المسكوت عنه الاجتماعي روائياً
قراءة لرواية “ألماس ونساء” للينا هَوْيان الحسن
في ضوء المنهج التكويني
منشور
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
لم تعد الرواية تقوم على إلإلهام والأفكار والكتابة فحسب، بل صارت، إلى جانب ذلك كله وقبله، قراءةً ودراسة وجمعاً للمادة واستذكاراً للخلفيات والتاريخ وصناعةً. لكن هذا وذاك لا يكفيان أيضاً، بل لا بد من حِرَفية التعامل مع هذا واشتغاله ليكون رواية. فإنْ لم يهتدِ الروائي إلى كيفية الاستفادة من هذا الذي يُجمع ويُستحضر كله ليُكتب رواية، فإنه قد يتحول إلى عبء على مشروع الرواية وتشظٍّ له وربما ضياعه، أي بدلاً من يصير ثروة تُثري ليتحقق العمل الروائي، فإنه قد يصير عبءاً يُرهق العمل وقد يُفقده روائيته. وفي كل الأحوال يبقى هذا العمل والجمع والقراءة والصناعة زائداً الاشتغال عليه كله، أيّاً كانت النتيجة التي تخرج منه متمثلة في عمل روائي، مما يُحسب للكاتب بالتأكيد حين يفعله عن وعي فيشتغل عليه، وهو ما نحسبه للينا هُوْيان الحسن، في روايتها “ألماس ونساء” الصادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2014. ابتداءً، وقبل تحليلها أو، إن أردنا أن نكون معياريين، محاججتها والحكم عليها. هذا ما نعتقد أن الكثير من الروائيين العرب، في العقدين الأخيرين، قد صاروا يعونه، فإن استحضار العديد من الروايات العربية التي صدرت في الأعوام الأخيرة يكشف لنا عن ذلك، بغضّ النظر عن مدى التوفيق في ما فعلوه في هذا السبيل، كما هو حال “واحة الغروب” لبهاء طاهر، و”حفيد البي بي سي” لميسلون هادي، و”جواري العشق” لرشا سمير، و”أمريكا” لربيع جابر، وغيرها. وتعلقاً بهذا تكشف لنا مراجعة روايات الدورة الأخيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) التي صعدت إلى القائمة القصيرة، بل الطويلة أيضاً، عن أن ما لا يقل عن سبعٍ أو ثمانٍ منها قد فعلت هذا بدرجة أو بأخرى، وعلى رأسها، إلى جانب رواية “ألماظ ونساء”: “بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات” لمحمد برادة، و”شوق الدرويش” لحمور زيادة، و”ابنة سوسلوف” لحبيب عبد الرب السروري، و”الطلياني” لشكري المبخوت، إلى جانب العديد من الروايات التي لم تصعد إلى القائمتين، لسبب أو لآخر، وهي تمتلك مستوًى ما تمتلكه روايات القائمتين عموماً، ومن هذه الناحية خصوصاً، لتحقّق في النتيجة الكثير.
وعلى علاقة، وإنْ محدودة، بهذا، معروفٌ أن إحدى الظواهر الاجتماعية والحياتية التي تشغل الأدب، لاسيما السردي والرواية بشكل أخص، هي التحولات في كل شيء: المدينة والعمران، والاقتصاد والسياسة، والفكر والثقافة والوعي، والمجتمع والناس والإنسان الفرد، والجوانب الحضارية عموماً. وهذا ما عُنيت به العديد من الروايات السابقة، وغيرها، مثل: “ألماظ ونساء”، و”بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات”، و”الطلياني”.
( 2 )
من الوعي بهذين الأمرَيْن، واهتماماً بهما، تنطلق لينا هويان الحسن في كتابة روايتها (ألماس ونساء)، وقد وجدَتْهما في مراحل بعينها من تاريخ العرب، وسوريا بشكل خاص، لتتخذ منهما موضوعها فتعالجهما سريدياً، وحتى دراسياً، إن شئنا، ضمن ذلك. وهي في ذلك تذهلنا حتى بمعزل عمّا حققته أو لم تحققه الرواية في نواحي الإنجاز السردي. فلا يمكن إلا أن يُحسب للرواية وللروائية هذا الجهد والاشتغال غير العادي، الذي بذلته الكاتبة، في جمع المادة وترتيبها وملاحقة شخصياتها في العالم الحقيقي وشبه الحقيقي، واستثمار ذلك كله وتوظيفه سردياً. لقد شيّدت الكاتب على ذلك متخيَّلها، عالماً روائياً، بكد ونفَس سردي بل بهندسة غير عادية، وبمعمار بنائي معقّد وجميل، هو في ظاهره شبه تقليدي ولكنه معقّد ومتداخل الأجزاء والعناصر، ويخرج في بعض تفصيلاته عن شبه التقليدية هذه، مع عدم توقف وتردد أمام تابوهات السياسة والدين والجنس، بل خرقها، وبجرأة غير عادية من كاتبة عربية ولكن بإقناع وليس بفوضى الخرق الذي قد نجده عند آخرين. وفوق ذلك يتوفّر عملها في ذلك كله على ما يفتقده عدد كبير من الروايات التي تُكتب عربياً وغير عربي، من إمتاع أكاد أكون متأكداً من أنه يتحقق لأي قارئ في كل جزئيات العمل. مادتها التاريخية تعود إلى المدة من بدايات القرن العشرين، مع بعض رجوعٍ عبر تقنية الفلاش باك لنهايات القرن التاسع عشر، إلى سبعينيات القرن العشرين، مع بعض وصولٍ لبدايات القرن الحادي والعشرين. وواضح أن هذه المادة الضخمة بطبيعتها غير العادية تُنبئ، كما قلنا، بما احتاجته الكاتبة من جهود غير عادية للسيطرة عليها وصولاً إلى بناء متخيّلها عليها، المتمثّل في خط أو خطوط حدثية، مع عدم الإخلال بتاريخ مجتمع تلك المدة بمراحلها الحساسة، ولاسيما الراقي والمخملي للعرب أو لمَن أصولهم عربية في المهجر، وتحديداً في فرنسا وأمريكا الجنوبية، وامتدادهم إلى مدن عربية لاسيما دمشق وإلى حد ما بيروت والقاهرة، مركّزةً في اشتغالها على الجوانب المسكوت عنها ضمن ذلك، ولكن مع عدم سكوتها عليها سردياً في روايتها، لم تسكت عنها. والكاتبة إنْ جنحت في ذلك أحياناً نحو الوثيقة أكثر مما يستوعبه المتخيَّل، فإنها غالباً ما كانت تبني من هذا كله صرحاً متخيّلاً تفصيليّ المكوّنات، إن كان يمثل بشكل ما عالماً يبدو للقارئ حقيقياً، فإنه مقرون، في تمثّله، بما يجنّبه الوقوع في فخ الوثيقة والواقعة التاريخية الحقيقية من تأطيرٍ بوجهة نظر خاصة هي وجهة نظر الرواية، أكانت الكاتبة خلفها أم لم تكن، وهذا يكفي، باعتقدانا، مبرّراً للكاتبة لاعتماد الوثيقة والحقيقي إذن.
المرحلة التي قامت عليها الرواية بشكل أساس هي ما يشبه مرحلة اجتماعية للمهاجرين العرب، بكل أناسها وظروفها وأحداثها، وضمن ذلك ما يظهر فيه من دور كبير للسوريين، من رجال الأعمال وغيرهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أمريكا الجنوبية، ولاسيما الأرجنتين، مما كان يؤشر انعطافات وتجديداً وانتقالات تشكل متغيّرات كبيرة ستشهدها المنطقة العربية في قابل الأيام. وهكذا كان طبيعياً أن يمتلئ عالم هذه الرواية بالصراعات والخروجات المختلفة على المألوف والسائد وربما على المعتقدات الاجتماعية والسياسية والفردية، فهي مرحلة مخاضات لم يكن ليعرف أحد حينها إلى ماذا ستقود. من ذلك ما يتعلّق بالاقتصاد والسياسة الوعي والمجتمع، وربما الأكثر بروزاً وفاعليةً في الرواية ما يتعلق منه بالمرأة، خصوصاً والكاتبة قد التفتت، أكثر ما التفتت، وكما قلنا، إلى المسكوت عنه تاريخياً واجتماعياً. فهو إذن غزوٌ غير عادي لزوايا في واقع غير عادي لعرب المهجر في المدة التي أشرنا إليها، وصبٌّ لذلك كله في بناء روائي جمع بين التقليدية الكامنة في الظل والحداثة السردية المهيمنة، فحضرت حِرفية الكاتبة الحداثوية تقنياً بانسجام تام مع التقليدية، بل حتى مع أسلوب الحكي شبه الشعبي أحياناً. وتعلّقاً بذلك قد نستشعر، في الرواية، شيئاً محدوداً من واقعية الرواية الأمريكية السحرية.
وإذا ما حضر الجانب السري من هذا المجتمع، أو المخفي أو على الأقل المسكوت عنه، كما قلنا، الذي اخترقته الكاتبة، بما فيه من سياسة ومتغيّرات اجتماعية وصراعات وشؤون مرأة وثقافة وفن وصحافة وكتابة وأدب وأدباء وفكر، فإنه لم يصرْ هو السرد بل الإطار شبه الخارجي الذي يتحرك فيه ما يُسرد خطّاً للرواية لتتجنب الرواية، بذلك، الفخ تقع فيه الكثير من الروايات حين تُغري هذه الجوانب السياسية والتاريخية وما يصاحبها من نشاط ثقافي الكاتبَ، لتهيمن على عمله وينحسر الخط الحدثي المتخيّل وقد يصير هامشاً. فإذا كانت مادة الروية التاريخ والسياسة والمجتمع والجريمة والصراعات والحروب والتجارة والاقتصاد وعالم المهجر الباريسي والأمريكي الجنوبي والمهاجرين العرب وامتداداً إلى العرب في الوطن عموماً، فإن المتخيّل خطّاً أو خطوطاً حدثية قد استوعبها جميعاً وأبقاها إطاراً خارجياً ليصير هذا المتخيّل هو الإطار الداخلي للعمل.
وتساوقاً مع طبيعة الرواية ومادتها وموضوعها وأفكارها، يمكن القول إن رواية “ألماس ونساء” لا تقدّم خطّاً روائياً واضحاً أو نمطياً يدور حول شخصية أو شخصيات محددة تماماً. بدلاً من ذلك، هي تقدّم عالماً مليئاً بالشخصيات والأحداث التي تقع لها أو من حولها أو تقوم هي بها. ولكن مع هذا، هناك بعض المحورية، خصوصاً في بعض مفاصل الرواية، لشخصيات بعينها ينبني في حركتها خط أو خطوط حدثية، ولكنها غير مهيمنة تماماً العالم الضاج للرواية. وأول هذه الشخصيات (الماظ) التي تكون، وبشكل أقل شخصيات أُخرى، شاهداً على عصر أو مرحلة من مراحل التاريخ، الاجتماعي بشكل أساس ثم السياسي ضمن ذلك أو على هامشه، للعرب في العصر الحديث، وكل ذلك من خلال الكشف عن أسرار تلك المدة أو المرحلة، الإيجابية منها والسلبية، للمجتمع المخملي للعرب المهاجرين، وأدوارهم في المجتمعات التي يكونون فيها، وتحديداً في دمشق، وباريس، وساوباولو. إن الكاتبة لم تستسلم لهذا التاريخ والمرحلة، بل اكتفت بأن كشفت الغطاء عن المسكوت عنه، والممنوع والمحظور و(المعيب) فيه، من أحداث وخفايا اجتماعية وحياة نساء وشخصيات أخرى، أطلقتها من محبسها الكتابي والتاريخي والوثائقي وقد استوعبه المتخيّل عبر الخط أو الخطوط الحدثية التي هي ضمنية أكثر منها مهيمنة دائماً.
( 3 )
في ظل صخامة المادة التي قامت عليها الرواية، وتشعبها واشتمالها على قصص وحكايات عديدة، كثُرت الشخصيات غير المشبعة أدوارُها، والراوي ومن ورائه الكاتبة يتنقل بينها دون أن يمسك إلا ببضع منها، ليسير بها أبطالاً ترسم، مع مشاركة بعض الشخصيات الأخرى، عالماً ينطوي على ما يشبه القصص القصيرة التي هي قصص الشخصيات التي نعتقد أنها توزعت ما بين شخصيات حقيقية، وهي محدودة، وشخصيات لا بد أن تكون لها أصول حقيقية أو أوحت بها شخصيات حقيقية، وشخصيات متخيلة كلّياً أرادتها المؤلفة أو فرضتها احتياجات الخط أو الخطوط المتخيّلة، وبقيت الجديدة منها تظهر حتى فصول الرواية الأخيرة. ومما زاد من عبء هذه المادة الضخمة على ما يُفترض أنه خط أو خطوط الرواية الأصلية، أن الكاتبة عادة ما تستعين بتقنية الاسترجاع الذي يأتي بمزيد من الأحداث والشخصيات، وهي تقنية تفرضها هكذا رواية قائمة، بأحداثها أو حتى بفكرتها، على تاريخ طويل حقيقياً ومختلقاً أو متخيّلاً، وذات مسار حدثي، بالضرورة، متشعّب وطويل زمنياً ويشتمل، بالضرورة أيضاً، على شخصيات عديدة وبامتدادات حياتية تقوم الرواية عليها. لكن الذي يجذب الانتباه إليه كثرة تقنية الاستباق، الذي يأتي بشكل لمحات أو إشارات إلى ما سيقع وبدون تفاصيل الحدث المستقبلي إلا حين يقع فعلاً، على شاكلة المثال الآتي: “مقتل شقيقها فيليب… أثّر تأثيراً كبيراً في نفورها من باريس، وستنتظر سنوات طويلة، لتعلم أنه راح ضحية غيرة صديقه جورج الذي نافسه على غرام فتاة إنكليزية”- ص57.
ضمن ذلك أو معه يصعب، إن لم يكن متعذّراً تماماً، تلخيص الرواية كونها لا تعتمد، كما قلنا، على خطّ أو خطوط محدودة ومحدّدة بشكل حاسم، بل على عالم كامل متعدد الخطوط الحدثية غير المضبطة، بعضها منفصل عن الأخرى، وبعضها الآخر متداخل معها، والعوالم الرئيسة والفرعية، وضمن ذلك، على محطّات مهمة ومفصلية ومدن ومحطات ثانوية وعابرة، ولكنها مهمة لشخصيات معينة. وخلال ذلك تتواتر الأفكار التي قد ينتأ بعضها قوياً وفاعلاً ودالاً، وقد يطفو بعض آخر منها هنا وهناك لتنتبه إليه وأنت تقرأ وقد ينثار فيك بعد المرور به وتجاوز الجو أو المشهد أو الشخصية أو المرحلة التي تقرأها. ومن هنا نعتقد أن الرواية تحتاج إلى أكثر من قراءة، ولكن برضا القارئ الذي يوفّره الاستمتاع بالقراءة الأولى مع الإحساس بقدرتها على عطاء أكثر، وليس بسخط عدم الفهم والتلقي والاستمتاع، كما هو حال الكثير من الروايات الصعبة التي قد يكون بعضها متعِباً وربما معذِّباً للقارئ.
سردياً تبدأ أحداث الرواية، المروية بضمير الغائب تساوقاً مع طبيعة المادة التي تقوم عليها، في جزئها الأول، بانطلاق الباخرة (أوره نوف) من بيروت إلى مرسيلية عام 1912 مع زواج قبطانها كرم شاهين الخوري (الكونت) والصبية (الماظ) على متنها، وكل ذلك بتساوق مع خروج ليبراليين دمشقيين من بلاد الدولة العثمانية إلى باريس منفىً لهم بعد هزيمتهم في انتخابات 1912 ومعارضتهم للدولة. وينتهي هذا الجزء بانتحار بطلتها (ألماظ)، بعد مسيرة حياة كلها متغيرات وصراعات، حين تخسر كل شيء بما في ذلك ماستها الزرقاء، لتتواصل الرواية، في جزئها الثاني، بعد الانتحار من خلال جيلين تاليين. وضمن تأطيرات الرواية في تتقدم جزأيها كلمة وتتلوهما كلمة مقدّمتان بضمير الغائب ولكن من وجهة نظر (كارلوس) ابن الكونت، ربما تُنبئان بالكثير مما تعبّر أو تريد أن تعبر الرواية عنه. ففي الكلمة الابتدائية “التقى كارلوس كرم بـبرلنت فحرّر الأحلام والأصوات والذاكرة التي ستمنحه مأوى… سيترك كل شخوص الماضي تفلت من (براويزها) لكي تذهب بعيداً أنّى شاءت وبكامل كبريائها”- “- ص11. وهي على علاقة بالفقرة التي تأتي بعد انتهاء الرواية، حين “لم يعرف كارلوس قط أن ثمة ماسة من البرلَنت المشوب بزرقة شاحبة كانت ضمن مجوهرات الملكة نازلي… [بلمعانٍ يشبه] بريقاً يليق أن يبزغ من عين إله! بريقاً جاء من باطن الأرض من العتمة، من مكان لا شمس فيه”- ص239.
انطلاقاً من طبيعة الرواية وما قامت عليه وما يبدو أنها أرادت أن تعبّر عنه، وتعزيزاً لارتباط المتخيّل بالواقع، كما أظنه اتضح لنا في ما سبق، تُبدي الكاتبة اهتماماً بما حول الحدث والمشهد المتخيّلين، من كبائر الأمور وصغائرها المستنبطة من الحقيقي والتاريخي، حين تلتقط من ذلك ما له تاثير فيهما ودلالة آنية أو مستقبلية أو عامة، وكل ذلك وهي تتجنب، بحِرفية غير عادية، إغراءات المعلومة التفصيلية المملة والسلبية. فهي، حين تتعامل مع المراحل التاريخية المختلفة للمجتمع ونزعاتها، تستحضر طُرز الأشياء وموديلاتها من ملابس ومبانٍ وإكسسوارات وسلوكيات، وكأنها تُخرج فيلماً سينمائياً يستلزم من المخرج استحضار ما يتناسب مع كل مجتمع ومرحلة بدقة متناهية، مع إبرازها للمهيمنات المختلفة على كل مرحلة ومنطقة: العشق، والموظة، وكرة القدم، والجنس، والمال، والتصوير، والحروب، والرحلات… وغيرها، ليمنح ذلك كلُّه السردَ مصداقية، نعتقد أن الرواية تحتاج أن يحسّه القارئ، حتى وإنْ وعى هذا القارئ أن ما يُسرد له متخيّل، كما في: “تعرّفت [في باريس] على أهم الشخصيات في الجاليتين السورية واللبنانية: تجّاراً ومصرفيين وأدباء، منهم ميشيل بيطار مترجم رواية العبّاسة أخت الرشيد، وجورج سمنة الذي يصدر جريدة (الطان) الشهيرة”- ص 47. وفي: “وهي تجلس إلى جواره كمتفرجة على المباراة النهائية لمونديال كرة القدم في بوينس أيريس”- ص214.
( 4 )
من خلال جل شخصيات الرواية النسوية، ابتداءً من شخصيتها الرئيسة (ألماظ) وانتهاءً بأقلها مكانة، يتضح لنا أن للمرأة مركزية، بل هي في غالب الأحيان محرّكة للأحداث وللشخصيات. بل إن الرواية، في جانب كبير منها، رواية المرأة جنساً وطبيعةً وحياةً يومية ونضالاً ودوراً في الحياة ولاسيما العربية. وضمن ذلك ولهذا فقد حضرت قويةً غالباً كما تمثّلت مثلاً في: ألماظ، وصباحت، ولطفية (برلنته)، بل حتى في بعض الشخصيات النسوية الثانوية والعابرة. الواقع، من الصفحات الأولى من الرواية يبدو واضحاً أن النساء، زوجات وجواريَ وخادمات وسيدات مجتمع…، يشكلن عالماً خاصاً، مكانةً وتصرفاً ولعباً للأدوار المختلفة في البيت والمجتمع بمفردهن ومع الرجال وممارسةً للجنس، نشاطاً ضمن مسارات- وإن كانت باهتة- نحو الحرية والتحرر والتعليم، مما كان لباريس تأثير كبير فيها، وتبعاً لذلك في المرأة العربية والإنسان العربي عموماً هناك وفي المهجر عموماً وبشكل محدود في الوطن الأم. وهنا تبرز (ألماظ خانم) واحدة من مؤيّدات قضية المرأة للتحرر، وإنْ جزئياً، من بعض القيود الدينية والاجتماعية، وفي ظل ذلك تتحول من فتاة في السابعة عشرة يتزوجها الكونت إلى ناشطة في مجال حقوق المرأة، بل هي تتبنى فكرة إنشاء جميعة في دمشق لتحرير المرأة. وما كان ذلك ليمضي دون أن يسبب في كثير من الحيان مشاكل وجدل وصراعات، خصوصاً في ظل النظرة السطحية للرجل التقليدي التي تُسهم في توليد الفهم الساذج لها ولحريتها التي تناضل في سبيلها، وهي في المهجر الأوروبي، تأثراً بواقع المرأة الغربية، خصوصاً حين لا يرى منها- كما تتمثّل في أوروبا- غير الانحلال والفحشاء اللتين يُريان في بعض شوارع المدن الأوروبية، بينما لا يرى ما تحققه في الحياة عموماً، الأمر الذي صار يقود إلى الصدام ما بين النظرتين:
“إحدى السهرات انتهت بشجار بين ضيف دمشقي مسلم وزوجته التي جاءت برفقته سافرة الوجه، حين تحدّثت بإعجاب عن نساء فرنسا. قال الزوج (الضيف) الحانق لزوجته بسخرية ولؤم: (عزيزتي لو تتقنين طبخ الديك الرومي مع البرغل وحساء الشعيرية، أكلتي المفضلة، أنفع لك من كل هذا الهراء). وبمساهمة ألماظ الحادّة، في مناقشة حقوق النساء في وطنها، انتهت السهرة باتهام من ضيفها: (تريدين دولة تبيح الفحشاء والاتجار بلا عيب بالأعراض، رأيت هنا في باريس كيف تضجّ جادّاتها وأرصفتها ومنتنزّهاتها بنساء يبعن أجسادهن بلا حياء). ألماظ لم تسكت له، واستنكرت أنه لم يرَ من باريس متاحفها وحداثتها وأوابدها إنما رأى مومساتها، المومسات التي تضج بهن الشام لكن متستّرات ومموّهات بالجلابيب… عقب ذلك بشهر واحد تطلّقا. عاد الزوج إلى دمشق وقد أقسم على الزواج بفتاة أمية تماماً، حتى لا تسبب له المشاكل. أما طليقته فقد خلعت حجابها ورفضت العودة إلى أهلها بدمشق، وعملت في مجال الخياطة والأزياء التي تحبها كثيراً”- ص106.
وعموماً تتوغل الكاتبة، ضمن عنايتها التي أشّرناها، بالمسكوت عنه اجتماعياً، في عالم الجسد والجنس وممارسته بما في ذلك الاتّجار به إلى درجة أنها انجذبت أحياناً إلى لمشاهد جنسية مفتعلة ومحشورة حشراً، وإنْ لم تضرّ بالرواية.
( 5 )
إذا كان لنا، أخيراً، أن نأخذ على مغامرة لينا الحسن، فإننا نأخذ الآتي: أولاً- العدد الهائل من الشخصيات، بما في ذلك من قد نعدّها رئيسة أو شبه رئيسة، يحيث يصعب علينا تتبّعها، بل حتى معرفة مدى دقة تطورها وتاريخها. ثانياً- ضمن إيجابية كسر بعض التابوهات، هناك بعض أقحام لمشاهد الجنس التي قد لا يستدعيها السرد بإقناع. ثالثاً- التقطيع الشكلي غير المفهوم وشبه المخلّ للسرد، وتحديداً في تقسيمه إلى فقرات كثيراً ما تربك القارئ، وتحديداً حين تقطع الكاتبة فقرة يُفترض أنها يجب أن تستمر، والبدء بفقرة هي امتداد لكلام الفقرة السابقة. رابعاً- تسلل الراوي العليم، وإن بشكل محدود وبما لم يؤثر سلبياً ولم يخلّ بالسرد. خامساً- مع العمل المبهر والجهد غير العادي المبذول في جمع المادة التاريخية والمجتمعية والوثائقية واستثمارها لبناء عالم متخيّل منها، كادت المادة التي جمعتها المؤلفة تصير عبءاً على العمل، وتحديداً حين سحبتها أحياناً قليلة لتهيمن على العمل على حساب الخط الروائي الذي يجب هو أن يهيمن.
وإزاء هذا كله، هناك الكثير مما يُحسب للرواية، مما انطوى موضوعنا على معظمه، وأهمه: أولاً- وعموماً وبمعزل عمّا حققته أو لم تحققه الرواية من ناحية الإنجاز السردي المتخيل والبناء المتكامل، لا يمكن إلا أن يُحسب لها الجهد غير العادي الذي واضح أن الكاتبة بذلته، في جمع المادة وترتيبها، وفي العمل على السيطرة عليها وعلى شخصياتها في العالم المتخيّل وشبه المتخيل والحقيقي الذي صنعته، واستثمارها سردياً. ثانياً- وضمن ذلك يبرز خرق التابوهات مما ينطوي على جرأة في تناوله من كاتبة عربية. ثالثاً- الإمتاع الذي أكاد أن أكون متأكداً من أنه يتحقق لأي قارئ حتى في حال عد تحقق الاقناع بأن العمل رواية متكاملة، فكل ما فيها من جزئيات تحقق لك المتعة. رابعاً- المعمار البنائي المعقّد والجميل، وأحياناً شبه المُعجز الذي تحقق، في النهاية، رواية تتكلم عن نفسها.
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …