ملاحظات في ترجمة العنوان

ملاحظات في ترجمة العنوان
أ د. نجم عبدالله كاظم
(1)
لا بد بدايةً من القول إننا إذ نكتب موضوعنا هذا عن الترجمة، فإننا لا نعد أنفسنا مع هذا مترجمين حتى وإن كنا قد ترجمنا ولا نزال نترجم بين الفينة والأخرى بعض الدراسات والمقالات، لاسيما المتعلقة بالسرد والمناهج النقدية والنقد الأدبي عموماً. في الحقيقة أننا، وفي سياق دراساتنا المختلفة وانشغالنا الأكاديمي كان لنا شأن لابأس به مع المصادر والمراجع الإبداعية والنقدية الأجنبية المترجمة إلى العربية، والمكتوبة بالإنكليزية أو المترجمة إليها من لغات أخرى. ذلك كله، إضافة إلى الترجمات المحدودة التي أشرنا إليها في البداية أتاح لنا وقفات تمخضت عنها ملاحظات هي تحديداً نتيجة استقراء نصوص أجنبية مترجمة تعاملنا معها قراءةً ودراسة. وهي ملاحظات إذ نأمل أن تثير انتباه المترجمين والمهتمين بهذا الميدان، فإنها لا تدّعي في النتيجة الخوض في الاختصاص كما لا يدّعي صاحبها اصطفافه إلى جانب أهل الاختصاص من أساتذتنا وأصدقائنا وزملائنا.
مجموعة من هذه الملاحظات انصبت على واحد من الجوانب المحدودة التي استوقفتنا ذلك هو العنوان أو العناوين، أعني عناوين المواد الإبداعية والنقدية المترجمة، كتباً ومقالات وبحوثاً وروايات وقصصاً قصيرة… إلخ، وهو تحديداً ما كان في النتيجة موضوع هذه المقالة. إن ملاحظاتنا هنا ستنصب تحديداً على ما نراه أخطاءً وقع أو يقع فيها مترجمون، أو تحفظات ومآخذ على بعض ترجماتهم للعناوين. وفي كلا الحالين سيكون لاجتهادتنا النصيب الأكبر وبما يعني أننا لا ندّعي أو نصر على أن ما سنقوله وندلي به هو الصحيح وغير ذلك خطأ. ومن هنا نجد ابتداءً أن نوزع العناوين المترجمة من ناحية التوفيق والإصابة في ترجمتها أو عدمه إلى الآتي الذي سينطلق منه مقالنا لينصب كلامنا فيه على ما نختلف فيه أو ما نراه خطأً أو مجانبة للدقة، ليكون بديلنا الذي هو في الغالب، وكما قلنا، اجتهاد متواضع نأمل أن ينطوي، إن لم يكن في الضرورة صحيحاً، على غير قليل من الصحة، أو في أقل تقدير يثير المعنيين للتفكير في ما يطرحه مما يتعلق بترجماتهم:
أولاً: عناوين جاءت ترجمتها دقيقة، إذ حققت ما أُريد للعنوان أن يعبر عنه.
ثانياً: عناوين دقيقة نصياً وصحيحة صياغةً، لكنها قد لا تعبر عن المطلوب تماماً إذا ما عرفنا مضامين الموضوعات التي وضعت لها.
ثالثاً: عناوين لم تجئ ترجمتها دقيقة نصّياً، ولكنها مع ذلك معبرة عن المطلوب.
رابعاً: عناوين أخطأ مترجموها في ترجمتها، وكان وراء أخطائهم أسباب مختلفة.
وإذ لا نجد من حاجة إلى التوقف عند المجموعة الأولى أو التمثيل لها لكونها تمثل الأصل الذي يفترض أن يكون هو الاختيار حين لا يستدعي الأمر خلاف ذلك. وعليه فإننا سنتوقف بشكل خاص عند عناوين المجموعة الثانية أولاً، ولكن عبر تداخلها مع المجموعة الثالثة، قبل الانتقال إلى المجموعة الرابعة.

(2)
لعل واحداً من أشهر العناوين التي أثارت بعض الجدل حين خرج مترجمه عن حرفية الأصل الإنكيزي، بل عن الالتزام بدلالته عندما يُقرأ معزولاً عن موضوعه، عنوان رواية وليم فوكنر الشهيرة “The Sound and Fury” التي قام الكاتب الكبير جبرا إبراهيم جبرا بترجمتها في بداية الستينيات، إذ ترجمه إلى “الصخب والعنف”، وهي ترجمة جاءت مقنعة بالرغم من عدم التزام صاحبها، كما قلنا، بحرفية الأصل ودلالته الظاهرة معزولاً النص الروائي الذي وُضعت له. ولهذا فعندما ترجم نجيب المانع العنوان، بعد ذلك بسنوات، إلى “الصوت والغضب”، وكان مصيباً قدر تعلق الأمر بأصل ذلك العنوان ودلالته الظاهرة هذه وبمعزل عن موضوعه الذي هو هنا نص الرواية، فإنه لم يقنع أحداً. إن جبرا عندما فعل ما فعله فإنه، كان قد عرف فوكنر جيداً، وقرأ روايته بالطبع قراءة معمقة، وهو المتخصص باللغة الإنكليزية وبأدبيتها وبلاغتها ومجازاتها… والمتعمق باللغة العربية وطبيعتها مفردات وتراكيب. فوق ذلك كله هو عرف أن دلالات مفردتي “sound” و”fury” لا تعنيان “الصوت” و”الغضب” فحسب، كما قد يوحي معنياهما المعجميان، بل تتعديان ذلك. وهكذا فإن اختيارهما لم يأت غوى وميلاً مجردين، بل وعياً بمدياتهما الضمنية التي أُريد للعنوان أن يذهب إليهما. وربما ما يقال عن هذا الذي فعله نجيب المانع يقال عن ترجمة أحد المترجمين لعنوان رواية دستويفسكي “Letters from Underground” إلى “رسائل من القبو”، لتأتي بظني ضعيفة، مع أننا لا يمكن أن نقول إن المترجم قد أخطأ فيها لغوياً، وهي تكاد تغتال البعد العميق للرواية الذي نفترض أن النوان في الأصل قد عبر عنه، وعبرت عنه الترجمة المعروفة للعنوان إلى “رسائل من منزل الأموات”، أو “رسائل من بيت الأموات”.
وإذا لم يكن ما فعله نجيب المانع مع عنوان رواية فوكنر خطأً، وهو ليس كذلك بالتأكيد، فإن الالتزام بالحرفية كثيراً ما جاء خطأ فعلاً إذ أبعد العنوان عن التعبير عن موضوعه، كما هو حال ترجمة عنوان رواية ديستويفسكي السابقة، أو على الأقل جاء أضعف من أن يكون مقبولاً خاصة عندما تكون هناك ترجمة بديلة متحققة فعلا ومقنعة وفوق ذلك شائعة وقارة لدى القارئ العربي. من ذلك مثلاً ترجمة أحد المترجمين لعنوان كتاب فراي “Anatomy of Criticism” إلى “تحليل النقد”، وهي ترجمة لا نجد لها تبريراً، فكلمة “anatomy” تعني في أقرب معانيها “تشريح”، كما أن كلمة “تحليل” هي مصطلح قار في النقد العربي وهكذا دلالته على تناول العمل الإبداعي لا الوصفي أو النقدي. وفوق ذلك كله أن كتاب فراي مترجم من مدة ليست بالقصيرة تحت عنوان “تشريح النقد”، وهي بظني ترجمة مقنعة جداً، إلى جانب عدم خروجها عن دلالة مفردتيها.
وتقترب من هذه الأمثلة عناوين تُرجمت بصيغ أو أشكال لا يمكن أن نقول عنها خاطئة، لكنها جاءت مختلفة اختلافات غير مبررة عن ترجمات سابقة قارة، وعليه فهي تأتي غير مقنعة عادة، بل قد تسبب اضطراباً لا مبرر له، أو إيهاماً بغير ما يُراد لها أن تقدمه. من تلك الترجمات ترجمة عنوان رواية هنري جمس “The Turn of the Screw” إلى “شد البرغي” بدلا من “دورة اللولب” المعروفة، وعنوان قصة كافكا الطويلة “Metamorphosis” إلى “الانمساخ” بترجمة أحد المترجمين المتأخرين، بدلاً من “المسخ” بترجمة منير بعلبكي المعروفة من سنين طويلة، وترجمة عنوان رواية مارسيل بروست “In Search of Lost Time” إلى “البحث عن الوقت الضائع” بدلاً من الترجمة المعروفة “البحث عن الزمن الضائع”.
وفي مقابل التصرف المحدود المبرر الذي رأيناه متمثلاً في عنواني “الصخف والعنف” و”رسائل من منزل الأموات”، هناك التصرف غير المبرر بالعنوان، أو الذي يكون أضعف مما لو تُرجم نصياً. فمن ذلك مثلاً ترجمة عنوان رواية “The Death of the Heart” إلى “سكون القلب” بدلاً من “موت القلب”.
