ماركو فالدو

ماركو فالدو لا يتالو كالفينو
الطيور لا تعنيها إشارات المرور
ميسلون هادي

من يقول ان لاشيء سينقذ الفن القصصي من الزوال غير فن السينما لديه الكثير من الحق ان لم نقل الحق كله فالصورة _ كلمة العصر _ لم تعد تغني الإنسان المعاصر عن قراءة الأدب حسب , وإنما أخذت تقدم له العلوم و الفنون مجتمعة تحت مظلة أقمارها الصناعية وتورد له المعلومات أول بأول و تغويه بما في وسعها من ألاعيب لكي تبقيه مسحوراً بها لايفارق حضنها إلا لكي يؤوي إلى فراشه وينام .
ان أعداد كبيرة ممن كانت أيديهم تمتد إلى رفوف المكتبات لتسحب كتاباً منها يغرقون أنفسهم في خيالاته لآونة من الوقت قبل المضي إلى شيء آخر أصبحت تلابيبهم مشدودة بقوة إلى بريق صفحات راقصة ومغرية وممتعة يجدون فيها خيالاً أمتع وسحراً اكبر , تلك هي الأشرطة المرئية بكل أنواعها الأمر الذي يدعو إلى التساؤل ان كانت ثمة فرصة لكي يصمد الفن القصصي أمام ذلك الإغراء أو لكي يتحداه بإغراء آخر , خصوصاً وان الاثنين ابنا (كار) واحد أو يقعان في خانة واحدة هي خانة التخيل ..
(ماركو فالدو ) للكاتب الايطالي ايتالو كالفينو تستثمر معطيات الكتابة السينمائية لترسم عشرين مشهداً قصصياً هي اقرب إلى اللوحات السينمائية عنها إلى القص الاعتيادي لشدة ثرائها بالحركة و الصورة و قدرتها على ( سينمة ) الحدث وملء الفراغات بين واحد وآخر باللغة _ الصورة لا باللغة _ اللغة .
عرف عن ايتالو كالفينو ارتباطه الطبيعي ببيئة الإنسان و الأرض و دفاعه عن براءتها الأزلية الموجبة ضد المواضعات الرأسمالية التي تدوس بعجلتها فوق هذا الغيم من اجل تغذية أسباب ديمومتها وفي شخصية ماركو فالدو البطل الرئيسي لهذا العمل الروائي القصصي سنشم رائحة هذا الحق الفطري الطبيعي وهو يتشبث بأذيال الفلاح المهاجر إلى المدينة ويدعوه إلى تسفيه الوجه المديني و تحويلها إلى ثوب مليء بالثقوب .. هذا البطل هو وأطفاله وزوجته مثل عائلة دجاج تدب على ارض غريبة فتعبر عن غربتها بردود أفعال كاريكاتيرية تبدو ساذجة في مظهرها ولكنها في الحقيقة الأكثر قرباً من الصدق و الدفء و الإنسانية , انه أي ماركوفالدو قد يقرر ان ينام في الظلام الطبيعي لليل لا في الظلام المصطنع للغرف ذات الستائر المسدلة فيدور بحثاً عن مصطبة فارغة يستطيع التمدد عليها و النظر إلى القمر مباشرة و عندما يعثر على تلك المصطبة تضايقه إشارة المرور التي تضيء و تنطفئ أمامه بضوء اصفر فينهض ماركو فالدو ليرفع إكليلاً من الزهور موضوعاً عند قاعدة نصب تذكاري لجنرال و يعلقه على سيف الجنرال حاجزاً بينه وبين الإشارة الضوئية , ولكن سلسلة المنغصات تترى لتزعج منامه في العراء , و عبثاً يفوز بليلة هادئة بين أحضان الطبيعة و تحت ضوء القمر مباشرة ( وكي تنام مثل الطيور ينبغي ان يكون لك جناح تضع راسك تحته في عالم من أغصان الشجر معلق فوق عالمنا الأرضي و يلقي بعض نظراتك إلى أسفل صامتاً و بعيداً ) .
وذات يوم يظهر في سماء المدينة و في فصل الخريف سرب من طيور دجاج الأرض ويكون الشخص الوحيد الذي يشاهد السرب هو ماركو فالدو لأنه يمشي دائماً ورأسه مرفوعة إلى السماء وحين يشاهد تك الطيور يطلق العنان لمركبته وكأنه يطاردها في مهمة صيد فنتازية .
وعندما تضيء الإشارة الحمراء ويجد نفسه على التقاطع وسط السيارات يتوقف وهو يكاد يصدمها في حين يواصل السرب طيرانه ويختفي عن الأنظار , انه سينام أيضاً و بسبب الم الروماتزم في أمل حار داخل قارب مربوط .. ولكن القارب ينفلت من عقاله ويتهاوى عبر النهر ثم يسقط مع الشلال على شاطئ يعج بالسابحين .
وفي قصة ( غابة على الاوتستراد ) يظن أولاد ماركو فالدو ان مجموعة الإعلانات التي تتصدر الطريق الخارجي هي الغابة التي يقرأون عنها القصص أو يسمعون ان أناس يقتطعون منها الحطب لذلك يذهبون إليها عندما يقرصهم البرد و يقطعون اللوحات مع الكاتونات و يحملونها إلى مدفأة البيت و يحرقونها حطباً يتدفؤون على ناره .
ان واحدة من تلك اللوحات الجبارة في قصة أخرى تسيطر على موقع قريب منزل ماركو فالدو فتحجب عنه السماء الزرقاء و الهلال و النجوم , إنها إعلان مضاء بالنيون يدعى ( سابكو غناك ) يضيء لمدة عشرين ثانية ثم بنطفي عشرين ثانية أخرى و عندما يضاء ويختفي القمر و تصبح السماء لوحاً اسود و تفقد النجوم لمعانها وكل ما يحيط بالمنزل يتشوش داخل هالة النيون الفسفورية.
أولاد ماركو فالدو يخربون الإعلان الضوئي بمقلاعهم ولكن شركة أخرى منافسة تجيء ومعها فنيوها لتضع لوحاً اكبر مرتين تضيء و تنطفي كل ثانيتين فلا يعود للقمر وجود فتختفي القبة السماوية بكل تفاصيلها و أسوأ ما في الأمر ان حرف الواو في الإعلان ضخم جداً و لا تستطيع عين إنسان اختراقه وهو الذي سيحجب عن العاشق رؤية فتاته في غرفتها البعيدة على السطح بين انطفاء و اشتعال الإعلان .
ان ماركو فالدو عبر عشرين مشهداً قصصياً تنتظم لتشكل أفقاً روائياً أو عملاً قريباً للرواية ليدين ما اسماه بـ ( المدينة السالبة ) التي لا تكترث لشيء حتى القطط فيها تبحث عن بعض تقاليد وعادات أبائها وأجدادها ولكن دون جدوى إذ لم يعد بمقدورها ان تتصرف بحريتها في مدينة عصرية مضغوطة وكل فراغ فيها قد عبي بالبلاط و القار و الاسمنت وكل مأزق يتورط فيه ماركو فالدو بعفوية وطبيعته القصد منه الكشف عن مفارقة ذات رسالة بليغة : ان الإنسان في سعيه لبناء الحضارة يخرب الطبيعة فيفقد حريته و يغترب وتمضي روحه نحو الفناء.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *