ما لم يقله الرواة

ما لم يقله الرواة
اتسعت الرؤية ولم تضق العبارة
ميسلون هادي
من الصعوبة بمكان أن يجعل الكاتب من مشاعره وأحاسيسه الخاصة موضوعاً للكتابة القصصية أو الروائية ما لم تكن تلك التجربة الذاتية عنصراً فعالاً في المسار النوعي للتجربة الموضوعية التي يعيشها الكاتب وتزداد هذه الصعوبة عندما يكون هذا (الكاتب ) امرأة وليس (رجلاً ) لأن (ذات ) المرأة محيطة أكثر من (ذات) الرجل وأقل منها تماسكاً ( حتى بالنسبة لاثنين على الدرجة نفسها من الوعي ) وذلك لأسباب اجتماعية وتاريخية معروفة والنزوع إلى الذات أثناء الكتابة يقود إلى نوع من الكتابات العاطفية التي ترضي فضول الذائقة التقليدية وتحد من إمكانية التخفي وراء شخصيات ادائية مختلفة تقدم الصراع المطلوب لوجهات نظر مختلفة داخل العمل الواحد ، ولكن لطيفة الدليمي تقترح لنا ، في مجموعتها الجديدة ( ما لم يقله الرواة) والصادرة عن (دار أزمنة) في عمان هذا العام ، يقترح لنا صيغة منتخبة ومفتوحة لتحويل التجربة الذاتية ، حصراً. إلى جسر ينبثق من خصوصية الإحساس وبدايته الطرية ثم يخطو بطلاقه ويسري في الذات إلى الموضوع دون الخضوع لقيود ومواصفات القصة القصيرة المعروفة وانما يتحرر منها بشكل عفوي يفرضه تدخل الموضوع الذي يضيق جريانه باي عائق أو حاجز يحد من حرية هذا الجريان لينتج في النهاية شكلاً أخر أكثر طلاقه وفضاء وهو شكل النص -الينبوع لذلك فإن الناشر برأيي ، يخطي عندما يجنس هذا الكتاب باعتبارة مجموعة من القصص والأدق من هذا المصطلح هو استعمال مصطلح “المخطوطات” لأنها الأقرب إلى روح هذا النوع من الكتابات الشبيهة بالجداريات أو السبائك أو النصب الملحمية والتي تجمع بين قراءة الجوهر الإنساني المطلق وبين التجربة الذاتية للفنان في آن واحد .
إذن تشتغل لطفية الدليمي في هذه المخطوطة وكما في أعمالها السابقة على محنة الإنسان الفاني الذي تحاصره ويلات العالم المادي وعناصره الزائلة وبدلاً من أن يتحول هذا الإنسان إلى مخلوق واقعي يقارع هذه الويلات ويقترح لها البدائل (الأرضية) كما يفعل الأبطال المؤدلجون الذين يريدون تغيير العالم بدلاً من ذلك تقارع(بطلات) لطيفة الدليمي هذا العالم المادي ومشاكله المستعصية على الحل باقتراح عالم فنطازي يسري بالإنسان من الأرض إلى فردوس الهي مثالي يغترب (بالغين) من خلاله عن الواقع وينجو به من الفناء إلى الخلود .
ومن الطبيعي أن تنجو مثل هذه المواجهة منحنى صوفياً خالصاً من شراهة الحسد ومتطلباته المادية لتحلق بخفة الملائكة بعيداً عن نفائس الحياة الدنيا وصغائرها أيضاً وتنتقل بأقصى حرية ممكنة من أقصى الوجود إلى أقصى العدم نابذة كل الماديات والمخاوف والمصائر الفانية للأشياء .
وتكاد تكون فنطازيا التلاشي وتغييب الجسد أو إلغاؤه هي القيمة التي تتكرر في أغلب نصوص هذه المخطوطة ففي (أخف من الملائكة) تجد البطلة نفسها قادرة على التحليق والتنقل داخل ظلمات الليل بأقصى حرية بعد أن كانت هذه الحرية محجمة وسط قوانين الهار وفي نص (جياد الليل) تتمنه البطلة هذا الغياب عن طريق الحلم بعد أن أفزعتها جياد غير مرئية تعدو في هجعة الليل وتجتاح سياج بيتها والثيمة نفسها تتكرر في نص (ما لم يقله الرواة) والذي تحمل المخطوطة عنوانه إذ تمارس البطلة “شهرزاد” لعبة التخفي والسفر عبر الزمان مستبدلة جمالها الجسدي برجاحة العقل لكي تحبط أمل رجل يحلم بامتلاك امرأة المثال الشهرزادي وتتجلى هذه الرؤية بافراط في نص (الريح) الذي تحاول فيه البطلة استكشاف المكان ثم إعادة رسمة في مواجهة الريح العاتية التي تهب عليه ،فتعبر البطلة مع حبيبها نهر دجلة من جهة جسر الجمهورية الذي يواجه نصب الحرية الشهير في ساحة التحرير ومن حديثة الأمة تحلق لتسير تحت طبق الرواق المعمد لشارع الرشيد فترسم أجنحة لذراعيها وتصعد فوق أعلى مباني المدينة لترسم الجمال وتلتقط أسراره القباب والمساجد والكنائس والأسوار العباسية .أما الرجل الذي تصفه مثل ورقة تخشى عليها من الطيران مع القش في هبوب الريح فيظل مشدوهاً نافذ الصبر من المكان الذي أصابته هزة أرضية بطيئة خلخلت الأشياء وقضمتها ببطء، مع ذلك يتبع هذا الرجل حبيبته في طيرانها دون أن يتوهج ، إلا أنه يعترض في النهاية على محاولتها اختراع العالم من جديد قائلاً لها :
” أرى الناس بحاجة إلى أزاهيرنا ونجومنا وموسيقانا هم ينتظرون أشياء أخرى .
فتقول له:
” تعال ولا تدعني وحدي أرسم المدينة فلا أريد رؤية واحدية تعال ..تعال وشارع الرشيد تخترعه الساعة .هيا ، وعند أول شارع الرشيد حيث يلتقي جسر الجمهورية بشارع الشاعر الموصول إلى شغف الحياة (أبي نؤاس) يدخل الاثنان بوابة مكان فردوسي بطل على نهر دجلة وعلى بابه طغراً ذهب لكلمة (أمل) وهذا المكان الذي تصفه الكاتبة بأنه فردوس عراقي تتردد فيه المقامات والمواويل البغدادية وتملؤه غيوم البخور والتماثيل والتحف واللوحات والأبسطة والنباتات الظلية والطنافس والأرائك وأباريق الشاي الموضوعة فوق السماورات ، هو نفسه مملكة الأبجديات الذي تولد فيه مسلات الشعر والغناء . وفي هذا المكان ينحني الرجل ليقبل راحة يد حبيبته فتصطدم كفه بقدح الشاي ليسقط جواز سفره بعد ذلك على المنضدة فوق بركة الشاي فيقول لها وهو يتلفظ بعذر
” أنا أنشد نجاة والرحيل متاح وباطل ما ترسمين ، فتقول له بعد أن يخرجا من الفردوس العراقي إلى شارع الرشيد والريح لا تزال تعصف بشده .
“أذهب إلى بلاد ونساء ومصير وبلاد عابرة ونساء عابرات ونبوءة قلبي تفتحت عن شبحك وانت تقتقي أثر التراب القريب وتندس في قوافل الهواء لا تبالي بغير سلامة جسدك من لفح ريحنا والريح في كل الأمكنة وزمنك مفقود وأنت تختصر العالم بجسد يبتغي شبعاً وتخرج من نفق الريح إلى متاهة النسيان إلى الصفر”
ثم تستدير المرأة إلى الجسر ويدخل الرجل ثقباً في جدار الريح يمتصه ويقذفه في المتاهة بينما ترتقي هي الدرجات الطويلة وتصعد إلى أعلى الجسر المطل على نهر دجلة .
وهذا بالتأكيد تبسيط ظالم لهذا النص الباذخ لأنه في الحقيقة صورة ملحمية وخلاصة روحية للرسالة التي أرادت لطيفة ابلاغها عبر أغلب أعمالها المكتوبة خلال السنوات الأخيرة والتي تقول أن الريح العاتية تهب علينا من كل الجهات وأن الهروب منها غير مجد وأن قدرنا هو مواجهتها بملاذات هي أقرب منها إلى اليوتوبيا منها إلى أرض الواقع ويبدو أن لطيفة الدليمي لا تؤمن بوجود هذه الملاذات حسب ، وانما تؤمن حسب ، وإنما تؤمن أنها متاحة لمن يريدها حتى وأن طحنته رحى التراجيديات اليومية.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *