الشرق والغرب
في رواية “الثلج الأسود” لمحمد أزّوقة
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
جامعة الحسين بن طلال
عندما يتوقف الناقد أو الدارس ، ضمن وقفات عند المحطات المهمة في مسيرة الرواية الأردنية ، عند روائيين مثل تيسير سبول وغالب هلسا ومؤنس الرزاز وإبراهيم نصرالله … ، فإنه لا يحتاج إلى تبريرات فنية ، لأن مثل هؤلاء هم من أصحاب المحطات أو التجارب المهمة في هذه المسيرة . لكن هذا يجب أن لا يعني افتقاد التجارب الأخرى لأحقية أن يتوقف عندها الناقد أو الدارس ويتناولها بالدراسة ، على الأقل من نواحٍ معينة ، بل هي كثيراً ما امتلكت مبرّرات فنية أو تاريخية أو موضوعية لذلك . وهكذا فرضت نفسها على بعض الدراسات ، روايات لم تمتلك فنيّاً ما امتلكته تجارب الروائيين السابق ذكرهم .
من هنا تأتي قراءتنا هنا لرواية ، ربما لم تُذكر ولم يُذكر كاتبها معها إلاّ في دراسات محدودة جدأ عن الرواية الأردنية . الرواية هي " الثلج الأسود " لمحمد أزّوقة الصادرة في بيروت في سنة 1988 . أما مبرّر تناولها فهو أنها من الروايات الأردنية التي عالجت بشيء من الجرأة ومن تخطٍّ لبعض المحضورات المختلفة ، لموضوعة اللقاء بين الشرق ، والغرب ، بحوارية هذا اللقاء وصراعه وتحديّاته وأخطاره وإغرائها ، بتجربة فنية ، مع كل ما قد يؤخذ عليها ، تتخطى سوء الفهم والسذاجة أو السطحية أو التضحية بالفن ، مما قد يقع فيه الكثير من كتاب مثل هذه التجارب . ولأن المبرر الأول ، ولكنه ليس الوحيد بالطبع ، لتناول هذه الرواية هو موضوعتها – اللقاء بين الشرق والغرب – يكون ضرورياً التمهيد لهذا التناول بمدخل عن تجربة الكتابة عن هذه الموضوعة في الرواية العربية .
إذا كان الأدباء في العصر الحديث قد تَمثّلوا اللقاء بين الشرق ممثَّلاً غالباً بالعرب ، والغرب ممثلاً بشكل خاص بأوروبا وإلى حد ما أمريكا ، فإن الروائيين كانوا أكثر هؤلاء الأدباء فعلاً لذلك رغم حداثة الفن الروائي بشكل خاص والقصصي بشكل عام في الأدب العربي مقارنة بالشعر مثلاً . ويبدو أن مرد ذلك هو طبيعة الجنس الروائي نفسه المتعامل مع الحياة والواقع والناس والتجربة أكثر من أي جنس آخر . فمع " أن الكُتّاب كانوا دوماً مهتمين بالعالم الذي من حولهم " ، وتبعاَ لذلك تأتي أعمالهم الأدبية عموماً مجسِّده لذلك ، فإنه يبقى واضحاً أن الفن الروائي بالتحديد ، أكثر من كل الأجناس الأدبية الأخرى ، يعني " تقديم الطبيعة ، ونقل وجدان الواقع " (1) على حد تعبير ثاكري . لكن الرواية بالطبع إذ تُعنى بالواقع والناس والحياة التي يراها الروائي أو يخبرها أو يجد نفسه فيها ، فإنها لن تكون بالضرورة وفي كل الأحوال صورة لذلك . هنا قد يستوقفنا فن آخر ليزاحم الرواية في قدرته على فعل ذلك ، نعني فن القصة القصيرة . والحقيقة أن القصة القصيرة إذ تفعل ذلك بلا شك ، فإنها لا يمكن أن تفعله بالقدر والعمق والشمولية والتفصيلية التي تفعله فيه الرواية . ونحن نعرف أن من الفروق الأساسية بين القصة القصيرة والرواية ، أن الأولى تمثل وضعاً نفسياً