((مطر أسود مطر أحمر)) لإبتسام عبدالله
نبضات ألم وإيقاع شجن
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
بعد “فجر نهار وحشي”- 1984- و”ممر إلى الليل”- 1986- تأتي رواية الكاتبة العراقية إبتسام عبدالله الثالثة “مطر أسود مطر أحمر”- 1994- لتؤشر قواسم مشتركة ما بين الروايات الثلاث، ولكن بوجود ما تختلف فيه عن التجربتين السابقين. وعموماً وقبل الدخول في العمل التحليلي للرواية الأخيرة التي بين يدينا، يمكن أن للقارئ أن يتحسس بوضوح المكابدة وإرهاصات الموضوع وتكونه من خلال تمازج الموضوع الخارجي مع ذات الفنان/الكاتبة، لتكون النتيجة موضوعاً ملائماً للعمل الروائي من جهة، وبناءً فنياً ملائماً لهذا الموضوع ثانياً. ولعل هذا ما يحاول عنوان مقالنا، ابتداءً، التعبير عنه، من خلال نبضات الألم في الموضوع قبل تكييفه للعمل الروائي وبعده، وإيقاع النص بما يعبر بشجن عن تلك النبضات. ومع أن نتائج مثل هذه المواءمة ليست مضمونة دائماً، فإن إبتسام عبدالله قد استطاعت أن تحققه متجاوزةً بعض ما نراه عدم اكتمال، في ذلك، في روايتيها السابقتين، حين افتقد خطّاها الدراميان ما نسمح لأنفسنا بتسميته بالرابط أو التلازم الداخلي أو الروح التي بدونها لا تكون هناك وحدة فنية تشدّ العمل إلى بعضه، وافتقاد الثانية منهما للموضوع الكبير أو المناسب للعمل الروائي.
( 2 )
تستوحي الرواية واقعة الحرب التي شنّها التحالف الأمريكي الغربي على العراق في العام 1991 بدءاً بالعنوان ومروراً بالخط الحدثي وانتهاءً بما أرادت الرواية التعبير عنه وإيصاله إلينا. فالحرب كانت، في بعض صورها، ذلك (المطر الأسود) الذي سقط على بغداد وعلى أراضٍ عراقية أخرى ملوّثاً بدخان القذائف والآليات والطائرات، وذلك (المطر الأحمر) المتمثّل في دم العراقيين الذين تلذّذ الوحش البشري في إرهابهم وإلحاق الأذى بهم. ويبقى الأهم من ذلك كله، والمنعكس في كل جزئية صغيرة من الرواية، لأنه الأقسى والأبقى، نعني جرح الروح والأعماق وحيرة النفس من ذلك الذي يصنعه الإنسان بالإنسان، حين يتحول بإرادته وسبق إصرار بل بتفاخر غير إنساني، إلى طاغية عدواني لا يقف عند أي حد وهو يدمر ويقتل ويشوه، دون أن تستطيع إيقافه قيمةٌ أو عرفٌ أو مشاعرُ.
من وسط جو تلك الحرب وما تلاها، ومن عنف اللحظة وقسوة الحدث وبشاعة الفعل (الإنساني) وحيوانيته، ومن نبضات الألم وسوداوية النتائج منعكسة- في الرواية- على الشخصيات والعلاقات والعواطف والمشاعر والأشياء، يخطو قلم إبتسام عبدالله بمداده الأسود والأحمر، بهدوء موجع ليعبّر عن ألم تكاد أنت القارئ تحسّه، وبشجن تنبض به الكلمات، سواء أكانت كلمات السرد أم الحوار أم الحوار الداخلي للشخصيات، من أول أسطر الرواية حين يأتينا إيقاعه من أعماق بطلتها:
“أعرف أنوء تحت أثقال حمّى تجتاح جسدي منذ أربعة أيام، أربعة أيام أو خمسة؟ لا أدري، فقد فقدت إحساسي بالزمن، إذ أنه لم يعد بالنسبة لي شيئاً مهماً، منذ أن تحولت إلى كتلة متورّمة، مشوّهة، فقدت ملامحها”- الرواية، ص7.
“منذ أن تحوّلت إلى كتلة متورمة، مشوّهة، فقدت ملامحها”.. ما أبشع هذا، لكنها الحرب، وأية إصابة عادية يمكن أن تترك المصاب بهذا الشكل. فكيف إذا كانت الإصابة في الأعماق، في النفس الإنسانية، ويبقى هذا الحال أو الأمر غير العادي، معتاداً ومألوفاً في ظل الحرب، ولعل فخر هذه الحرب أنها قد فعلت مثل هذا بأناس كثيرين، حتى من دون أن تصيبهم بقذيفة أو إطلاقة، ثم بزمنها الذي توقف قاسياً ثقيلاً وجاثماً على صدور الناس، صغيرهم وكبيرهم، ورجالهم ونسائهم، محاربهم ومدنيّهم. ولأن الزمن من هنا، هو أكثر الأشياء التي نعانيها حضوراً في الأزمات- النفسية بشكل خاص- فقد حضر في الرواية، خصوصاً من خلال بطلتها، ليشترك مع الشجن المتسلل من الكلمات والسطور، ومع إحساس البطلة المرهف بما حوّلها، في تشكيل إيقاع الرواية.
يهيمن الإحساسُ بالألم إحساسَ شجن على الرواية بشكل شبه مطلق، ليبقى ينبض في مفرداتها وبنى جملها، صدىً لنبضاته في دواخل البطلة وحركاتها وملامحها وتفكيرها وتداعياتها، ما يشبه الرضوخ الإرادي أو غير الإرادي لليأس والكآبة حد الاحتقان الداخلي، حتى حين تحاول الخروج على ذلك والتمرّد عليه، ليستمر حتى الأسطر التي تسبق النهاية، حين تتسلل نبضات معاكسة بالأمل والتفاؤل ملمِّحة إلى احتمال أن يكون هناك آت آخر، غير هذا الذي أتى في الحرب واستوطن دواخلها:
“قد يكون الغد أسعد، وربما تستعيد الحياة إشراقتها، وربما يكون المطر، أتوقف عن الكلام، إذ يرتفع فجأة صوت نهاد [الأخت الصغرى] الجميل في أغنية بغدادية أصيلة ورقيقة يكون وقعه على مسامعي مثل نثيث المطر في غابة موحشة”- الرواية، ص135.
ولكي تحقق الكاتبة توازناً وتجانساً بين ما يرمز إلى الموت والجراح والحقد والقسوة، وما يرمز إلى الخير والأمل الذي تبشّر به الرواية، حتى وهي وسط هيمنة سوداوية بغيضة أحياناً، فإنها تستحضر، إزاء المطر الأسود والمطر الأحمر، الشمس:
“واستمر ذلك المطر (الأسود) أياماً متواصلة بحيث غدا جزءاً من مظاهر الحرب، إلا أنني صحوت يوماً لأجد الشمس مشرقة في السماء.. مشرقة إلى الحد الذي بدت فيه وكأنها تبتسم لي ابتسامة واسعة فيها الكثير من المحبة والمودة والأشواق”- الرواية، ص115.
( 3 )
الرواية تُعنى بتأثيرات الحرب في الفرد والمجتمع أكثر منها بالحرب ذاتها، وبالأحاسيس أكثر منها بالأحداث. وكان من المنطقي فنّياً أيضاً أن تُعنى بوجهة النظر أكثر منها بالمنظور. لذلك كان من الطبيعي، لكي تنجح في التوصيل، أن تنطلق سردياً من دخائل الشخصيات، وهو الأمر الذي لاءمه أنّ الرواية ذات شخصية محورية أولاً، وأنها مقدمة من وعي هذه الشخصية ثانياً، مع أن الراوي العليم تسلل في خلسة من الكاتبة ليرتكب بعض ما يُعد هفوات سردية فنية، إذ يتنقل من هذا الوعي ووعي شخصيات أخرى. وإذا كان لهذا أن أثّر سلبياً في الرواية، فإن لظاهرة أخرى أثراً سلبياً آخر، ذلك هو إهمال الكاتبة، في ظل هيمنة الشخصية المحورية، للشخصيات الأخرى، مع أنها لم تكن مضطرة إلى الاهتمام بأكثر من شخصيتين أو ثلاث إلى جانب تلك الشخصية المحورية. والواقع أنها لم تهمل هذا فحسب، بل هي ما تكاد تقدم واحدة من الشخصيات، وتبدأ ظاهرياً بمدها بأسباب الحياة والنمو لتكون فاعلة في الرواية موضوعياً وفنياً، كما يُفترض، حتى تتركها، بل تهجرها وهي بعد غير مألوفة لنا. والملفت للنظر هنا أن هذا يقع حتى مع تلك الشخصيات التي كانت تسعى بمواصفاتها على فرض نفسها على الكاتبة، والتمرد على تقييداتها. ولعل أهم تلك الشخصيات (فارس فيصل فرحان) الذي لا يمكن أن يكون قد جاء عرضاً كما بدت الرواية وكأنها تريد أن تقول. فحتى اسمه يوحي بما هو أعمق وأبعد من أن يكون شخصاً عبراً في حياة البطلة وفي مسار الرواية نفسها.
(4)
وإذا اتفقنا مع الرأي النقدي القائل: “إن أهم شيء في العمل الفني هو وجوب توفر نقطة مركزية”، فإن مثل هذه النقطة في “مطر أسود مطر أحمر” موجودة وغير موجودة. فهي موجودة متمثّلة في شخصية بطلتها وأزمتها، إذ تنطلق، منها أو عبر أحاسيسها وذكرياتها وتداعياتها، أحداث الرواية ووقائعها كلها، بل حتى شخصياتها ومواقف هذه الشخصيات. وهذه النقطة، من جانب آخر، غير موجودة كما نفترض أنها يجب أن تكون، لأن مثل هذه المركزية كثيراً ما تختلّ أو تضيع من بين يدي الكاتبة، خصوصاً حين تفلت بعض الشخصيات منها ليفلت معها بعض المواقف وبعض حلقات خط الرواية. ولعل مما أسهم في هذا أو على الأقل هيّأ له توزع أحداث الرواية زمنياً، وهي تعتمد كثيراً على تقنية الفلاش باك، على أحداث تقع خلال الحرب المنقضية، وأخرى قبلها، وثالثة بعدها، ورابعة خلال طفولة البطلة. ومع هذا التوزيع الصعب للأحداث على هذه الأزمنة الأربعة، والتداخل فيما بينها الذي أكسب الرواية وجهاً حداثوياً، كان هناك شيء من الاضطراب أتاه القارئ أحياناً وهو يحاول أن يتتبع الخيط أو الخيوط التي يجب أن يتابعها. فلم نعرف مثلاً في أي زمن من أزمنة الرواية، وما علاقة هذه الذي يحدث فيها بما قبله وبما سيحدث بعده. لكن هذا يجب أن لا يُفهم بأي حال من الأحوال تخلخلاً في البناء الفني للرواية، خصوصاً حين جاء قائماً على الشجن الذي دوزن- إذا صح التعبير- مسارها بما يشبه صدىً للألم العراقي الذي انطلقت منه الرواية، كما قلنا.
