رجل يسبق الزمان
إشارات ذاتية
عن تجربة محمد خضير القصصية
أ. د. نجم عبدالله كاظم
(1)
بدايةً أود أن أوضح أن هذه ليست قراءة نقدية لتجربة محمد خضير القصصية، مع ما فيها من نقد، بل هي إن شئتم مقدمة، أو لنقل إشارات ذاتية عن التجربة المائزة لهذا القاص غير العادي عموماً، وغير العادي في علاقته في التجربة القصصية العربية عموماً والعراقية خصوصاً. فهي علاقة، كما ربما يعيها أو على الأقل يحسها كل ناقد أو قاص أو قارئ عادي، بواقع القصة في العراق تاريخاً وإنجازاً وتجربةً وتجريباً وفناً.. علاقة تجعل من محمد خضير لازمة بشرية إبداعية لهذه القصة. فأنا عندما استحضر مثلاً النقد العراقي التأسيسي لا يمكن إلا أن يحضر علي جواد الطاهر، وعندما استحضر الخروج على عباءة الطاهر النقدية بعباءة وعي نقدي جديد لا يمكن إلا أن يحضر فاضل ثامر وشجاع العاني وياسين النصير وعبد الجبار عباس، وعندما استحضر الشعر العراقي في عنفوانه وجبروته لا يمكن إلا أن يحضر الجواهري، وعندما استحضر ثورة هذا الشعر وتجديداته لا يمكن إلا أن يحضر السياب ونازك الملائكة، وعنما استحضر التأسيس الفني الحقيقي للرواية العراقية لا يمكن إلا أن يحضر غائب طعمة فرمان، وعندما استحضر التأسيس الفني للقصة القصيرة لا يمكن إلا أن يحضر عبد الملك نوري والتكرلي، وحين استحضر تجريبيات الستينيين في القصة القصيرة العراقية لا يمكن إلا أن يحضر عبد الرحمن الربيعي، وحين استحضر الخروج من عنق الستينيين بخصوصية فنية غير مسبوقة لا يمكن إلا أن يحضر رجل من هذا الزمان ولكنه لم يرض أبداً إلا أن يسبق الزمان، ذلك هو محمد خضير. بقي أن أقول إن إشاراتي الذاتية هذه قائمة على قراءتي لأعمال القاص الآتية فقط: المملكة السوداء، في درجة 45 مئوي، رؤيا خريف، كراسة كانون، مع حضور هامشي لـبصرياثا.
(2)
بعيداً عن التصنيف الفني أو عن التعامل والتحليل انطلاقاً من مثل هكذا تصنيف أو بناءً عليه، نعتقد أن محمد خضير في إصدار ثلاث مجاميع قصصية فقط خلال ثلاثين سنة ممتدة من 1964 إلى العام 1995، قد شكل ثالث من كنا نراه ثالوثاً في القصة العراقية انشغل شخوصه بما سُمي الهّم الفني في الكتابة القصصية بمعنى أن القاص من هؤلاء يكون منشغلاً، من أول تفكيره بكتابة القصة إلى نشرها- وهل نبالغ إذا ما قلنا ربما حتى بعد نشرها؟- بالتجويد الفني ذاته مع الاهتمام، أو بدونه، بنوعية أسلوبه وتقنياته من حيث المدارس والتيارات والأنواع الفنية. هذا الثالوث مكوّن بالطبع من عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ومحمد خضير. ولكن لعل محمد خضير إذ هو مزروع بهذا الهم الفني، شأنه شأن القاصَّيْن الآخرَيْن، فإنه على خلاف عبد الملك نوري وبما يفوق، برأينا، فؤاد التكرلي، أبداً لا يتردد في الاختراق واجتياح المحذور وغير المحذور ليقدم القصة القصة، على حد تعبير الدكتور علي جواد الطاهر. ومن طريف ما يُذكر له هنا أنه مزروع بالحكاية، لكنه أبداً لا يتردد في التجريب وخرق الحكاية إلى الحكاية؛ ومزروع بالمكان بهيمنة البصرة، لكنه أبداً لا يغلق قصته في عطائها النهائي عن التعبير عن أي مكان؛ ومزروع بزمنه الحاضر، لكنه أبداً لا يفارق الماضي الذي تنبض به قصته دائماً، ولا يكاد يقدم نصاً واحداً لا يسبق فيه هذا الزمن. هذا كله يضع على القارئ، ناقداً أو دارساً أو قارئاً عادياً، أمام خيارات لا حصر لها من طُرق قراءة القصة وزوايا نظر ينطلق منها للخروج بأكثر ما يمكن مما تهيئه ستراتيجية القاص وانشغالاته الكتابية تلك من عطاءات. أعتقد أن محمد خضير قد عبر من أكثر من خمس عشرة سنة عن شيء من هذا وغيره مما يؤشر ستراتيجيات كتابته عموماً وقصته خصوصاً، حين قال في مقدمة “رؤيا خريف”:
“عندي- ما عند الساعين مثلي إلى البنية الجوهرية البسيطة- مقاصد لا يتناقض صدق الانفعال فيها مع بساطة البرهان في تركيبها، ولا تتعارض مقدماتها وفروضها مع صحة تصميمها ونتائجها. فالقصة برهان بسيط على انفعال صادق. لكن القصة الواحدة وهي تُوهم بمفتاح واحد يفتح جميع الأبواب، هناك باب واحد يصلح لأن تنفذ منه إليها، بين مجموعة أبواب مضللة، وأنت لا تدخل من الباب نفسه، في كل مرة تروم الدخول إلى قصة غيرها، فما أكثر الأبواب، وأخدع المفاتيح!”- رؤيا خريف، ص10.
إنه حين يقول هذا فإنما هو يتحدث بحق عن القصة التي يكتبها، ولعل أبرزها: المئذنة، والمملكة السوداء، والإرجوحة، ورؤيا خريف، والعديد غيرها. ولعل أكبر إنجازات محمد خضير الفنية تكمن في ما تنطوي عليه القصة التي يكتبها مما ينطبق عليها قوله هذا، وهو مساحة واسعة من العطاء والتنوع. وربما لا ينتبه الكثيرون- وهل أقول لا ينتبه حتى القاص نفسه، لأن قصته تأتي من ووعي ولا وعي وانصهارات وانفعالات داخلية عميقة غاية في التعقيد- إلى أنه ليست القصة بوصفها وحدة واحدة فقط هي التي لا تستجيب لمفتاح واحد، على حد تعبير القاص نفسه، بل الأمر ينجر على كل جزيئة فيها، سواءٌ أكان فصلاً أو مقطعاً أو فقرة أو جملة أو حتى كلمة واحدة. وهذا في الواقع ما أريد، وبكل تواضع، أن أنبّه النقاد والأكثر منهم طلبة الدراسات العليا الذين يختارون إنجاز محمد خضير موضوعات لدراساتهم الأكاديمية، إلى ضرورة الالتفات إلى هذا الأمر حين يقرأون قصصه. ولِنعي هذا تماماً دوعنا نقرأ المقطع الآتي من قصة “رؤيا خريف” من المجموعة القصصية نفسها التي عبر القاص في مقدمتها عن رأيه السابق، بوصفه مثالاً فقط:
“كل الوجوه في رؤيا هذا الخريف دفينة في الضباب والهلع، إلا وجهاً واحداً واضحاً يجري في المقدمة، أمومياً، آمناً، مسلّماً بالأقدار. حشد من الناس يحملون أمتعة قليلة، يندفع من جسر أو عبّارة قادمة من الضفة الأخرى للنهر، ما أن يبطأ رصيف الساحل حتى يتفرّق في جميع الاتجاهات، مخلّفاً وراءه عجوزاً متمهلة تمشي كسلحفاة.”- المجموعة، ص11.
فلو تأملتم معي هذه الفقرة القصصية، لوجدتم ظاهرة لا أقول غريبة، بل نادرة وتنم عن حمولات ليس شرطاً أن تصدر عن قصدية من الكاتب، لكن بالتأكيد هي، بشكل أو بآخر، منه. فالفقرة، وهذا ينطبق على النص كله، أي نص غالباً، بوصفها وحدة واحدة، وكل جملة أو عبارة منها، بل كل كلمة تقريباً منها، تحمل من الرؤى والتلميحات والإيحاءات وقدرات التأثير والدلالات ما يستجيب لكل أشكال التلقي والقراءة وصولاً- وما هو بوصول نهائي أبداً- إلى الذات القارئة لتثير انطلاقات لهذه الذات لا أول لها ولا آخر. وهذا برأي واحد من أهم مؤشرات عبقرية الكاتب الإبداعية، ولا أحصرها بالقصصية.
( 3 )
لعل من جميل ما يمتلكه محمد خضير هو قدرته على توظيف كل شيء وانتزاع قصةٍ من أي شيء، وهذا بأي واحد من أكثر من يحتاجه كاتب القصة القصيرة تحديداً، أكثر من أي كاتب أو مبدع آخر، على الأقل في منذ فتوحات تشيخوف الفنية في كتابتها، وجسدهها هو وبعده بعقدين أو ثلاثة همنغوي، ثم فيما بعد بورخس. نذكر هنا أن تشيخوف قال لأحدهم مرة، وهو يمسك بمنفضة سكائر، إنه يستطيع أن يأتيه بقصة قصيرة عن تلك المنفضة، ويجب أن لا نتعامل مع قوله هذا بسطحية فنفهم أن تشيخوف كان سيكتب عن المنفضة حرفياً بل بما ينتزعه منها مما يتعداها بالطبع. وهكذا هو محمد خضير الذي يلتفت إلى الإنسان الذي يعرفه أو يراه، وإلى الأشياء من حوله، وإلى الوثيقة، وإلى التراث والموروث الشعبي، بل إلى نفسه وإلى كل ما قد يخطر في بالك.. ليخرج من التفاتته تلك بقصة. ومن هنا فأنت تحس وكأنه، حتى وهو يرمّز أو يستسلم للغته الخاصة أو يغرقك في فكر أو أفكار، أن هذا الذي يقوله أو يقدمه لك أو يرسمه إنما يتحرك من حولك أليفاً، وربما عادياً أو تراه كل يوم، أو حتى في داخلك كما فعل من قبل فؤاد التكرلي. وهنا تكمن واحدة من مكامن عبقرية محمد خضير الذي هو عندنا يذكرنا فيها بتشيخوف دون أن يكون تشيخوفياً؛ وهو قد يراقب ويجرب ويخبر ويصف بحسية وحياة ليذكرنا بهمنغوي دون أن يكون همنغوياً؛ ويُملئُ قصصه بدقة تفاصيل الأشياء وبما يحمل الكثير منها من رموز ليست شرطاً أن تكون مقصودة فتذكرنا بكاترين مانسفيلد ومرة أخرى دون أن يصير مانسفيلدياً؛ وحين يحضر الزمن بكل أشكاله المعروفة وبواقعية سحرية فإنه يذكرنا ببورخيس ولكن دون أن يكون بورخسياً. كما أنه لا يكون تكرلياً حين يتوغل دواخل النفوس وتحضر التداعيات والمنلوغات الداخلية؛ كما يتملص من أن يكون كافكوياً ومن أن تكون عوالمه بجنون عوالم كافكا حين يذكرنا بكافكا في لا معقوليته. نريد أن نقول إن كل هؤلاء يحضرون بشكل أو بآخر في قصة محمد خضير، ولكن دون أن يكون هو أياً من هؤلاء بل ليكون كما هو.. محمد خضير.
وإذ لا أذهب مع من يقول بتمرد كتابات محمد خضير على التجنيس، ومع إيماني بأن التجرد من الانتماء إلى الجنس غالباً ما يؤدي إلى الضياع، فإنني لا أنكر امتلاك هذا القول لشيء من الإصابة. ولكن ما هو فوق هذا مما يحققه محمد خضير إنما هو الخصوصية في العمل ضمن الجنس أو الأجناس، وليس الخرق أو التمرد غير المنضبط عليها أو السعي إلى نهشيمها. بمعنى أن محمد خضير كاتب قصة قصيرة قبل كل شيء، ولكنه ليس هذا فحسب، بل هو كاتب قصة قصيرة خاص. بمعنى أنه إذ يلتقي مع كتاب القصة القصيرة عموماً في تقديم ما ينتمي إلى هذا الجنس، فإنه كاتب قصة قصيرة خاصة لا يمكن إلا أن تدفع إلى التعامل معها على أنها ليست نصّاً عادياً بل هي قصة محمد خضير القصيرة. فكما نقول عن خصوصية قصة تشيخوف، وقصة همنغوي، وقصة مانسفيلد، وقصة بورخس، وقصة كافكا، وقصة التكرلي، نقول خصوصية قصة محمد خضير.
أخيراً أتذكر أنني في منتصف الثمانينيات كان لي رأي عن مستقبل القصة والرواية العراقيتين أقول فيه إن ذلك المستقبل كان سيبني على عطاء وتجارب ثلاثة كتّاب رئيسين من ثلاثة أجيال مختلفة، ولم يكن بينهم محمد خضير الذي كنت أعرف بالطبع، كما كان يعرف كل من له علاقة بالقصة العراقية، أنه أحد أهم أعلام هذه القصة. أما لماذا لم يكن هذا القاص عندي بين هؤلاء؟ فببساطة لأني وجدته قد وصل إلى القمة التي ما عاد ليمكن له أن يصعد فوقها، وعليه ما عاد له أن يتمكن من تقديم شيء يدفع بالقصة العراقية إلى أبعد مما كانت عليه فنّاً وتجديداً. وبعد حين ظهر لي كم كنت مخطئاً وتحديداً حين أكتشفت أنّ لأي مبدع استثنائي مثل محمد خضير، وفي أي مجال، قمة ما بعد القمة. وهكذا اكتشفت أن هذا القاص حتى حين يكون، وحده أو مع آخرين، على قمة، فإنه لا يرتضي أن يستسلم لها بوصفها نهاية مطاف، وهو إذ يكون في زمننا فإنه يرفض أن يستسلم لقدرية أن يكون في هذا الزمن فقط، وإذ لا يتردد في العودة إلى زمن مضى، ولكن دون أن يقع في أسره، فإن القدرة لسبق الزمن موجودة عنده دائماً. بعبارة أخرى إذ هو بحق رجل من هذا الزمان، فإنه يسبق الزمان.
شاهد أيضاً
محي الدين زنكنة دراسات تطبيقية مقارنة
الكافكاويةفي روايات محي الدين زنكنه أ د. نجم عبدالله كاظمأستاذ النقد والأدب المقارن والحديثكلية الآداب …