عالم مخلوقاته من الشمع
ميسلون هادي
إذا كنت تستقل إحدى سيارات الأجرة في لندن وحدس سائقها من سحنتك،أو من اللكنة التي تخالط نطقك للإنجليزية، إنك سائح غريب عن بلد الضباب فإنه سرعان ما يسألك:
-هل زرت « مدام تیسود میوزیم»؟
ويقصد بذلك ( متحف الشمع) الأكثر شهرة بين متاحف أنكلترا وأوربا والعالم أجمع. فما هي قصة
متحف الشمع، ومن هي مدام اتيسود التي اشتهر باسمها المتحف.. إن الزوار الداخلين إلى شارع «بيكر» في لندن يعرفون جيداً تلك القبة الخضراء العالية والناس المصطفين تحتها في طوابير طويلة ينتظرون دورهم للدخول الى عالم «مخلوقاته من شمع»، يملؤهم إلى ذلك شوق كبير ونفاد صبر .
عندما يصبحون في القاعة الصغيرة التي تتقدمها السلالم المفضية إلى قاعات المتحف المتعددة، فإنهم يكونون عندئذ في حضرة « السيدة تيسود»، حيث تجلس ساكنة سيدة مسنة تضع على عينيها نظارة طبية صغيرة، ويحمل وجهها ذو الأصل الفرنسي ملامح الحياة القاسية والمعاناة التي تخللتها.. تلك هي – مدام تيسود- السيدة التي كانت بذاتها متحفاً، وكانت صورتها الموجودة اليوم في متحف الشمع هي آخر انجازاتها عندما كانت في السن الواحدة والثمانين.
ولدت مدام تيسود في ستراسبورغ عام 1761، وأمضت طفولتها في باريس مع أمها وخالهـا كورتس ثم تعلمت فن التصميم بالشمع في (Versailles)، وحققت النجاح في إبداع التماثيل الشمعية في عمر متأخر، وبمساعدة اثنين من أولادها .. ثم عاشت بين سن 41 و 74 حياة زاخرة لفنان.. متنقلة من مدينة إلى اخرى مع عرباتها ومعارضها.. منتزعة، حيثما تحل، الإعجاب من كبار الشخصيات وعموم الشعب ونقاد الصحافة.
«بشر … أم تماثيل»
عند مدخل المتحف .. تدهش حال وصولك إلى صالونه الأنيق لوجود صباغ للاحذية يجلس منحنياً على صندوقه ليصبغ حذاء رجل واقف.. ولكن دهشة الاستغراب سرعان ما تذوب، لتحل محلها دهشة المتعة.. إذ أن الصباغ وزبونه من …. شمع !
بهذا المشهد الطريف يستقبل متحف الشمع زواره.. وإذا كانت تلك اللقطة لا تنطلي عليهم لأكثر من لحظات معدودة، فإنها تدفعهم إلى التطلع مندهشين لهم لاكتشاف حقيقة الأجساد التي تحيط بهم مأخوذين بلذة المراقبة، أو تقليد التماثيل المموهة، والمبثوثة بينهم حتى يغدو الهدف من التطلع والتحديق، هو التمييز أيهم من شمع بين الناس، وأيهم من لحم ودم…
«فنانون.. وقادة »
عند قاعات المتحف الأنيقة والمزينة بالمرايا والنقوش الرائعة… تقف منذ عشرات السنين مجموعة من أشهر شخصيات العالم ومن مختلف الأجناس والبلدان .. حيث يتباطأ الزوار كثيراً، وغالباً ما يتوقفون طويلاً أمام تماثيلهم الشمعية يتأملون دقة صنعها في تصوير الشخصيات المعروفة.. مما يجعل التقاط الصور معها مزحة طيبة لمتعة يعز نظيرها.. لقد رأيت أحد زوار المتحف يضع رأسه تحت يدي « هتشكوك » بحركة مضحكة، بينما تلتقط له زوجته صورة للذكرى.. إنه يستطيع الادعاء دون عناء أن تلك الصورة تضمه مع الفريد هتشكوك فعلاً، كما أنه يستطيع أن يفعل ذلك مع الرسام الشهير بيكاسو أو مع مارلين مونرو أو أودري هيبورن أو أجاثا كريستي أو مع لاعب الكرة الشهير «بيليه».. فقاعات المتحف تضم مجموعة كبيرة جداً من أشهر
شخصيات العالم، ســــــواء كانوا من السياسيين، أو الفنانين، أو الرياضيين، أو أي من الذين حققوا نصيباً واسعاً من الشهرة والمجد.. وحتى الذين أصابوا شهرتهم في الشر والإجرام، فإن لهم في تاريخ متحف الشمع نصيباً.. ولكنه من نوع آخر فقد خُصصت قاعة سفلية مظلمة شبيهة بسجن.. يضطر الزائر لبلوغها إلى هبوط سلالم ضيقة ومعتمة.. وعندما ينتهي إلى القاعة التي يحف بها جو مرعب وبارد، وتنطلق من أركانها أصوات مبهمة توحي بالفزع، يكون الزائر وجهاً لوجه مع أعتى مجرمي التاريخ محفوظـة تماثيلهم الشمعية في زنزانات مظلمة تذيل كل منها لوحة كتب عليها اسم المجرم، وجريمته التي استحق عليها هذا (الخلود)!!! ..
تحت سقف القاعة نفسها وُضعت أيضاً بعض أدوات الاعدام، التي اُستخدمت في أوربا في فترات تاريخية مختلفة.. كالكرسي الكهربائي، والمقصلة الشهيرة التي قُطعت رؤوس العائلة المالكة في فرنسا. وأشهر تلك الرؤوس رأس(ماري انطوانيت) زوجة الملك ( لويس السادس عشر).
«فن .. ومتعة»
إن المرء ليُدهش، في أي ركن يحل به من أركان المتحف الفخمة، من براعة العمل ودقة التنفيذ لملامح الشخصيات الممثلة ولتفاصيل جسومها ومراعاة الذوق الفني العالي في اختيار زاوية النظر الملائمة للشخصية، ممايجعل الجهد الذي يبذله الفنان من أجل ذلك محط اعجاب ودهشة.. وعن المراحل التي تستغرقها عملية صنع تلك التماثيل يفيدنا دليل المتحف :-
(بعد أن تُجمع المعلومات التفصيلية عن الشخصية ويُقرر المشهد أو الوضع الملائم لها، يُصنع المثال الهيكل الذي سيُصب فيه الصلصال، بعد ذلك يُعمد إلى انشاء الشكل النهائي لقالب الجسم، وبعد إنهاء( عملية القولبة) يصب الشمع في القالب مع مراعاة صنع اليدين بسبيكة خاصة ذات مادة لاصقة.
بعد ذلك بمدة محددة تزال القوالب عن كتلة الشمع قطعة فقطعة،حيث يكون الرأس معزولاً عن باقي الجسم، وذلك لغرض تثبيت الحدقات الزجاجية للعيون ووضع الشعر المستعار على الرأس.. تبقى بعد ذلك لمسات أخيرة ذات علاقة بالشكل الخارجي، كإضافة بعض الألوان إلى الوجه، أو وضع المكياج في حالة كون شخصية التمثال (إمرأة) .. ثم تأتي المرحلة الأخيرة التي هي الملابس (والاكسسوارات).. يُثبت بعدها التمثال في مكانه المخصص، حيث يصبح موضعاً لتفرس ألوف الزائرين الذين يأتون المتحف من كل أرجاء العالم.
مجلة فنون، 1-9-1979
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …