الكافكاوية
في روايات محي الدين زنكنه
أ د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
(1)
لقد شهدت السنين التي تلت الحرب العالمية الثانية في الوطن العربية، بسبب ما تركته من آثار وما سببته من ردود أفعال إنسانية مختلفة في العالم وما أدت إليه من انفتاح الوطن العربي بشكل أكثر اتساعاً على العالم، غزوَ اتجاهات ومذاهب وأنواع من الكتابة لم يكن العربي قد عهدها لتتنامى انتشاراً وتأثيراً بشكل سريع بعد ذلك. وكان ذلك بالطبع بعد ما حققته في الغربمن انتشار ورسوخ وتأثير في جيل كامل، كما هو حال الاتجاه الوجودي وأدب اللامعقول وكل ما يتلاءم مع حالات القمع والإحباط التي كانت الظروف السياسية والاجتماعية للوطن العربيقد ساعدت على انتشارها وقراءتها. فأصبح مألوفاً جداً، على المستوى الثقافي، أن تملأ رفوفَ مكتبات شباب المثقفين كتبُ سارتر ودي بوفار وكولن ولسون وبيكيت وكامو. وإلى جانبهم كان لكافكا شأن غير عادي، فقد باتت أيادي هؤلاء المثقفين تتلقف أعماله التي ترجم الكثير منها خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، مثل روايات “القضية” و”القصر” و”أمريكا” والقصة الطويلة “المسخ”، إضافة إلى بعض قصصه القصيرة. والواقع أن المثقفين العرب، وخاصة في سورية ولبنان، وإلى حد ما العراق ومصر، قد احتضنوا هذه الكتابات، استجابة لظروف المنطقة التي أشرنا إليها اولاً، ولكون هذه الاتجاهات والكتابات هي من إفرازات المرحلة، التي كان الغرب قد مر بها ثانياً، إضافة إلى أنها في الكثير من الأحوال جاءت ثمرة لجهود فردية تمثلت في جهود أشخاص معينين مثل منير بعلبكي وسهيل إدريس ونهاد التكرلي، وفي نشاطات مجلات ودور نشر، مثل مجلة (الآداب) البيروتية، ودار الآداب، ودار العلم للملايين، والهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، وغيرها.
لقد كان من الطبيعي أن يمارس الكثير من الأعمال التي ترجمت وطبعت وانتشرت ضمن هذه الاتجاهات، تأثيرات بدرجات مختلفة في القصة والرواية العربيتين، خاصة في الستينيات والسبعينيات، وخاصة في لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين، وإلى حد ما مصر. والواقع أن القصص القصيرة بالذات في هذه الأقطار قد عكست بوضوح تأثرات مختلفة بتلك الأعمال، كما يمكن ملاحظة ذلك بدرجات مختلفة في قصص غادة السمان وزكريا تامر وجورج سالم ووليد إخلاصي ويوسف الحيدري وياسين رفاعية وجليل القيسي وجمعة اللامي ويحيى الطاهر عبدالله وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهم. وإذا كانت القصة القصيرة أكثر تمثُّلاً واستيعاباً وعكساً لهذه التأثيرات، فإن الرواية بدورها قد جسدت ذلك، وإن كان ذلك بشكل أضيق، وخاصة في الستينيات. وهكذا “فإن السمة التي غلبت على أدب الشباب منذ أواخر الخمسينيات حتى حرب حزيران سنة 1967، هي التعلق بأدب الضياع عامة لا بالوجودية خاصة، وإنْ كانت الوجودية بالطبع جزءا لا يتجزأ من هذا الاتجاه، والتعلق بها على أية حال لم يتوقف في الستينيات ولكنه أتخذ شكلاً أوسع، وذلك نتيجة تعدد النماذج والمؤثرات في مرحلة الستينيات. … فهناك دوما ظلال مباشرة أو غير مباشرة لكتّاب مثل فرانز كافكا و ت.س إليوت ود.هـ لورنس وألبير كامو وجان بول سارتر وساموئيل بيكيت وكثيرين غيرهم”([1])، ممن ظهرت تأثيراتهم في أعمال الروائيين العرب مثل جبرا إبراهيم جبرا وسهيل إدريس وليلي بعلبكي ومطاع صفدي وهاني الراهب وجورج سالم وصدقي إسماعيل وغادة السمان وياسين حسين وتيسير سبول وفاضل العزاوي ويوسف الصائغ ويحيى الطاهر عبدالله ومحي الدين زنكنه وإبراهيم نصر الله وغيرهم. لقد كانت كتابات كافكا، وخاصه رواياته “القضية” و”القصر” و”أمريكا”، وقصته الطويلة “المسخ” بين الكتابات الوجودية وأدب اللاّمعقول الأكثر تأثيراً، ومن خلال ثيمات وجوانب موضوعية معينة بشكل خاص، ومنها ( السلطة والمطاردة والبطل المطارد) التي برزت في روايات عديدة سنتعرض لبعضها بعد التعرف على ملامحها لدى كافكا نفسه.
(2)
حين نبحث في تأثير كافكا هذا في الرواية العربية نجد الكلام عن الكاتب العراقي محي الدين زنكنه يحتل دوماً مساحة أوسع من الروائيين الآخرين الذين نجد أعمالهم قد تأثرت بالكاتب التشيكي، لكننا سنتحدد هنا فيموضوعة(السلطة والمطاردة والبطل المطارد). فالواقع أن الكاتب في بعض أعماله يكاد يتبنى كل مفردات عوالم كافكا وأفكاره، التي يبدو أنها قد تلبّسته، بدءاً بعوالم اللاّمعقول، ومروراً بموضوعة السلطة، ووصولا إلى حالات الاغتراب والاستلابالتي نجد أبطاله يعيشونها ويعيشون تأثيراتها ونتائجها، من خوف وقلق وإحساس بالضياع والعجز والشك وعدم الثقة بالنفس وبالآخرين. وكل ذلك يأتي وسط تشوش وحيرة ذهنيتين تخيّمان على أبطاله، وتحديداً في روايتيه “هم، أو ويبقى الحب علامة”- 1974- و”بحثا عن مدينة أخرى”- 1979. والواقع أن الخوف بالتحديد هو أكثر المشاعر والأحاسيس التي تملأ دوماً ًروح بطل زنكنه وتصل إلى مستوى الحالة المرضية، وبأعراض تأزّم من عدم القدرة على الاختلاء بنفسه، وعدم القدرة على النوم والتفكير، وفي النتيجة عدم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح بشأن الكثير من شؤونه:
“الخوف! شعور غريب لم يسبق لي أن واجهته بهذا الإلحاح، خائف.. خائف من موت سخيف ينهي كل وجودي الممتلئ بالمشاعر والأحاسيس.. و.. وخائف من (هم) هؤلاء الذين يصنعون هذا الموت..”- ويبقى الحب علامة، ص151([2]).
ولكن من (هم) هؤلاء الذين يخافهم البطل؟ لا نعرف نحن، بل هو نفسه لا يعرف. ربما ليس تحديد هويتهم هنا مهماً، إذ في كل الأحوال، يقول البطل: “وما العمل؟ كررت السؤال على نفسي. ماذا بوسعي أن أفعل؟”- ص183، ثم ما هذا الذي وضعه في دوّامة الحيرة ودوّامة أن يجد نفسه-حقيقة أم إحساساً- ملاحقاً بإلحاح شديد من مجهولين؟ وأياً كانت هـوية (الآخرين) يبقى السؤال الأهم: لماذا يطاردونه؟ وإذا كانوا تجسيدا لأزمة يعيشها البطل وليسوا بحقيقيين، ما كنه هذه الأزمة؟ هل هي أزمة (ميرسو) كامو؟ أم أزمة الإنسان العربي في عصر المطاردة والقمع والاضطهاد؟ أم هي الأزمة التي رأيناها، من قبل، تُلفت نظر (جروباخ) التي تقول لـ( ك) في “القضية”: “يلوح لي كشيء من أشياء العلماء”- الرواية، ص136. فهذا التلميح الأخير هو إلى حد كبير ما يراه الضابط الذي يلجأ إليه( يوسف) في رواية زنكنه، حين يجد أولئك المجهولين يلاحقونه ويبرزون له في كل وقت وفي كل مكان، إذ يقول له هذا الضابط:
“- أخي.. أنت مصاب بمرض خاص.. لا يصيب عادة إلا فئة خاصة قليلة جداً في المجتمع.. وهذه الفئة هي التي تقول أكثر مما تعمل.. تتخيل أكثر مما ترى.. تحلم أكثر مما تنام.. ثم إن المدرسة فساد للأخلاق، إقلاق لراحة الإنسان”- الرواية، ص199-200.
فلا تنفع الفردَ الثقافةُ، ولا الخيالُ والأخلاقُ بقدر ما ينفعه كل ما يخدمه ويأخذ بيده من وسائل في عالم المادة والصراع والكسب والهيمنة. وفي مكان آخر يكون الضابط- الذي هو بالطبع رمز السلطة- أكثر صراحة وتحديداً لما يراه داءً حين يخاطب(يوسف) بحكمة: “كف عن القراءة تستقم أمورك”- الرواية، ص205.
ومع اضمحلال التفاصيل المتشابهة في ذلك بين رواية زنكنه وأعمال كافكا، وخاصة “القضية”، فإن النتيجة تسجل التقاءً بينهما يتمثل في تلك الفجوة التي يجسّدها الكاتبان بين الفرد والآخرين، وما ينتج عنها من أزمات تتلبس الفرد. في العودة إلى افتتاحية الرواية نجدها تواجهنا بدايةٌ كتلك التي نجدها في جل روايات كافكا:
“حين استيقظتُ صباح اليوم من النوم مبكراً بعض الشيء على غير عادتي،أحسست بهواء غرفتي ثقيلاً لم اعهده يجثم على صدري كابوساً خانقاً.. اسطوانة الغاز تتنفس، يالي من رجل دائم النسيان والغفلة!.. سداد القنينة منزوع تماماً.. من الذي انتزع السداد منها؟وكيف؟ أية قوة شيطانية تلك التي استطاعت أن تُقدِم على هذا العمل؟ (هم)، وارتج كياني”- الرواية، ص209.
وبعد تفكير وتأمل يقول لنفسه: “لا بد أنّ أحد (هم) قد كاد بي”- الرواية، ص66. فهذه البداية/ الحيرة هي إلى حد كبير حيرة بداية “القضية”، إذْ “لا بد أن أحداً كاد (لجوزف ك)، لأنه اعتقل ذات صباح دون أن يكون قد اقترف ذنباً”- الرواية، ص14، من آخرين لا يَعرف عنهم وعمن أرسلهم شيئاً؛ وبدايةَ “القصر” حين يجد (ك) نفسه إزاء ملامح مضيّة للقصر والقرية لتؤشر له المجهول الذي سيواجهه؛ وبدايةَ “المسخ” حين يجد (غريغور سامسا) نفسه “وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة”- الرواية، ص5([3]).
(3)
في كل هذه الروايات، وبضمنها رواية زنكنه، تنشأ الأزمة،لا مما يواجه البطل مادياً أو إحساساً كما قد نراه في البداية، بل من علاقة البطل في كل منها بالآخرين الذين هم في الغالب وراء هذا الذي يواجهه. والآخرون،أيا كانت حقيقة هويتهم، يمتلكون نوعاً غربياً من السلطة التي يمارسون ، بمشروعية ظاهرية، أو بدونها، هيمنتهم على البطل، سواء في الملاحقة أم في إلقاء القبض عليه، أم في استخدام العنف معه. وأيا كانت الوسائل التي يستخدمها كلًّ من بطلي “ويبقى الحب علامة” و”القضية” للتخلص من عبر الخلاص من ملاحقة (الآخرين) بالنسبة لبطل زنكنه، وإثبات البراءة من التهم غير المعروفة أصلاً بالنسبة لبطل كافكا، فإن النهايتين تلتقيان في سلبيتهما، الظاهرية على الأقل. فيرفض بطل زنكنه محتجاً التوقيع على ورقة بيضاء- كما يطالبه أحد (الآخرين):
“- إنها.. إنها بيضاء. فعلى أي شيء أوقع؟
” قال بقسوة: وقّعْ ثم أُريك الكتابة.
“- … لا يمكن يا سيد، لا يمكن أن أوقع على ورقة بيضاء”- الرواية، ص76.
لان ذلك يعني بالطبع التسليم بكل ما يريده (الآخرون)، وربما تحمّل كل ما يمكن أن يسجلوه ضده، كما أنه يعني، وربما هذا هو الأهم والأبعد دلالةً، التخلي عن الذات والخصوصية والحرية والإيمان.. وما إلى ذلك من قيم وحقوق فردية. ولذا فهو يرتضي بما يفعلونه به ولا ينفذ ما يريدونه منه، لينتهي بذلك النهاية السلبية ظاهرياً ولكن المجسِّدة حقيقةً للموقف الرافض، إذ يوضع في صندوق يقفل عليه ويُرمى في اليم ليقول بقناعة:
“وأغمضت عيني، ماذا يجديني الفجر والنور؟… تذكرت- دون أن أدري لماذا- ما قاله المسيح ذات مرة، (ماذا ينفع الإنسان لو ربِح العالم كله وخسر نفسه) فوجدت فيه عزاء عميقاً، فرحتُ أردد والصندوق ما زال يتمايل بي: حسبي أني لم أخسر نفسي.. لم أخسر نفسي، وأحسست بحب جارف إلى الحياة يحتويني، والتيار يدفع بي بعيداً..بعيداً”- ص252-253.
وقد ذكرنا في مكان آخر كيف يرى البعض في نهاية بطل “القضية” السلبية في ظاهرها، موقفاً إيجابيا، وربما رافضاً.
ومع التقاء رواية زنكنه الثانية “بحثا عن مدينة أخرى”، في أجوائها، مع روايته الأولـى، والتقائها في النتيجة معها في تأثرها بكافكا، إلا أنها أقل تعاملاً مع موضوعة (السلطة)، منها مع أجواء اللامعقول والاغتراب والاستلاب. ولكن أزمة البطل تتجسد بدورها في علاقته بالآخرين، فهو يجد نفسه منقطع التواصل حتى عن أقربهم إليه، “منذ سنوات عديدة، فقدت بشكل من الأشكال القدرة على التواصل مع الآخرين… وعبر جسور الكلمات… التي أحسست بها رخوة… هشة تحت قدمي… لا تقوى على نقلي إلى الجانب الآخر بالشكل الذي أريده”- الرواية، ص16-17([4])، الأمر الذي يقوده إلى الإحساس بعدم انتمائه إليهم وإلى المكان الذي هو و(هم) فيه، فينطلق بحثاً عن مكان آخر وأناس آخرين دون جدوى. ولأن (السلطة) لا تكاد تتمثل هنا إلا بما يمتلكه الآخرون من تأثير في البطل، ومن قدرة على دفعة إلى هذا البحث، فإننا نكتفي بهذا الذي قلناه عن هذه الرواية في بحث موضوعة( السلطة).
[1]) د. حسام الخطيب: المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية، دمشق، 1974، ص111-113. وانظر باسم عبد الحميد حمودي: الوجه الثالث للمرآة، الديوانية- العراق، مطبعة الديوانية الحديثة،1973،ص61.
[2] ) محي الدين زنكنه: ويبقى الحب علامة، دمشق، منشورات اتحاد الأدباء والكتاب العرب، 1975.
[3] ) فرانز كافكا: المسخ، ترجمة منير بعلبكي، بغداد، مكتبة النهضة، 1983.
[4] ) محي الدين زنكنه: بحثاً عن مدينة أخرى، دمشق، اتحاد الأدباء والكتاب العرب، 1980.