اضمامة من قصص ميسلون هادي قنديل السرد العراقي
من أدب الخيال العلمي
جريدة الزمان 26-9 2017
شكيب كاظم
لقد كان المغامر النرويجي (ثورهيردال) من أوائل من قاد حملات الدفاع عن بيئة الأرض قبل ظهور أحزاب الخضر في أوربة الغربية حاثة الإنسان على عدم استنزاف عطايا أمنا الرؤوم, الأرض, وما زلت استذكر زورقه الشراعي, وهو يجوب البحار والمحيطات دفاعاً عن البيئة البحرية وما تتعرض له من تلويث ناتج عن اصطدام ناقلات النفط العملاقة أو جنوحها, فضلاً عن ما تقوم به البوارج والسفن والأساطيل الحربية من تلويث, وإذ لم يجد لنداءاته صدى, فإنه أقدم في 13من نيسان سنة 1978 على إحراق زورقه احتجاجاً, هذا المغامر الذي تولى الإبحار من شواطئ الإسكندرية, بزورق صنعه من البردي يماثل ما صنعه الفراعنة الأوائل, والتوجه نحو مضيق جبل طارق, وصولاً إلى المحيط الأطلسي, ومخر عبابه نحو المكسيك للبرهنة على ان الفراعنة الأوائل بناة الأهرام بمصر, هم الذين بنو أهرام المكسيك وعلى الرغم من خيال (ثورهيردال) الخصب, الذي قد لا يؤيده التأريخ فإنه نجح في الوصول إلى المكسيك, بعد فشل رحلته الأولى وغرق زورقه بسبب امتصاص أعواده وخشبه الماء فضلاً عن زورقه الذي انطلق به من مدينة القرنة العراقية سنة 1977 وسماه (دجلة) لتأكيد الصلة بين الحضارة السومرية وحضارة بلاد السند, وإذ لم نعرف نحن العرب أدب الخيال العلمي, إلا قليلاً يقف الأديب المصري الطبيب مصطفى محمود (1928-2009 )في مقدمتهم في حين كتب الغربيون والأوربيون في هذا اللون منذ القرن التاسع عشر, وما زال الدارسون يستذكرون جهود الفرنسي (جول فيرن) (1905-1828) فضلا عن كتابات الانكليزي هربرت جـــــــورج ويــلز1866) – (1946 في عديد كتبه, ولاسيما كتابه (طعام الآلهة) الذي كان من مقتنيات المرحوم أبي ومازلت استذكر غلافه الأصفر وأنا طفل غرير في الصف الثاني الابتدائي, وقد رسمت على واجهته كف بشرية عملاقة تمتد من السماء, وبشر يحاولون الهرب من هذه اليد المخيفة لذا شغفت حباً وأنا أقرأ المجموعة القصصية الرائعة الصادرة طبعتها الأولى عام 2015, عن دار الشؤون الثقافية العام ببغداد في ضمن سلسلة (سرد) التي استحدثتها الدار مشكورة في ضمن سعيها المتواصل لتقديم صورة واضحة عن السرد العراقي, كي تتيح للباحثين والنقاد فرصة دراسته, وللقراء مجال الإطلاع عليه وقراءته, لأيقونة القصة والرواية العراقية, العاملة بهدوء وشغف ودأب, بعيداً عن بهارج الإعلام, المبدعة (ميسلون هادي) التي وسمتها بـ(ماماتور.باباتور.) واشتملت على ثلاث عشرة قصة قصيرة, تدور في محور أدب الخيال العلمي. مركزة على بؤرة التلوث الذي سيعصف بالحياة البشرية مستقبلاً, إن لم تتنادى الجهات
الإنسان يدمر كوكبنا الجميل
المعنية الحكومية لتقليل تأثيراته والحد منها, لذا رأينا أكثر من مؤتمر وندوة عالمية لدراسة مناخ الأرض وبيئتها, فضلاً على الإسراف المدمر في الاستهلاك والبطر الزائد عن الحد, لذا فإن القصة الأولى التي وسمتها المبدعة ميسلون هادي بــ(الهدايا العشر) وتصور لنا الإنسان الذي سيحيا بعدنا, وقد خلَّفنا له أرضاً جدباء قاحلة, واصفاً إيانا بالأجداد المدللين البطرين الذين ما اهتموا بمصائر الأجيال المقبلة فيقدمون الإنسان الوحيد الباقي على قيد الحياة لمحاكمته جراء ما أقترف مجايلوه والذين قبله من جرائم شنيعة إزاء أمنا العطوف الأرض ليعثروا على دليل جرمي يكفي لتجريمه وتجريم الأجيال التي سبقتهم, الدليل بمجلة تعني بالتجميل لا النسائي فقط, وهذا لعله مما يأتلف مع طبائع الحياة والأشياء, ولكن ما بالهم رجال ذلك الزمان المدللون يبحثون عن التدليك والتجميل, تركوا الماء لغسل الوجه وتجميله, تركوه بطراً ودلالاً إلى الدهون والمعاجين والمناديل المعطرة والصوابين, وقوارير العطور, الملفوفة بأشرطة ملونة باهظة الكلفة, حتى لقد تركنا الأجيال المقبلة تحيا شتاءها القـارس بلا وقـود, يتدفأون بالسبات داخل غـرفهم، واختفت الأشجار والأوراد ومساقط المياه العذبة والنقية.
وأحالها الإنسان إلى أطنان من النفايات والأوساخ والقناني الفارغة والأكياس والأوعية البلاستيكية, وعصفت بنا أخيراً بدعة قناني المياه البلاستيكية وأوعية الطعام المسماة لاب توب وتركنا المواعين والأقداح الزجاجية, وقصاع الجند وماء الإسالة.
القاصة المبدعة ميسلون هادي تدير حواراً بين شخصي قصتها هذه ليتساءل أحدهما :
الأجيال المقبلة ستدفع ثمناً باهظاً
-أرأيت الحُلَل الفاخرة التي يرتديها (….) أما نحن لا نرتدي غير هذه الملابس الواقية من تقلبات الطقس طوال الوقت(….) لا عجب ان عطر الفواكه قد اختفى وزال من الوجود, هذا الإنسان كان عدو الأرض بل عدو الأرض والسماء, سيدفع ثمن هذا باهظاً.
ضحك الأول وقال:
– بل نحن الذين دفعنا الثمن …” تراجع ص9-ص10.
نعم هوس الإنسان وجشعه وحبه المال حباً جماً, سيجعل الأرض صقعاً مدقعا ومنتجعاً بلقعاً خاوياً.
إن ميسلون هادي بقصتها (الهدايا العشر) تنظر بعين من أزيلت عنه الحجب, وسجف الغيب, إلى الزمان المؤسف الآتي الذي سيكون عليه الإنسان القادم, الأمر الذي دفع بعالم الفيزياء والفلك البريطاني المقعد (ستيفن هوكنغ) ليطلق نبوءته المأساوية, إن الإنسان سينقرض إذا ظل سادراً في غيه, سينقرض بسبب التلوث والانفجار السكاني ولذلك عليه ان يبحث عن كواكب بديلة ليحيا فيها, ففرص الحياة على الأرض تتقلص.
وتواصل ميسلون هادي إدانتها السلوك البشري في استنزاف الأرض ومواردها في قصتها الثانية (عطر الوردة) فإذ خلت أجواء الأرض من عطر الزهور والرياحين, والقداح وطلع النخيل, وكل ما أغدقه الله علينا من نِعَمْ, فإن أسراب النحل تتجه نحو أحد البيوت التي يفوح منها عطر أو ما يشبه العطر, فيضطرون إلى طلب شرطة النجدة, وإشعال النيران, كي يبعد دخانها جحافل النحل المتجمهرة عند شبابيك الدار, فـــ(آذار شهر الربيع وتفتح القداح والأزهار وأسراب النحل التي خلقت للتجوال بين الحدائق, والتنقل من زهرة إلى أخرى لامتصاص الرحيق, راحت تنطح زجاجات نوافذ البيت وأزيزها يملأ الفضاء, متجهة لمصدر العطر الوحيد, الذي لم يعد ينطلق من مروج الأرض وشجيرات الورد, بل من القوارير والزجاجات التي يحفظها البشر داخل البيوت) تراجع ص16.
وإذا كانت القصة الأخيرة من المجموعة القصصية (السنة الأخيرة) التي كتبها القاص العراقي المهاجر (جيان) ونشرتها دار أمل الجديدة بدمــــــشق عام , 2015 أقول إذا كانت القصة الأخيرة من هذه المجموعة والتي وسمها (جيان) بـــ ( من دفتر الصحفي. السنة الأخيرة ) واسطة عقد المجموعة هذه, فإن القصة الأخيرة من مجموعة (ماما تور بابا تور) القصصية, والتي عنونتها مبدعتنا المتألقة (ميسلون هادي) بـــ (الخطأ القاتل) هي الأخرى واسطة عقد هذه المجموعة الرائعة, وتصل إلى نحو أربعين صفحة, فـــ(الخطأ القاتل) قصة نفسية نسجها نول (ميسلون هادي) بتقنية عالية, أحوجتني لإعادة قراءتها مرات عدة, وأعدت قراءة أقسامها الأخيرة مرات أكثر عدداً, لكي أتمكن من أكتناه فحواها, وأسبر أغوارها, واحتجت العودة إلى بعض كتب علم النفس, ومنها كتاب (النفس, انفعالاتها وأمراضها وعلاجها) لطبيب النفس الفلسطيني, الذي أقام بين ظهرانينا سنوات طويلة, وكانت عيادته الطبية النفسية قرب عمارة حافظ القاضي بشارع الرشيد, طبيب النفس الدكتور علي كمال.فضلاً عن عودة إلى كتاب (ذكريات, أحلام وتأملات) لعالم النفس كارل غوستاف يونغ, الذي ترجمته المبدعة ناصرة السعدون, ومراجعة الدكتور سلمان الواسطي, الذي خسرته الثقافة العراقية سراعاً, أقول احتجت وأنا أقرؤها إلى كتب نفس, فــــ (جنات) تصحو ذات يوم, لتلقي نظرة على الرجل الراقد إلى جوارها, شلها الرعب, ليعلن وجهه النائم عن مفاجأة عقدت لسانها, لقد شاخ
قصة نفسية سامقة
الرجل وأبيض شعره في مواضع عدة, وتساقط في مواضع أخر, وتهدلت بشرته, أحقاً هذا الرجل الشائخ هو زوجها الوسيم (صلاح) الذي ما زالت صورته النضرة النضيرة في تلافيف ذاكرتها؟ القاصة المبدعة ميسلون هادي, وما وصفته بــ (الزوج) بل بـــ (الرجل) للبون الشاسع بين الصورتين, ما الذي يجري رباه؟ وامتدت يدها إليه كي توقظه, وفي اللحظة التي لمسته فيها انقلب باتجاهها مرة أخرى, وهو ما يزال نائماً, ووجهه لا يعود إلى شاب في الخامسة والثلاثين, بل إلى رجل تجاوز الستين, وإذ توقظه ينتفض متسائلاً
– ما بك؟.
– ما بي؟ . أنت ما بك, أنت الذي تخيفني, ما هذا الذي تضعه على وجهك؟ لقد ظلت (جنات) تحيا بعيدة عن واقعها الحياتي, منذ حادث الاصطدام المروع على الطريق الصحراوي, الذي أدى إلى مقتل أبويها, وحدوث ارتجاج في مخها, أو ارتجاج صاعق في نفسها بسبب الحادث, أدى إلى فقدانها الذاكرة طوال هذه العقود الثلاثة, يفسره علم النفس, وكما جاء في كتاب (النفس) لعلي كمال, إن فقدان الذاكرة النفسي يأتي إثر انفعال أو مشكلة أو وضع نفسي معين, ويحدث هذا الفقدان للذاكرة, بشكل آني وسريع على عكس فقدان الذاكرة العضوي الذي يحدث بشكل طبيعي, وهي حالات النسيان الطبيعية المعتادة, أو نتيجة فعل المؤثرات المرضية العضوية على الدماغ البشري, على عكس حدود فقدان الذاكرة, التي هي حدود حادة المعالم تشمل تجارب نفسية معينة وحاسمة, تراجع ص217 من الكتاب.
كما أنها تعاني ازدواج الشخصية وتعددها, الذي يصفه علم النفس ببلوغ تصدع الوعي أقصى درجاته, إذ إن وعي الشخصية ينشطر إلى جزأين, الأمر الذي يجعل الفرد يعيش شخصيتين مختلفتين, وفي أثناء ذلك تكون الشخصية الثانية مغمورة, وفي بعض الأحيان لا يكون للشخصية الواحدة, علم بوجود الشخصية الأخرى, وذلك لأنه يفقد كل ما كان يختزنه من ذكريات قبل حصول الحادث, تراجع ص216 من الكتاب.
ان (جنات) الشخصية المركزية لهذه القصة النفسية الرائعة, التي أجادت ميسلون هادي حبكها, ظلت تحيا نوبات شديدة من الكآبة, تجعلها عاجزة عن النوم, من غير أخذ حبة مهدئة, وقد تؤدي هذه الكآبة على مستويي العقل أو النفس إلى محاولة الانتحار, وهو ما أقدمت عليه (جنات) أخيراً بعد ان ساءت صحتها النفسية, وهي تحيا مع زوجها (صلاح) وفريق العمل, الذي يعمل على تصوير فيلم عن حيوانات الصحراء, في ذلك الصقع الصحراوي, فما عادت تحتمل نظرات زملاء العمل المشفقة, والأخر الشامتة, ومعاملتها معاملة إنسان على شفا جرف هارٍ من الخبال والجنون, فضلاً عن ما الذي جرى لوجه الزوج الذي شاخ, وفي ذاكرتها صورة المذيع الشاب المكتنز القاً وبهاء ووسامة؟ فضلاً عن كومة من المسكنات والمهدئات وحبوب التنويم, وقناني الدواء التي تملأ الأدراج والرفوف, ثم ما لهذه العملة التي تشير إلى ثلاثين سنة قادمة؟
كيف تسك نقود تشير إلى سنوات قادمة, هي التي ما زالت شخصيتها الأولى تحيا عند عام 1991, سنة الحادث المروع, لا تريم ولا تكاد تغادره, والعملة المسكوكة تشير إلى عام 2020
ولأن الكآبة الشديدة – كما يقول علم النفس – تدفع إلى الانتحار, وهو ما أقدمت عليه (جنات) في ذلك المخيم الصحراوي, لتكون عملية الإنقاذ, وأصوات سيارة الإسعاف سلكاً ممتداً نحو أصوات سيارات النجدة والإسعاف يوم الحادث الجلل الذي أودى بأبويها وظلت هي تحيا على هامش الحياة.
لتقرر في النهاية: أبواي ماتا في طريق عودتنا من الصحراء إلى المدينة, وقد استغرقت في نوم طويل بعد حادث انقلاب السيارة, أنا كنت في الغيبوبة أحلم بكل تلك الخيالات المخيفة, وبزوجي وقد اختلفت صورته لتحل محلها صورة الرجل العجوز.
وإذ بدأت تعود رويداً رويداً إلى حياتها وعقلها, وها هي تسمع الممرضة تعلن قدوم زوجها فتشعر بالراحة العميقة, محدثة ذاتها ها هو الوهم قد انتهى والواقع يعود لترى زوجها المذيع الطيب الوسيم قادما نحوها, مربتاً على رأسها بكفه الحنون مخففاً من حزنها, لكن قاصتنا المبدعة ميسلون هادي, قنديل القصة العراقية وأيقونتها بعد أن جعلت الأمل يدب في (جنات) ها هي تصعقها وتعيدها سيرتها الأولى, ولعلها (جنات) ستظل تحيا ما بقي لها من عمر في كآبة وفقدان ذاكرة.
” رفعتُ نظري إليه فهلعت وانكمشت في مكاني على السرير وقلتُ له:
-من أنت؟
كان هو نفسه الرجل العجوز الذي رأيته في الغيبوبة. ص110-ص111.
قصة نفسية رائعة ذات نهاية مفتوحة تحتمل التفسير والتأويل والتعليل وهذا هو الفن وهذا هو الإبداع وهذا هو القص الذي نشهد تراجعه المريع على مستوى الإنتاج والفن , لأن القصاصين شدوا الرحال نحو عالم الرواية, حيث الجوائز والشهرة والذيوع, وتركوا القصة وراءهم ظهرياً لا بل حتى بعض الشعراء الكبار عباس بيضون وعبده وازن إلاها المبدعة السامقة ميسلون هادي, التي ظلت تبدع في الرواية والقصة لا تكاد تغادرها أبداً, فهذا هو قدرها وما أروعه من قدر.