واحداً تقريباً للشخصية ، بينما تجسد الرواية امتداداً متبدل المراحل والحالات من الوضع النفسي لها ، كما أن شخصيات القصة القصيرة –وضمنها بطلها- لا تشهد أو لا تقدم التبدّلات الجوهرية الإنسانية التي تحدث للشخصية في الحياة ، و هو ما تقدمه حقيقة شخصيات الرواية ومعها " يكون القارئ قادراً على أن يستمع في ذهنه إلى الصوت الحي للشخص المتكلم " (2). كما " قد تطمح الرواية .. إلى تقديم صورة الحياة الكاملة .. لا أقل " ، أما القصة القصيرة فتختار زاوية للنظر محددة بدقة نرى منها جانباً واحداً من جوانب تلك الحياة (3) . ولأننا معنيون بصورة الحياة الكاملة هذه ، فقد كانت الرواية ميداننا هنا . هكذا كان ممكناً نقدياً ، وربما نموذجياً ، النظر إلى صور اللقاء بين الشرق والغرب ، أو إحدى هذه الصور ، من خلال الروايات العربية التي ظهرت في مختلف الفترات التي شهدت هذا اللقاء ، وتحديد المواقف وراءها التي قد تعبّر يشكل أو بآخر ، وبدرجة أو بأخرى عما هو أبعد من حدود هذه الصورة أو الصور داخل العمل الروائي . فكل الذي يمكن أن نرصده أو نفهمه أو نخرج به أو حتى الذي توحي به إلينا الروايات التي ندرسها ، إنْ هي إلا من وعي ما . هل هو وعي الرواية ، في ظل مفهوم تغييب المؤلف ، أو ما يسمى موت المؤلف ؟ أم هو وعي الروائي في ظل حضور المؤلف ؟ أم هو وعي الناس الذين من حول المؤلف ؟ لا نرى في ذلك من فرق بحدود عملنا على أن نقدم موضوعة ( لقاء الشرق والغرب) في الرواية .
لقد ظهر اللقاء بين الشرق والغرب في الكتابة العربية ، وضمنها الرواية ، مبكراً ، بل هو قد زامن تحقُّقَ هذا على أرض الواقع ، بدءاً بعمل " تخليص الإبريز في خفايا باريس " لرفاعة الطهطاوي - 1836 ؛ ومروراً بأعمال " عصفور من الشرق "– 1938 – لتوفيق الحكيم ، و" قنديل أم هاشم " – 1944 – ليحيى حقي ، و "الحي اللاتيني" – 1953 – لسهيل إدريس ؛ ووصولاً إلى " موسم الهجرة إلى الشمال " – 1970- للطيب صالح ، و" الأشجار واغتيال مرزوق " –1973- لعبد الرحمن منيف ، و " والشاهدة والزنجي " – 1987 – لمهدي الصقر ، وغيرها (4). وضمن ذلك كانت الرواية الأردنية حاضرة ، فظهرت أعمال نذكر منها : " ليلة في قطار " – 1974 - لعيسى الناعوري ، و " المتميز" –1987 - لمحمد عيد ، ثم موضوع دراستنا " الثلج الحار " لمحمد أزّوقة .
تصل المهندسة الأمريكية (جانيت) ممثِّلةً لشركة أمريكية تنافس شركة العربي (سعيد) للحصول على عطاء ألمنيوم لمطار جديد في عمان . والكاتب يتعامل من الكلمات الأولى من الرواية ، مع (جانيت) عبر تقديمه لها بملامح تثير الإعجاب ، وهو ما سيتكرر في أماكن مختلفة من الرواية ، ولكن من دون أنْ يكون هو ذاته هَمَّ الروائي :
" بدأ الناس يخرجون من الطائرة ، خليط عجيب من العرب والأجانب … بقيت جانيت جالسة حتى خف الزحام ثم قامت …وحملت حقيبتها اليدوية الجلدية العزيزة التي ترافقها حيثما ذهبت …[ وبعد ذلك] فتحت حقيبة ملابسها الوحيدة أمام الموظف ، ابتسم لبساطة محتوياتها وأشار إليها بإغلاقها والتقدم " – الرواية / ص 5 .
فمن الواضح أن الكاتب يقدم هنا كياسة ورقة ومدنية سلوك الغربيين مقارنة بالشرقيين أو العرب . ولكن هل هذا مقصود لذاته ؟ لا نظن ، فما سيأتي بعد ذلك سيغير مثل هكذا فكرة قد تخطر في بال القارئ ، حين تبدأ (جانيت) وبسرعة ترى ما لم تكن تتوقعه ، كأنها تفاجأ بعالم سحري لم تحلم به أو هو عالم بمواصفات وسمات نقيض لكل ما سمعت به. يأتي رسم صور هذا العالم بافتعال لا نريد أن نقول إنه مطلق ، ولكنه بالتأكيد مفتعل ومعبر عن الكاتب لا عن الشخصية ، ويشمل البلد والأبنية والتعامل والناس . إزاء ذلك لا يمكننا إذن أن نستغرب سرعة التغير في ذهن ( جاتيت ) عندما تقول في صباح اليوم التالي :
" أيها السادة ، كنت أعتقد أننا نحن الأمريكان نحمل قصب السبق في الاندماج بالعمل لكن بعد هذه الجلسة بدأت أغير رأي " – الرواية / ص 10.
لكن الروائي إذ يقوم بذلك ، فإنه يمهد له ، وبما نعتبره عملاً واعياً ، وبمعزل عن مدى صحته وامتلاكه لقوة الإقناع فنياً ، برسم يقترب من أن يكون نموذجياً لشخصية بطلته ،على الأقل في بعض جوانبها ، وبما يتلاءم مع ما قد لا يستطيع أي منا إنكاره في الحضارة الغربية من التقدم العلمي والتكنولوجيا والتفوق الفكري والاجتماعي والثقافي . وبحدود تعلق الأمر بشخصيته الروائية ، كونها امرأة ، فإنه يضفي على بطلته المزايا التي قد تظهرها من جوانب معينة مثالية شكلاً وسلوكاً وثقة بالنفس وتمكناً من مهمتها ، وبما يبدو وكأنه موضوعية وضمن ذلك اعترافاً بما هو عليه في الغرب . لكنه في الحقيقة يمهد للتعبير عما نراه كبرياء ونرجسية للبطل ومَن وراءه ، نعني الراوي أو الروائي أو العربي . فهذه المرأة القوية والمعتدة بنفسها والممثلة لمجتمعها وحضارتها وغربها تقع أسيرة رجولته وسحره وشرقه . وربما هنا يزول استغرابنا ، ولكن من دون أن يزول تشخيصنا لافتقادٍ للموضوعية والإقناع الفني ، حين يكون إعجاب (جانيت) بالمهندس (سعيد) من أول لقاء ، في وقت لم يكن (سعيد) بعد قد أظهر شيئاً رجولياً أو فكرياً تنقاد إليه المرأة . ليس هناك غير كونه – وهذا ما يبدو أن الكاتب يريد أن يقوله - أردنياً أو عربياً أو شرقياً :
"خرجت جانيت من قاعة الاجتماعات لتفاجأ به واقفاً مع السكرتيرة في البهو … ، تسمّرت في مكانها ، وشعرت بقلبها يضطرب وجف حلقها فجأة " – الرواية / ص11.
بل هي سُحرت تماماً به ، ولم تستطع وهي تنفرد بنفسها إلا أن تفكر ” … رغماً عنها باللقاء الخاطف مع ذلك الرجل الوسيم سعيد ؟ … ماذا يفعل حتى يبدو بهذه الحيوية ؟ ” – الرواية / ص12.
تراه هكذا معجبة ومتعجبة وكأنها قد جاءت من بلد تبلّدٍ وخمول ورجال ما هم برجال ، مع أنها سرعان ما تتذكر أن لها صديقاً أو حبيباً وقوراً ومتوقد الذكاء . وانطلاقاً من نرجسيته الشرقية ، إلى جانب ما نراه فهماً خاطئاً للمرأة الغربية يهيمن على أذهان الكثير من العرب تبدو الأمريكية (جانيت) أسهل من أسهل بائعة هوى في تسليم نفسها ، بل هي تبدو مستعدة لرمي نفسها في أحضان الرجل حين يعجبها وحين تستعر الرغبة فيها ، حتى وإن لم تكن قد عرفت هذا الرجل حقاً، وبمعزل عن أية لياقة واحترام ذات ، كما يبدو ذلك واضحاً في المثال الآتي :
” في تلك اللحظة ، كانا قد وصلا إلى الجدار الخارجي لمبنى مجمع النقابات في الشارع المتجه غرباً … وبهدوء ورقة قبلها على فمها ..
” – هيا بنا نعود إلى السيارة قبل أن تنهار آخر خلايا المنطق في رأسي واغتصبك هنا والآن .
” – هوني عليك عزيزتي ، وأنا أعلم أنني مثير ووسيم وذكي إلى درجة لا تقاوم ، ولكن عليك بالحكمة والصبر، فإن سحري يتألق كلما تقدم الليل” – الرواية / ص 40 .
يبدو الصراع أو المنافسة صراعا مبرراً ، حين يتمثل في مقابلة بين اثنين بوصفهما ممثلين للشرق والغرب وليس بوصفها رجلاً وامرأة . وتكشف هذه المقابلة عن سطحية تفكير الغربي وبعده عن أن يكون متفوقاً ، خاصة حين يتعلق الأمر بالسياسة والتاريخ والجغرافيا والثقافة العامة . والحقيقة إن ذلك ومن زاوية معينة قد يبدو مقبولاً بمعزل عن ميزان الصحة والخطأ ، لكن إعجاب الأمريكية (جانيت) بالعربي (سعيد) يتخطى هذا إلى إظهار التفوق العربي أو الشرقي حتى في أصغر الأمور . وهكذا ليس غريباً ، بعد هذا أن تكون جاهزة لبيع الدنيا كلها ، بل الناس والأهل وأمريكا في سبيل هذا الفارس العربي ، فهي بكل ما تملك وبانتمائها إلى غربها لا تعني شيئاً من دونه : " لم تجد أية ضرورة لإخباره أنها جاهزة لاعتزال الناس والدنيا لو أنه طلب منها ذلك " – الرواية / ص 240 .
ولعل في وجود المنافسة بين رجلين أمريكي وعربي على المرأة الأمريكية ، والمتمثل في تنافس (روبرت) ، صديق (جانيت)، و (سعيد) ، وانتصار الأخير في أن تسلم المرأة الأمريكية بسحره وجاذبيته وانطفاء كل ما يملكه الآخر من رزانة وتوقد ذكاء ، ما يعزز نرجسية البطل العربي ورؤيته للمرأة الغربية ، على أنها لا يمكن إلا أن تنقاد بكليتها إلى الفتى العربي وقد تقزّم الغربي إلى جانبه في عينيها رغم كل ما قد يمتلكه من مزايا : " لقد حدثت الأمور بسرعة أفقدتها سيطرتها على نفسها … سحرها العربي الوسيم الذي لم تعرف أحداً مثله ، فماذا تفعل بالنسبة لروبرت ؟ … إن ليلة مع سعيد تعادل السنتين اللتين قضيتهما مع روبرت بل تعادل سنين عمري حتى الآن " – الرواية / ص 103 .
وبنفس الطريقة التي يظهر فيها المؤلف كم هو سهل وقوع الأمريكية (جانيت سومرز) ، المهندسة والمثقفة والجميلة والواثقة من نفسها والقادرة على إثارة الرجال وإيقاعهم في حبها والممثلة لكل ثقافة أمريكا وحضارتها وتطورها ، في حب وسحر البطل العربي ، وينكشف الكثير من المبالغة في شخصية الغربي والغرب عموماً قوة وتفوقاً ، يكون التقزيم والتلاشي (لجانيت) أيضاً أمام امرأة عربية عادية هي (غادة) زوجة (سعيد) حين يتواجهان بشأن العلاقة التي تكتشفها (غادة) بين زوجها و(جانيت) . فبثقة واتزان وهدوء وأسلوب غير معروف حتى عند المرأة المثقفة في مثل هذا الموقف الذي تجد أو تدفع نفسها فيه ، تواجه الزوجة عشيقة زوجها التي تسألها بضعف وارتباك :
" سيدة دوري ، أرجوك ، إن التوتر يقتلني ، لا تتلاعبي بمشاعري . لماذا استدعيتني هنا ؟ …
" فوجئت جانيت بقوة شخصية هذه المرأة ، حسدتها على الطريقة التي تتحدث بها : كل كلمة في مكانها ، ونبرات متزنة ، جعلــت تفرك يديها بعصبية تحت الطاولة وهي ترجو الله ألاّ تلاحظ غادة مقدار ارتباكها " – الرواية / ص 269 .
وهكذا تتقزّم جانيت بكل موروثها وحضارتها وثقافتها وقوة شخصيتها التي عرّفنا بها الكاتب نفسه ، أمام امرأة عادية ليس لها في حياتها غالباً غير العناية بزوجها وأولادها ، أما كيف يكون ذلك ، ولماذا ؟ فليس من تبرير نستطيع أن نجده غير قصدية المؤلف بالقول ضمناً : لأنها عربية أو شرقية .
" شعرت جانيت بانسحاق تام أمام هذه المرأة … اعترفت لنفسها بأن هذه المرأة على حق مهما قالت وفعلت " – الرواية / ص 270 .
يبقى بعد هذا ، هل من الطبيعي أن يلتقي الشرق والغرب أوالشرقي والغربي على شيء ؟ في ظل هذه القدرات وقوة الشخصية وامتلاك زمام الأمور التي تبدو عليها الشخصيات العربية ، يكون الجواب (نعم) . ولكن مع ذلك يبقى التردد أو التحفظ في مرجعيته النفسية والتاريخية والسياسية ، خاصة إزاء الغرب والغربي . وربما من نفس تلك المرجعيات النفسية والتاريخية والسياسية ، يحكم المؤلف على علاقة (سعيد) بـ(جانيت) التي هي علاقة العربي بالأمريكي وعلاقة العرب بأمريكا ، وبالغرب بشكل عام ، بالإعدام والنسف انطلاقا من كونها غير مشروعة وعقيمة أو مرفوضة ، خاصة عندما تكون بين الرجل العربي والمرأة الغربية . فكما انتهت من قبل علاقات أو أنهيت أو حيل بينها وبين أن تكون أصلاً في روايات (الحي اللاتيني) و(موسم الهجرة إلى الشمال) و(ليلة في القطار) وغيرها ، يكون الحكم بالإعدام على علاقة (سعيد-جانيت) ، مع أن هذا الحكم قد يفهم على أنه حكم على العلاقة غير الشرعية بين رجل متزوج وامرأة . فتنقلب السيارة بالاثنين وهما في طريقهما إلى عمان بعد قضاء ليلة معاً في العقبة ، لتأتي مواجهة الذات بعد هذا في واحد من أهم مقاطع الرواية في الصفحات الأخيرة منها :
” هل هي النهاية إذن ؟ وماذا كان بإمكاني أن أفعل ؟ وهل كان يجب أن ينتهي الأمر هكذا … على كرسي بعجلات [لجانيت] ! رحماك يا ربي ، فما كنت أريد للأمور أن تصل إلى هذا ، ولكن ربما هو جزائي على ما اقترفت فسامحيني ” – الرواية / ص259 .
وتتأكد هذه المقابلة غير الموضوعية بين الغرب والشرق من خلال شخصيات ومواقف أخرى مختلفة . من ذلك ما كان من لقاءات بين (سعيد) وبعض خبراء ومسؤولي الشركات الغربية التي تتعامل معها شركته ، ومقارنات ضمنية وصريحة بينه وبين الامريكي (روبرت) ، نرصدها خلال تطور علاقة (سعيد– جانيت) . فالأمريكي ، والغربي بشكل عام لا يمكن ، انطلاقاً من نرجسية البطل أو الراوي أو الروائي ، لا يمكن له أن يقارع الشرقي أو العربي ، بل هو غالباً ما يُدحر أو ينسحب أو يجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه ، أحياناً من المواجهة المجردة ، حتى وإن كان هذا الأمريكي أو الغربي غاية في الذكاء والدهاء . ولذا يكون طبيعياً استفادة الغربي مثل (جانيت) من العربي ، وتبدل أفكاره بسرعة حين يأتي إلى بلاد العرب :
” استدركت كم استفادت من وجودها في الأردن خلال الفترة الماضية ، فقد اتسعت مداركها بشكل عجيب لأن الناس هنا يهتمون بما يجري في كل أقطار الدنيا … عتبت على نفسها كيف أنها قبلت في الماضي ، كغيرها عن الأمريكيين ، بوجهة نظـر الإعلام في بلدها بدون بحث أو نقض” – الرواية /ص264 .
ولا يكون مثل هذا أمراً غريباً إذا ما عرفنا كيف يعيش الغربيون ، ممثَّلين في الرواية بالأمريكان . فهم إضافة إلى استلابهم ، يعيشون بعضهم في عزلة عن البعض الآخر ، ويفقدون الأمان في حياتهم ، وغير متواصلين دوماً مع الغرباء : ” أغلب الناس لا يعرفون بعضهم … ، إنّك تسكن العمارة سنوات بدون أن تعرف جارك في الشقة الملاصقة ” – الرواية /ص99 . والانقطاع والعزلة وعدم التواصل ينال حتى من العائلة . فحين يسأل (سعيد) (جانيت) عن سبب خلو منطقة يكونان فيها من الناس ، عن أصحاب بيوت المنطقة ، تجيبه : “- الرجال مع صديقاتهم ، وزوجاتهم يشربن الجين تونيك في الداخل ” – الرواية / ص 110.
أما (روبرت) ، ورغم أمريكيته وما تعنيه ، وتوقد ذكائه ورزانته كما تنقل لنا ذلك (جانيت) ، ورغم ارتباطه بها بعلاقة ابنة سنتين ، فإنه يتقزّم تماماً مرة ثانية أمام (سعيد) ، إذ يخسر (جانيت) أولاً حين تنقاد نحو سحر الشرقي ، ليخفت نجمه في اليوم التالي لوصولها إلى الأردن : ” طلبت ثلاثة أرقام في أمريكا : الأول رئيسها في العمل .. والثاني والدتها في ويسكونسن … أما الثالث فكان روبرت . استغربت من عدم حماسها في الحديث إليه ” – الرواية / ص13 . بل إن هذا الذي قدمته (جانيت) نفسها على أنه رجل ذكي وصادق ، وأن عمر علاقتها به سنتان ، يخسر رجولته إزاء العربي (سعيد) حتى قبل أن يتقابلا ، لتتأكد خسارته حين يلتقيان في بيت (جانيت) ، فسكراناً يسأل (جانيت) :
” … إن لي الحق أن أعرف بالضبط ما تعدّينه خلفي أنتِ وهذا الأجنبي اللعين …
” – روبرت – قال سعيد – لا داعي للإساءة الآن …
” – … الأفضل أن تبقى خارج الموضوع .
وبدا عليه التهيج … وبدأ يقترب منها بشكل ينذر بالخطر …
” رفع روبرت يده اليمنى ووضع بها سعيد جانباً . في تلك اللحظة كانت ركبة سعيد اليسرى ترتفع بقوة لتصدم روبرت في خاصرته اليمنى ، عاجله بلكمة من قبضته اليمنى على فكه اتبعها باليسرى ، فسقط روبرت على ظهره…
” جلس روبرت وقد بدأ عليه الانكسار ، بحث عن نظارته حتى وجدها فوضعها وقام متمهلاً ، وهو يتحسس وجهه ورقبته بيديه . واستدار إلى الباب واتجه نحوه بخطى غير ثابتة ، فتحه وخرج تاركاً الباب مفتوحاً خلفه ” – الرواية / ص140 .
وحتى استرداده (لجانيت) لا يتحقق إلا بمساعدة القدر . فحين تقع حادثة السيارة لها مع (سعيد) ، يتنازل هذا الأخير عنها عطفاً عليه ، وتسليماً بما رآه حكم القدر :
” استغرب أن يقرأ في وجه روبرت كمّاً من السعادة والرضا . [ لكنه وجده قد ] أبدى خلقاً كبيراً وترفعاً على الصغائر ، وأهم من هذا كله تغلب على كل مشاعر الغيرة واستطاع أن يحضـر إلى هنا ليقوم بخدمة جانيت ويقف إلى جانبها ” – الرواية / ص 296 .
الغريب أن الكاتب ، مع أنه ينطلق في كتابة روايته كما يبدو واضحاً من تجربة ومعايشة ومعرفة تفصيلية لأمريكا والأمريكان ، فأنه يكتب عن عالم الغرب بمجتمعه وأفراده ونسائه بالنَّفَس الذي يكتب به كتّاب انطلقوا في كتاباتهم عنه من المعرفة به من خلال وسائل الإعلام والسماع أو السياحة ، ومن شرقيتهم ومفاهيمهم عن المجتمع والإنسان والمرأة والعلاقات … فتكون الصورة المشوهة جزئياً أو كلياً . ولكن يبقى أن هذا لابد أن يمثّل بدرجة ما ، ما يحمله الكثير من العرب والشرقيين عن الغرب والغربيين ، وبما يعني أنها وجهة نظر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- Ch. Butler and A. Fowler (arranged), Topics in Criticism, Longman Group, London, 1971,No.174.
2-Johan Stephens: Seven Approaches to the Novel, Harrap, London, 1972, P133.
3- فاروق عبد القادر: قصة قصيرة طويلة، مجلة الهلال ، ع 2 ، 1988 ، ص 194.
4-انظر : جورج طرابيشي : شرق وغرب..رجولة وأنوثة ، بيروت ، 1979 .