محمد خضير، كراسة كانون

محمد خضير: كراسة كانون
تخطيطات قلمية في الاحتجاج على العنف والحروب

د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
إذا كان عنوان عمل محمد خضير “كراسة كانون”([1]) عتبة أولى، وأسطره الأولى عتبة تالية، فإن هاتين العتبتين تلمّحان إلى العدوان الأمريكي على العراق الذي وقع في كانون الثاني عام 1991، ومن الطريف، ولصراحة هذه الإحالة، فقد أخطأت شخصياً، وأنا أصوغ عنوان مقالي هذا في المرة الأولى، في عنوان عمل محمد خضير حين كتبته (كراسة كانون الثاني). وهو أمر يجب أن لا يُفهم، من خلال كلامي ومن هاتين العتبتين، وكما من خلال العمل كله، أنّ له علاقة بنظامٍ أو حاكمٍ أو دولةٍ أو حكومةٍ، بل ببلدٍ هو العراق يتعرّض لعدوان همجي. وهو ما نعتقد أو نحس بحضوره مرمزاً إليه في الأسطر الأولى من العمل، حين يقول محمد خضير:
“شرعتُ في شهر كانون الثاني من عام 1991 بتخطيط عدد من الوجوه القابعة حول موقد الشتاء، جسّمها ضوء فانوسي القديم، كما هوّلها (حلم العقل) الذي رآه الرسام الإسباني غويا في ليل مدريد العامر بالهواجس والأشباح قبل قرنين (…) تهبّ من رسومي نسائم باردة تذكرني بجولات حلمي في ليالي كانون البعيدة بين ساحة (ذات الأثافي) و(تل الخفاش) الذي تركت عليه جمجمة إنصات معدنية. كنت على الأرجح أتحرّك على سطح مدينة انتسخت صورتها من ذاكرة المدن السومرية، مركّبة من خيال بيكاسو المكعّب أو حلم غويا العقلي المتعدد السطوح، مكعّب بانورامي لمدينة عراقية.”- ص9.
في ظل هذا الجمع أو التوليف ما بين التجربة المأساوية المعاصرة والمعاشة، تجربة شعب العراق ومحمد خضير، وتجارب مأساوية سابقة، تجارب الشعب الإسباني بشكل خاص غويا وبيكاسو، ينبني العمل وتحديداً على مقابلات مختلفة، ما بين هذه التجربة المعاصرة وتلك التجارب السابقة التي تلتقي معها، أو يلتقي التعبير عنها، إنسانياً وفنياً، مع التعبير عن تلك إنسانياً وفنياً. ومن الواضح أن الكاتب أراد أن يوصل مرارة تجربة المعاناة الإنسانية في ظل عدوان كانون 1991، وكل ذلك من خلال التعبير عنه بوصفه مأساة، فنياً وفكرياً، بكراسة محمد خضير، التي صارت في النتيجة “كراسة كانون” التي تتعزّز تعبيريتها بالمقابلة التي يقوم بها المؤلف مع (كراسات) وحفريات وتخطيطات فنانين عالميين سبق لها أن عبّرت عن مآسي شعب أو شعوب أخرى، كما رأينا، وكلتاهما، التجربة المعاصرة والتجارب السابقة، تجارب إنسانية وفردية ومأساوية، وكأن “كراسة كانون” أو شخصيتها تريد أن تقول إن المأساة واحدة، وكما يمثلها في الكراسة وقوع العدوان الأمريكي، وفي لوحات مثل لوحات بيكاسو وغويا وهنري مور وقوع ما تعرضت له مواطنهم.- يُنظر ص21. وهكذا فمحمد خضير أو بطل عمله، يستحضر تجربة غويا الفنية والإنسانية، قبل قرنين، في ظل حرب نابليون على إسبانيا والعنف الذي شهدته إسبانيا حينها، وتجربة بيكاسو الفنية والإنسانية، قبل نصف قرن في ظل الحرب الأهلية الإسبانية، إضافة إلى تجربة النحات الإنكليزي هنري مور في الحرب العالمية الثانية وبعدها، والمعبّر في كل تلك التجارب الفن والفكر. ولعل أعمق ما لخصه موقف الفن والفكر المناقض للحرب والعدوان، قول غويا الذي يتصدر كراسة محمد خضير: “عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش”، وهو يكاد يعني فلسفة الرواية وفكرها وفكرتها، بل يمكن أن يناسبها عنواناً.
( 2 )
الراوي، وقد نتردد بالقول بطل الرواية، بل شخصية العمل، يشرع أو تشرع، وتحديداً في كانون الثاني عام 1991، “بتخطيط عدد من الوجوه القابعة حول موقد شتاء”- ص9- في كراسة سيكون عنوانها “كراسة كانون”، ليكشف لنا بعد قليل عن (مشروعه) التخطيطي هذا وعما يقوم عليه، حين يقول: “إن بحثي- كي يصل إلى كراسة كانون- يجتاز كراسات غويا وبيكاسو وهنري مور”- ص12؟، وكما رأينا، وهو ما يشير بداية إلى التقاء التجارب على مستويات ما، إنسانية أو فنية أو أو فكرية أو مأساوية، أو كلها، ليبدأ بعد ذلك باستعراض تلك الكراسات بأسلوب شبه بحثي وعرضي، ولكن مع بُعد ذاتي أيضاً. فهو يمرّ بكراسات الفنانين ومحفوراتهم وتخطيطاتهم بذاتية محبة، ولنا أن نعرف أنه يريد شيئاً غير هذا الاستعراض بالطبع، بل الالتقاء الإنساني والفردي والمأساوي وغير ذلك، مما كان يمكن أن يثير العاطفة والوجدان والشجن والإحاسيس، وهو ما تحقق ولكن بشكل هامشي فقط، لأن المؤلف لم يغلّب العاطفة على الفكر، فكانت الهيمنة لما يمكن أن نسميه (العلمية) و(الوصفية) و(المعلوماتية) المتخلّية إلى حد كبير عن العاطفية والوجدانية إلا بالهامش الذي ذكرناه. ومع هذا، وبسبب هذه الأبعاد الفكرية الصريحة والذاتية والأدبية الثانوية، يمكن لك قارئاً، حتى إذا ما وجدت نفسك تائهاً في بعض مراحل العمل، أن تستمتع جمالياً بنص يمتلك جمالية بذاته وبمعزل عن الدور الذي يصبو إلى تأتديته وما يريد أن يوصله إلى القارئ، قولاً أو رسالةً أو تأثيراً، بل، وبمفارقة، إن مثل هذا الاستمتاع يمكن أن يتحقق حتى إذا لم تعرف ماذا يريد النص وإلى أين يأخذك، وهذا بظني كثيراً ما يسِم أعمالاً إبداعية ليعني أن “كراسة كانون” لا تبتعد عن الإبداع الأدبي حتى وإنْ تبنّت، عبر كتابتها أو شخصيتها (بطلها)، الفكر والعلمية والمعلوماتية.
ولعلّ محمد خضير قد أراد، من الحديث عن الفن العالمي والفنانين العالميين، وخاصة بيكاسو، عقد مقابلة فكرية وذوقية وإنسانية، ما بين أي حرب ومآسيها ووحشية هذا الذي يحدث فيها، وأخرى، وهو ما نظنه نجح في إيصاله تعلقاً بما فعله العدوان الأمريكي، لا بنقل أخبار الحرب والحروب الأخرى وتفاصيل ما شهدته، بل من خلال ما عبر عنه ما يخالف الحرب وعنفها وهمجيتها بل يناقضها، إن لم نقل يقاومها، نعني الفكر والفن وجماليته ورُقيّه وتعاليه ضمناً على الوحشية، مما سعى المؤلف إلى تحقيق إيصاله من خلال عقد المقابلات، التي أشرنا إليها، ما بين تخطيطاته أو تخطيطات بطله أو شخصية “كراسة كانون” ولوحات بعينها ذوات مضامين خاصة، وكما يتجسد بشكل خاص في تخطيطات غويا ولوحة بيكاسو (غارنيكا) التي عبّرت عن وحشية الحرب في إسبانيا، وتخطيطات. فكما كانت رسوم غويا عن الحرب نوعاً من الاحتجاج على العنف الذي رآه وعاشه في إسبانيا بداية القرن التاسع عشر، ورسوم بيكاسوا تصويراً للمأساة كما عاشتها إسبانيا في حربها الأهلية في ثلاثينيات القرن العشرين، يأتي كتاب محمد خضير- تخطيطاته- تعبيراً عن احتقار العنف القادم مع أمريكا عام 1991.
( 3 )
والآن، ماذا يمكن أن نقول في تجنيس “كراسة كانون”؟ في الحقيقة، نتردّد كثيراً في وصف عمل محمد خضير القصير هذا- أقلّ من (13) ألف كلمة- بالسردي، ولكنه قد يشي للقارئ من أول وهلة ببعض علاقة بالسرد. بعباة أخرى، أعتقد أن الإجابة القاطعة قد تستعصي علينا، فنحن لا يمكن أن نقول إنها رواية أو قصة طويلة، ونحن لا نجد ربما إلا الفصل الرابع (ذات الأثافي) منه يتسم بالسردية والقصصية، ولكنّ فيها من الرواية والسرد شيئاً. ولا يمكن أن نقول إنها تداعيات حرة، لأنها منظّمة وتنم بشكل واضح عن وعي المؤلف او شخصيتها (بطلها)، ولكنّ فيها من التداعيات شيئاً. ولا يمكن أن نقول إنها تشكيل، وهي ليست بالكتابة المكانية، والتشكيل فن مكاني، ولكن فيها من التشكيل شيئاً وإن كان هامشياً، مع فرق أن المؤلف لا يقدمه لنا بل يجعلنا نتخيله. ولا يمكن أن نقول إنها نقد لأنها لا تنظّر كما لا تحلّل تطبيقياً، ولكنّ فيها من النقد شيئاً غير قليل. وإذا لم يكن محمد خضير ليستطيع، تفادي اقترابه من أن يكون ناقداً تشكيلياً، فإن ممارسته النقدية بخلفياتها الفنية والفكرية لم تتخلّ تماماً عن الأدبية والذاتية، لتكون في النتيجة خصوصية هذا النص، الذي لك أن تسميه نصّاً شبه سردي أو شبه نقدي أو شبه فكري.
بقي هل لنا أن نقول، وهي لا تنتمي إلى أي من هذه الأجناس والأشكال، هي تخطيطات قلمية لمشاهد وحالات ومواقف مختلفة، تجمع ما بين كل ذلك؟ ربما، ولكني أعترف بعجزي عن الحسم في هذا، ولكنه العجز الذي قد يؤشر بعض هويتها إذ ترتسم من هذا العجز. هنا أعتقد أن مثل هذا ليس غريباً على كتابات محمد خضير، التي نادراً ما انتمى عملٌ منها لجنس أدبي بشكل خاص، وعندما نقول نادراً، فإننا نستحضر من هذا النادر مجموعته الشهيرة “المملكة السوداء”، ومجموعة “في درجة 45 مئوي”، بينما لا يكاد عمل آخر يصطف إلى جانب هذين العملين في هذا، كما هو حال (رؤيا خريف) و(بصرياثا) والعمل الذي بين أيدينا “كراسة كانون”.


[1]) محمد خضير: كراسة كانون، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2001.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *