم حين يقول عنهم: “هم بلا دور حقيقي في التغيير ولا في رسم المستقبل ولا في تصحيح المسيرة ولا في التصويب الأخلاقي”. فهذا هو ما يجب أن نعترف به ونقر به بلا تردد ولكني لن أقول بلا خجل، بخجل شديد.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

رعب كافكوي في قصص يحيى جواد

رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *