حين يكون الموت موقفاً
استذكار الكاتب الراحل مهدي عيسى الصقر
د. نجم عبدالله كاظم
كان من المفترض لهذه المقالة، عن رحيل الكاتب الكبير مهدي عيسى الصقر في 14/3/2006، أن تظهر قبل أسابيع، لولا أنْ شغلَنا عن الموت موتُ. فقد انشغلنا عن موت الكاتب المأساوي بموت مأسوي آخر لفتاة شابة قريبة لنا ربما ما كان لها أن تموت بالمرض الذي ماتت به، لو كان في البلد حكومة ووزارات بسياقات وظيفية وحرفية لتعنى بهذا الشعب المتوجع. فموت الفقيد الصقر لم يأتِ فجأة، بل بعد زمن ليس بالقصير عانى خلاله المرض، وكنا أنا وغيري، ومنهم الروائية ميسلون هادي والكاتب النبيل الدكتور صالح هويدي، نسعى هنا وهناك من أجل أن ننبه الاتحادات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية لتفعل شيئاً، ولكن دون جدوى. وكان من الطبيعي أن يترك ذلك تأثيره السلبي العميق في الكاتب الذي نعرفه صاحب الحس الفني والإنساني العميق، وأحد أكبر رائدين من رواد القصة وكتاب الرواية في العراق، وصاحب “مجرمون طيبون”- قصص 1954- و”غضب المدينة”- قصص 1960 و”حيرة سيدة عجوز”- قصص 1986، و”الشاهدة والزنجي”- رواية 1988- و”رياح شرقية، رياح غربية”- رواية 1998 و”بيت على دجلة”- 2006، وغيرها.
في تلك المرحلة، مرحلة اليأس وانتظار الموت وربما الرغبة فيه، وقبل وفاته بثلاثة أو أربعة أيام زرته أنا والروائية ميسلون هادي لنجده صامتاً ومكتفياً بالنظر إلينا وبأنين خافت، ليترك فيّ إحساساً هو من تلك الإحساسات التي تعودنا على انتقالها إلينا من قراءة أعماله الإبداعية، فكان كأنه يعبر من خلال ذلك الصمت العميق والنظر الناطق والأنين الخافت الحيي الذي ينفلت خفيفاً من بين شفتيه عن تأسٍ ورفض للتواصل، ينطويان على موقف من الحياة كما هي تجري، سواء أكانت له شخصياً- المرض وعدم تلمس الاهتمام الكافي الذي يستحقه ممن يُنتظر منهم أن يهتموا بثروة البلاد من العقول- أم للوطن والناس في هذا الزمن المريض والرديء. ولذا ليس غريباً أن رسالته من خلال هذا الموقف قد وصلت حتى إلى البعيدين عنه، فقد قرأت عن رحيله عموداً للصديق الدكتور صالح هويدي في جريدة الخليج الإماراتية، يعبر فيها عن حزنه وألمه وغضبه إذ رأى محقاً أن وضع العراق المأسوي الذي صار “ساحة للفعل الوحشي” وإهمال وعدم التفات الدولة “المنشغلة بهندسة التوافق” قد أصابت الكاتب الكبير الراحل مقتلاً، حين تلبسته نتيجة لذلك “حالة حدّت من حركته وأفقدته القدرة على النطق، على حد تعبير صاحب العمود. هنا أقول للصديق الدكتور صالح: إن هذا الإهمال لم يصب الأدباء وحدهم.. بل الذي رأيته وتراه أيها الصديق العزيز يصيب اليوم كل الشعب العراقي، ومنهم قريبتي الشابة المسكينة التي هي بلا شك واحدة من آلاف الشباب الذين قد نراهم ولا نحسهم. ولكن الذي يفضح هذا الإهمال ويعيد إلينا القدرة على الرؤية والإحساس بمآسي الناس، أنه يصيب أولئك الممتلئين أكثر من غيرهم حباً للناس وإحساساً بالأشياء من حولهم، أعني من يمتلكون موهبة أو شهادة أو كفاءة أو قدرة غير عادية على خدمة العراق. ففي العراق الجديد لا يعني أن تمتلك مثل قلب كهذا ومثل هذا العقل شيئاً إن لم تكن قريباً من مركز قوة قومية أو دينية أو طائفية أو حزبية أو أمنية أو أجنبية، ويا محلاها لو كانت أمريكية. وكل ما عدا ذلك ليس له مكان في عراق اليوم، عراق الحكومات غير الحاكمة، والقوى الأمنية غير القادرة على توفير الأمن للشعب، عراق الاغتيالات والخطف والمفخخات، عراق النهب والسرقة، عراق الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني المضحكة المبكية. فما مات مهدي عيسى الصقر وحده في غفلة أو بدراية من الحكومة والاتحادات والمؤسسات الصحية والاجتماعية والثقافية الحكومية وغير الحكومية، وما نال وحده إهمال الدولة، بل هو واحد ولك أن تضع ما تشاء من أرقام على يمين الواحد لتقترب من أعداد من يفقدهم العراق قتلاً واغتيالاً أو خطفاً أو طرداً من الوطن.
ألم ييأس يوسف الصايغ، أحد أكبر الشعراء العراقيين، ويغادر الوطن ليموت في سورية؟
وألم يلجأ شيخ مدربي الكرة العرب، عمو بابا إلى مستشفيات عمّان منتظراً من يمد له العون من غير العراقيين بعد طول إهمال في بغداد؟
وألم يُقَل لأكبر أطباء الجملة العصبية العرب، سعد الوتري: ليس لك مكان بيننا؟
وألم يُغتل الدكتور الدوري رئيس جامعة بغداد السابق، والدكتور مهاوش عميد كلية الهندسة في الجامعة المستنصرية، والمئات من الأطباء وأساتذة الجامعات العراقية؟
وألم يمت رائد الأغنية البغدادية رضا علي في غفلة ونسيان الدولة؟
حقاً إذا كانت فخرنا بالأمس علومنا وآدابنا ومغازينا، فإن القتل والخطف والتفخيخ وإهمال مؤسسات الدولة والمجتمع اليوم مخازينا. فمن لم ينل منه الإرهاب والعصابات، ولم يقع ضحية مفخخة، ولم تصبه رصاصة عمداً أو خطأ، فإن الإهمال كان له بالمرصاد، وفي طليعة هؤلاء الذين نفقدهم اليوم الأدباء والعلماء وأصحاب المواهب والعقول، حتى بتنا نرى الآلاف من هؤلاء يشدون الرحال نحو الحدود يائسين، لينظموا إلى من ظننا أنهم سيعودون إلى الوطن بعد (التحرير) الأمريكي. وهكذا إذا كان قد اعتصر قلبنا موتان، فإنما هو موت عام يجتاح العراق، ويتسلل إلينا ومن بيننا ليخطف من يشاء في غفلة أو علم ممن يستطيعون أن يفعلوا شيئاً لو حركتهم همم المواطنة العراقية والمسؤولية، لا همم الرغبة في الكراسي وتغليب الذات والانسياق وراء أنوية الدين والقومية والدين والطائفة والحزب.
أخيراً ليس لنا إلا أن نقول: رحم الله الشابة رنا غسان، وكل ضحايا إهمال مؤسسات الدولة والمجتمع خاصة من الشباب والأطفال في زمن الحرية. ورحم الله الكاتب الكبير مهدي عيسى الصقر، وكل ضحايا إهمال مؤسسات الدولة والمجتمع من الأدباء والعلماء وأصحاب الكفاءات والمفكرين في العراق الجديد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.