ونأتي إلى الخطأ في الترجمة، خاصة حين يكون بسبب عدم معرفة الموضوع الذي يعود إليه العنوان. من ذلك مثلاً ترجمة أحد المترجمين لعنوان كتاب فورستر “The Aspect of the Novel” إلى “أوجه الرواية” بدلاً من “أركان الرواية” الصحيح والمعروف في النقد العربي ، وترجمة آخر لعنوان رواية “On the Eve” إلى “في عشية” بدلاً من “في ليلة العيد”. ومن الأمثلة الطريفة ترجمة عنوان رواية فوكنر “As I Lay Dying” إلى “وأنا أستلقي محتضراً” وهو ما يبدو صحيحاً قبل أن يعرف القارئ أن الراوي المتكلم عن نفسه وعمن حوله إنما هو امرأة على فراش الموت، وعليه فالصحيح هو “وأنا أستلقي محتضرة”. ومن ذلك أيضاً ترجمة عنوان رواية أخرى لفوكنر هي “Soldiers Pay” إلى “رواتب الجند “بدلاً من “جزاء الجند” أو “مثوبة الجنود” أو حتى “عقوبة الجند”، وغن لم نمل إليه، حين فهم البعض، ومن قراءة العنوان فقط بالطبع، أن المقصود بمفردة “pay” الدفع المادي مما يتناسب مع الراتب، وهو خطأ تكشفه الرواية، إذ أنها عما يقاسيه الجنود في الحروب وفي أعقابها أو عما يصيبونه منها. وغير هذه الأمثلة كثير بالطبع.

(3)
حين نحاول البحث عن أسباب هذا الذي يحدث للعناوين المترجمة، خصوصاً في أخطائها أو عدم دقتها أو عدم إصابتها لدلالات هذه العناوين، فإننا نجدها عديدة، ولعل أهمها باعتقادنا ما يأتي:
أولاً: السبب الأول هو الذي يمكن أن نقول إنه موضوعي، بمعنى أنه لا يتعلق بالمترجم، بل بجنس العنوان- إذا جاز لنا استعارة هذه اللفظة من النقد- ذلك أن العنوان يمتلك استقلالية نسبية تشجع خطأً على التصرف بها. نعني هنا بترجمتها، بمعزل عن الموضوع الذي تتصدره، خاصة حين تأتي أصلاً خارج موضوعها، كأن ترد في سياق ما، أو في قائمة مؤلفات، أو ضمن مصادر… إلخ. كما أن العنوان في استقلاليته النسبية هذه إنما هو كناية تعبر عن الموضوع كله، ولذا فإنه عادة يحمل افتراضاً دلالات أوسع كثيراً من معاني مفرداته اللغوية أو الحقيقية، الأمر الذي قد يغري مترجمين أو ربما يفرض عليهم التصرف به ليصلوا إلى دلالته البلاغية، أو لنقل المجازية ليعبر بشكل ما عن الموضوع كله الذي قد يكون صفحة أو بضع صفحات أو كتاباً أو حتى مجلدات. ويجب أن نقول هنا إن مبررات المترجمين للتصرف هي عموماً مقنعة، بينما، ولكنها لا تمنحهم بالضرورة ضمانة التوفيق والإصابة في ما يختارونه أو يخرجون به من حرية التصرف التي يمارسونها.
ثانياً: تعلقاً بذلك يأتي السبب الثاني، وهو عدم قراءة الموضوع أو النص الذي يعود إليه العنوان، أو حتى عدم معرفة ما يكفي عنه، مما يوقع المترجم أحياناً في خطأ فهم المقصود من العنوان، خصوصاً في مجازيته أو كنايته.
ثالثاً: وعلى العكس، يأتي أحيانا ًعدم وعي المترجم بكنائية العنوان، فيتعامل معه ألفاظاً أو تعبيراً مستقلاً، وقد يتطرف في تحري الدقة لتقوده أحياناً إلى النصية السلبية، مما يفوّت عليه حقّه في التصرف بما يتناسب مع البعد المجازي من جهة، ومع أبعاد الموضوع الذي يفترض أن يعبر العنوان عنها أو عن بعضها.
رابعاً: ضعف بعض المترجمين أو على الأقل فقر تجاربهم. ولعل هذا أقل الأسباب تأثيراً، ربما لأنه ليس سهلاً على أيٍّ أن يُقدِم على الترجمة قبل امتلاك ما يتيح له ذلك فعلاً.
بقي أن نقول إننا أردنا من ملاحظاتنا، وكما نوهنا سابقاً، إثارة انتباه المترجمين إلى جانب معين في الترجمة الأدبية والنقدية، لعله يستحق توقفاً ومراجعة، منزّهين أنفسنا من الادعاء بإصابتنا بالضرورة في ما ذهبنا إليه.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *