محمود أحمد السيد، جلال خالد

محمود أحمد السيد: جلال خالد
نص دراستي للرواية في كتاب “التجربة الروائية في العراق في نصف قرن”
القصة أو الرواية في قسمين أو جزأين، ربما ليس من رابط موضوعي وفني بينهما إلا ما كان باهتاً وضعيفاً، وربما أمكن عد الجزء الأول وحده قصة بذاتها، ويأتي الجزء الثاني مقحماً تقريباً. وخلاصة الجزء الأول هو أن الشاب (جلال خالد) يتوجه إلى الهند على ظهر باخرة، ويصادف أن تركب عليها معه عائلة يهودية بغدادية- أب وابنة شابة (سارة) وشاب من أقربائهما (داود) يريد الأب تزويجه ابنته. يُفاجأ (جلال) مع وصول الباخرة إلى بومبي باختفاء العائلة. وهنا تأخذ الأحداث مساراً آخر بعيد عن هذا اللقاء بالعائلة، إذ يقيم البطل في المدينة الهندية، ومع بدء إقامته هذه يبدأ يتحسس التناقضات الطبقية الحادة في البلاد، والتي تتأكد له حين يتكرر له ذلك في مدينة (كلكتا) التي ينتقل إليها، إذ يصادف أن يكون فيها إضراب عمالي. في هذه المدينة يعود بنا الكاتب بعد حين إلى طرق موضوع العائلة اليهودية حين يجد (جلال) أن (داود) فقد ذاكرته، وأُدخل مستشفى المجانين. وفي هذه المدينة يبدأ تحول مهم يتسلل إلى شخصية بطلنا حين يتعرف على كاتب هندي اسمه (سوامي) ويُطلعه على مفاهيم إنسانية ويعرّفه بالثورة الاشتراكية، وبصور وأشكال من الثقافة لم يعرفها، مثل الآداب التركية والروسية والفرنسية، ليزوّده ذلك بمفاهيم جديدة وبحصيلة من الثقافة ويوسّع من أفقه الفكري. ثم وهو على هذه الحالة الحديدة، يسمع بقيام ثورة في العراق فيقرر العودة.
في بغداد يسقط (جلال خالد) مريضاً، فيحس أن سبب ذلك هو الفتاة (سارة) التي التقاها على ظهر الباخرة، ليكتشف أنه يحبها. وهنا تأتيه رسالة من (سوامي) يخبره فيها بعثوره عليها في مبغى، فتكون الصدمة عنيفة وتكاد تدفعه، وهو في ما يشبه نوبة جنون، إلى الانتحار. وهنا يأتي دور صاحبين له:
“واجتمع خالد بصاحبيه أحمد مجاهد و(ك. س) في داره، فعرض عليهما وحدثّهما عن الكاتب (سوامي)، فأثنى عليه ثناءً عاطراً. وكان أحمد يلازمه، ويكثر من التحدث إليه، وتفكهته ومواساته ويرجو أن يذهب عنه الضعف والألم، فيستقبل وإياه الطعنات المقبلة في معترك الحياة بصدر البطل وثغر باسم وأمل جديد”([1]).
أما الجزء الثاني من الرواية فهو عبارة عن رسائل متبادلة بين الأصدقاء الثلاثة ( جلال خالد، وأحمد مجاهد، وك. س) يناقشون فيها فيما بينهم الآراء الجديدة في الثورة والإصلاح والعمل والثقافة مما يمكن اعتباره بشيء من التجاوز- إن أردنا أن نجد رابطاً مضافاً إلى رابطة الشخصيات مجرّدةً بين الجزأين- نتيجة أو ردود أفعال على مجرى القصة في جزئها الأول. والواقع إننا لا نعرف عن الأصدقاء، باستثناء ما عرفناه عن (جلال خالد) ومن خلاله في مجريات ذلك الجزء، غير أنهم شباب يهدفون نشر الآراء الثورية التي يؤمنون بها وبأنها من الممكن أن تغير المجتمع وتنتشله من تخلّفه ومن مفاهيمه وقيمه القديمة الشائعة. وذلك كله لم يكن ليشفع فنياً أن يلصق الجزء الثاني بالرواية، وهو ما يعني اتفاقنا مع من يذهب إلى أنه جاء زائداً وأصبح المأخذ الرئيس عليها، خصوصاً “أن خفوت الحوادث في القصة، جعل جواً من الفتور يلازم القارئ منذ الصفحة الأولى حتى يفرغ من قراءتها جميعها. وقد كان باستطاعة القاص أن يوفر عنصر التشويق، مستغلاً بعض الحوادث المثيرة التي أشار إليها إشارة عابرة”([2])، وبالتالي فقد جاءت رتيبة، بل أحياناً مملة وتفتقد إلى عنصر الإثارة التي سعى الكتاب إلى تحقيقها في روايتيه السابقتين، فلم يستطع السيد خلق صراع حقيقي يصعد من خلاله بالأحداث بتنامٍ، وزاد من ذلك تسطّح الشخصيات التي افتقدت الحياة الضرورية للشخصية الروائية. كما أن المؤلف قد ألحّ في التركيز على الجوانب الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية الإصلاحية. لكننا نعود لنقول إن ذلك كله لم يلغِ الخط الدرامي للرواية تماماً. خاصة أن هذا كله قد اصطبغ بتجربة يبدو أنها ذاتية صادقة للكاتب نفسه. والواقع إن السيد قد استطاع، ونحن نتحدث عن محاولة روائية صدرت في عشرينيات القرن العشرين، حتى مع ضعف الخط الدرامي، أن يجد لنفسه أسلوب قصٍّ على شيء من التميز، خصوصاً بعد أن تخلص من الإغراق في المد الرومانسي الذي انعكس في عمليه الطويلين السابقين، كما أنه استطاع أن يتعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية التي أشرنا إليها بشكل نمّ عن درجة لا بأس بها من النضج. ولا يبتعد ياسين النصير عن الصواب حين يقول بأن “الأسلوب القصصي وحده كان ينقل هذه القضايا من صيغها الجافة وهي تتلون بالتجربة الذاتية، ولهذا قصة (جلال خالد) تُعدّ بحق القصة الرائدة التي أسهمت في تأسيس منهج فني يُعد متقدماً على ما كان شائعاً من أساليب قصصية أو كتابية، فمنهج (جلال خالد) يختلف جملةً وتفصيلاً عن منهج (زينب) الرومانسي والمنهج التاريخي النصي لروايات جرجي زيدان التاريخية، وكذلك كتابات جبران خليل جبران”([3]). ويضاف إلى ذلك أن أديبنا قد استطاع أن يتخلص من الكثير من سلبيات أعماله السابقة، خاصة من ناحية الموضوع والسرد وطبيعة اللغة القصصية، إضافة إلى نجاحه في الغور أحياناً في دواخل شخصياته، أو بالأحرى بطله، واستكناه انفعالاته النفسية.
وإذا كنا نتفق مع أستاذنا الدكتور علي جواد الطاهر في القول عن (جلال خالد) “إنها ليست قصة بالمعنى الدقيق”- ولنتذكر هنا مرة أخرى أننا لا نزال نتعامل مع أوائل الإعمال والمحاولات القصصية والروائية- فإننا نتفق معه أيضاً حين يضيف قائلاً: “ولكن فيها أشياء من مقومات القصة الحديثة. فيها، ولعل أهم ما فيها: طريقة السرد القصصي منتبهاً إلى وصف المحيط، محاولاً أن يغذّيه بطراوة المواقف النفسية، عاملاً على أن تكون لغته حسنة”([4]). أما أنها لا تصلح لأن تكون قصة مطولة، كما يضيف الطاهر، فإن ذلك لا يقلل من ريادتها المهمة في المسيرة الروائية، إذ مع صغر حادثتها ومع المآخذ المثبتة عليها ومع قصرها نسبياً، فإن السيد قد استطاع من حيث الاتجاه أن يضع عمله في المسار الصحيح الذي به يمكن للرواية العراقية أن تجد مستقبلها.


[1] ) محمود أحمد السيد: جلال خالد، في: المجموعة الكاملة لقصص محمود أحمد السيد، مصدر سابق، ص315.
[2] ) عبد القادر حسن أمين: القصص في الأدب العراقي الحديث، ص 192.
[3] ) ياسين النصير: “(جلال خالد) ونشأة الرواية العراقية”، مجلة (الطليعة الأدبية)، ع9، 1981، ص51.
[4] ) محمود أحمد السيد رائد القصة الحديثة في العراق، مصدر سابق، ص110.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *