محمد خضير
وقفات قصيرة
د. نجم عبدالله كاظم
الوقفة الأولى:
في موضوع قديم لي عن القاص محمد خضير، قلت عندما استحضر التأسيس الفني للقصة القصيرة العراقية لا يمكن إلا أن يحضر عبد الملك نوري والتكرلي، وحين استحضر تجريبيات الستينيين لا يمكن إلا أن يحضر عبد الرحمن الربيعي، وحين استحضر الخروج من عنق الستينيين بخصوصية فنية غير مسبوقة لا يمكن إلا أن يحضر رجل من هذا الزمان ولكنه لم يرض أبداً إلا أن يسبق الزمان، ذلك هو محمد خضير. واليوم أؤكد هذا وأعني أن تمرّد هذا القاص على أن يكون تابعاً، في قصصه، للسائد، يل هو يتجاوزه أو على الأقل يعمل على ذلك، ليتجاوز زمنه وقصة زمنه حتى وهو، وهذا مهم جداً، لا يلغي عملياً حضور السائد. وكل ذلك لأنه مسكون بهم دائم لا يغادره، في أي تجربة كتابية له، وهو الهم الفني. وشأن القاص في هذا شأن قاصَّيْن وروائيين محدودين آخرَيْن، وهو في استجابته لِهمّه هذا لا يتردد في الاختراق واجتياح المحذور وغير المحذور ليقدم القصة القصة، على حد تعبير الدكتور علي جواد الطاهر. فمن الطريف مثلاً أنه، وهو برأيي شغوف بالحكاية التي قد توحي بالسلفية الفنية والسائد والتقليد، لا يتردد أبداً في التجريب وخرق الحكاية ولكن إلى الحكاية بمنطق جديد ورؤيا جديدة وأساليب فنية جديدة؛ والأمر نفسه ينسحب على المكان مثلاً، فإذ هو شغوف بالمكان بهيمنة البصرة، فإنه يُطلق قصته في عطائها النهائي عن التعبير عن أي مكان؛ وإذ هو شغوف بزمنه الحاضر، فإنه لا يفارق الماضي الذي تنبض به قصته دائماً، ولا يكاد يقدم نصاً واحداً لا يحضر فيه هذا الزمن ومغادرة هذا الزمن في الوقت نفسه. هذا كله، عندنا، يجعل من القصة بين يدي القاص أشبه بلعبةِ تنوّعٍ ومراوغة وتجريب واستثمار وتوظيف لكل شيء، ولا يمكن لها، على يد حِرفي، إلا أن تقدم لك، في النتيجة، شيئاً يجمع ما بين فن وأشياء تعرفها من قبله، ولكن خصائص ومعطيات جديدة.
الوقفة الثانية:
لعل من جميل ما يمتلكه محمد خضير، تعلقاً بكل ما سبق، هو قدرته على توظيف كل شيء وانتزاع قصةٍ من أي شيء، وهذا برأيي واحد من أكثر من يحتاجه كاتب القصة القصيرة، وكما إلى حد كبير الشعر، على الأقل منذ أن جسدها تشيخوف (1860-1904)، فمانسفيلد (1888-1923) ثم همنغوي، (1899-1961) فبورخس (1899-1986) على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم الفنية والفكرية. نذكر هنا أن تشيخوف قال لصحفيّ مرة، وهو يمسك بمنفضة سكائر أمامه، إنه يستطيع أن يأتيه في اليوم التالي بقصة قصيرة عن تلك المنفضة، ويجب أن لا نتعامل مع قوله هذا بسطحية فنفهم أن تشيخوف كان سيكتب عن المنفضة حرفياً بل بما ينتزعه منها مما يتعداها بالطبع. وهكذا هو محمد خضير الذي يلتفت إلى الإنسان الذي يعرفه أو يراه، وإلى الأشياء من حوله، وإلى الوثيقة، وإلى التراث والموروث الشعبي، وإلى نفسه، وإلى كل ما قد يخطر في بالك.. ليخرج من التفاتته تلك بقصة. ومن هنا فأنت تحس وكأنه، حتى وهو يرمّز أو يستسلم للغته الخاصة أو يُغرقك في فكر أو أفكار، أن هذا الذي يقوله أو يقدمه لك أو يرسمه إنما يتحرك من حولك أليفاً، وربما عادياً مما قد تراه كل يوم. وهنا تكمن واحدة من مكامن عبقرية محمد خضير ليذكرنا فيها بتشيخوف دون أن يكون تشيخوفياً؛ وهو قد يراقب ويجرب ويُخبر ويصف بحسية وحياة ليُذكرنا بهمنغوي دون أن يكون همنغوياً؛ ويُملئُ قصصه بدقة تفاصيل الأشياء وبما يحمل الكثير منها من رموز ليست شرطاً أن تكون مقصودة فتذكرنا بكاترين مانسفيلد ومرة أخرى دون أن يصير مانسفيلدياً؛ ويُحضر الزمن بكل أشكاله المعروفة وبواقعية سحرية وحتى ببعض فنتازيات ليذكرنا ببورخيس ولكن دون أن يكون بورخسياً. والأمر ينسحب على كافكا دون أن يكون كافكوياً، وبالتكرلي دون أن يكون تكرلياً. نريد أن نقول إن كل هؤلاء قد يحضرون في بعض استدعاءات لا واعية وبشكل أو بآخر في قصة محمد خضير، ولكن دون أن يكون هو أياً من هؤلاء بل ليكون كما هو.. محمد خضير.
وقفة ثالثة:
مع أنني لست مع تمرد أي كاتب على تجنيس ما يكتبه، بمعنى لست مع أن يكتب الكاتب، أي كاتب، ما لا نستطيع تجنيسه، لأن كتابته برأيي ستضيع ببساطة لأنها بلا هوية معروفة مسبّقاً، فإن لمثل هذه الكتابات التي تنمّ عن تجاوز لحدود الأجناس ولعملية التجنيس يمكن أن تفرض نفسها، ولكن حين تكون على يد الكاتب الحرفيّ، أو الحِريف على حد التعبير المصري، الذين لا يظهر في كل يوم أو في كل سنة بل ولا في كل عقد، كما هو حال كُتّاب، إذا تكلمنا عن التجربة العراقية، على شاكلة السياب وحسين مردان مثلاً، وبدون تردد أقول ومحمد خضير، فتجاوز هؤلاء هم برأيي الذين قصدهم أحد النقاد حين قال ما معناه يجب أن تكون للأجناس الأدبية حدود، ولكنها حدود وُجدتْ لتُخرق. فكما أثبت محمد خضير حِرفيته وهو يكتب القصة القصيرة الخالصة متمثلةً، بشكل خاص، في مجموعته العلامة “المملكة السوداء”، فإنه فعل ذلك حين كتب القصة القصيرة غير المسلّمة بكل موروثاتها الفنية، متمثّلة في بعض قصص “في درجة 45 مئوي” و”رؤيا خريف”، وحين تمرّد على حدود القصة القصيرة والرواية في أعمال أخرى، مثل “بصرياثا” و”كراسة كانون”. بل هو حتى في عمله الأخير هذا المثير للجدل وربما الخلاف يثبت حِرفيته، إذ هو عمل نتردّد كثيراً في وصفه بالسردي، مع أنه يشي للقارئ، من أول وهلة بعلاقةٍ ما بالسرد. ومع أننا لا يمكن أن نقول إنه رواية أو قصة طويلة، ونحن لا نجد ربما إلا الفصل الرابع (ذات الأثافي) منه يتسم بالسردية والقصصية، فإن فيها من الرواية والسرد شيئاً. ولا يمكن أن نقول إنها تداعيات حرة، لأنها منظّمة وتنم بشكل واضح عن وعي المؤلف أو الشخصية ولكنّ فيها من التداعيات شيئاً. ولا يمكن أن نقول إنها تشكيل، وهي ليست بالكتابة المكانية، والتشكيل فن مكاني، ولكن فيها من التشكيل شيئاً وإن كان هامشياً، مع فرق أن المؤلف لا يقدمه لنا بل يجعلنا نتخيله. ولا يمكن أن نقول إنها نقد لأنها لا تنظّر ولا تصنّف ولا تحلّل تطبيقياً كما يفعل النقد، ولكنّ فيها من النقد شيئاً غير قليل.
بقي هل لنا أن نقول، وهي لا تنتمي إلى أي من هذه الأجناس والأشكال، هي تخطيطات قلمية لمشاهد وحالات ومواقف مختلفة، تجمع ما بين كل ذلك؟ ربما، ولكني أعترف بعجزي عن الحسم في هذا، ولكنه العجز الذي قد يؤشر بعض هويتها إذ ترتسم في هذا العجز. هنا، وأعود إلى الكاتب نفسه، أعتقد أن مثل هذا ليس غريباً على كتابات محمد خضير، التي نادراً ما انتمى عملٌ منها، بعد “المملكة السوداء” لجنس أدبي بشكل خالص.
شاهد أيضاً
عن رواية الضفة الثالثة
وقفات قصيرة جداًعند روايات قرأتها الضفة الثالثة: أسعد محمد عليبعد خمسة عقود من العيش وسط …