ميسلون هادي
شخصيات القصة القصيرة تكاد تكون جاهزة. لا نعرف شيئاً عن تاريخها، أو تطورها إلى حالة مكتملة ومكثفة وشديدة التركيز، بحيث تتيح للقارئ حواراً أعمق مع نفسه. هذه الحالة، التي تلخص وضعاً معيناً في كلمات قليلة، تقدم تجربة عميقة تعلق عادة في ذهن القارئ طويلاً، خصوصاً إذا اتسمت بالمفارقة أو الضربة، كما هو الحال مع قصة جان بول سارتر الشهيرة (الجدار).
القصة القصيرة أيضاً مخيفة في تركيزها، ولا تحتمل الهزل مع أي وضع كان، ولهذا لا يستطيع هذا الجنس الأدبي التعبير عن هموم طيف واسع من الشخصيات، أو يتوسع إلى أمكنة وأزمان وخيارات كثيرة. في الأغلب الأعم تعتقل القصة القصيرة شخصاً واحداً، وتصفه بوضوح، وترسم له موقفاً في الحياة يحتمل الكثير من الأسى والشجن. وعندما نجعل هذا الشخص بطلاً للقصة، فإننا لا نخترع له الكثير من الأصدقاء والأقارب والجيران، ولا نجعله يمشي في مسارات مختلفة متشابكة، وإنما نطيح به فوراً إلى مصيره المثخن بالماضي؛ إنه مرسوم لمصيره منذ اللحظة الأولى، مكتمل السيرة، ولا يُسمح له بالتمرد على مصيره، كما تفعل الشخصيات الروائية. أليس هذا ما يقوله الروائيون أحياناً: الشخصيات قد تتمرد عليهم، وتخلق لنفسها مسارات أخرى، ونهايات مختلفة عما كانوا يخططون. هذا التمرد غير وارد في القصة القصيرة. فالشخصية ليس لديها العديد من المحاولات، وأحيانا لا نعرف حتى معالمها، لكنها تحمل مرآة مركزة سنرى فيها الكثير.
القصة تحتمل التجريب كثيراً، ونجد طيفاً واسعاً من التجارب السردية اختصت بها القصة القصيرة تحديداً، فكانت قصيرة جداً، أو برقية أحيانا،ً أو على شكل ومضة من سطر واحد، أو أنها استخدمت تقنيات السينما، وتكنولوجيا التواصل الاجتماعي مثلا، ولكن يبقى الشيء المميِّز في كل قصة قصيرة، هو توظيف بعض الأحداث العابرة، لإثارة بعض الأسئلة، أو الهزات التي تحرك البركة الساكنة.
إذا ما وجدنا قصة قصيرة تجاوزت حاجز الزمان، فهذا يعني أنها كانت تجربة مختلفة عما هو تقليدي أو سائد من النصوص. وكثيراً ما استحوذت قصص قصيرة بعينها على تفكيرنا طويلاً، وكم أثرت فينا بعض القصص وأسرتنا بسحرها، بحيث تركت أثراً لا يمحى في عقولنا. هذه المكانة تراجعت، بالتأكيد، بسبب استغناء الشباب عن القراءة لصالح وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت (البوستات)، أو المنشورات، ذات تأثير أكبر على العقول، ومن خلالها، يمكن إيصال رسائل معينة إلى الجمهور، قد تكون مهمة، أو سطحية تتعلق بأشياء عابرة، وأزعم أن هذا الشريط المنسدل بالمنشورات والصور، سيتبخر وينساه المستخدم، فور أن يغلق الموبايل، لأنه أقل عمقاً من القصة القصيرة، والقصيدة، أو المقالة، وهذه كلها لها مكان أيضاً على المنصات الألكترونية.
القصة القصيرة تأخذ الآن استراحة المحارب أمام اكتساح أخر لجنس الرواية في السنوات الأخيرة. وهذا واضح من كثرة الجوائز العربية والعالمية التي تهتم بالرواية، وغياب الجوائز التي تهتم بفن صعب وساحر هو جنس القصة القصيرة. في الماضي البعيد كانت هناك المعلقات السبع في مجال الشعر العربي، حيث كانت هناك سبع أو عشر قصائد تعلق على أستار الكعبة، للتدليل على تميزها. أما القصة القصيرة، فمع الأسف، لم يُحتفى بها بأي من الطريقتين.كذلك فأن المزاج العام للقراءة يتغير بين فترة وأخرى، وليس بالضرورة أن تكون هناك أسباب محددة، غير أني أعتقد أن السبب الرئيس لتغير مزاج القارئ، هو كون الرواية هي الأقرب إلى تقديم عوالم معقدة نعيشها، كما أنها قد تنافس تقنيات السينما، التي تستحوذ على اهتمامات الشباب في الوقت الحالي. لهذا يبدو الإخلاص لفن القصة القصيرة ضرباً من الشغف الخاص، لا يمتلكه، إلا أصحاب الحنين الموجع لأقصى الكلام.
شاهد أيضاً
فيروز التعويذة النادرة
ميسلون هادي لم يحدث في ظاهرات الفن العربي على مدى تاريخه أن أجمع وجدان المستمعين …