لكل إمرء من ايميله نصيب

لكل امرئٍ من إيميله نصيب

ميسلون هادي
حكايتي مع الإنترنت حكاية عجيبة بدأت قبل خمسة أعوام على وجه التحديد عندما خرجتُ (مسافرة) من العراق فأصبح الاشتراك بهذه الشبكة من داخل البيت متاحاً بشكل شهري ومن خلاله بات التعامل مع هذا الكائن الجديد يومياً بل في كل ساعة من ساعات اليوم، تزداد إلحاحاً كلما توفر الوقت المتاح لذلك أوازدادت الحاجة إلى دخول هذا العالم المسحور… وكنت قبل ذلك أسعى إلى زوجي أو (أتوسّل) بأحد أولادي لطبع موضوعاتي قبل إرسالها إلى (الخارج) عن طريق مقاهي الإنترنت المنتشرة في بغداد.
في مرحلة التعارف تلك، كان زوجي وأولادي يدعوني إلى الاقتراب من هذا العالم وفك شفراته والتعرف على أسراره الباهرة، فكنت أجيبهم بأني لن أتعلم استعمال الإنترنت قبل أن أعرف وأستوعب كيف تعمل ساعية البريد السحرية هذه التي لا يهمّها بردٌ أو حرّ أو زوابع أو أمطار، فتنقل رسائلنا في الهواء ، عبر أطلس العالم، ذاهبة آتية من صناديق بريدنا المعلقة في الأقمار الصناعية. ذلك الفضول لمعرفة أسرار الاختراعات، التي نستعملها بشكل يومي في البيت، لازمني في حياتي منذ الصغر وجعلني فيما بعد أبحث أيضاً في أسرار كل جهاز عند اقتنائه أو حتى دون ذلك الاقتناء، ومنها مثلا الموبايل الذي عرفت أن عمله شبيه بعمل الراديو، وأن أمواجه الراديوية التي تحمل الإشارات الصوتية المشفّرة عبارة عن أشعة كهرومغناطيسية تنتشر بواسطة الأنتينا (الأريال بالعامية العراقية). ووظيفة هذه (الأنتينا) في أي جهاز إرسال هو بث أمواج الراديو التي يصدرها المرسل في الفراغ. وفي حالة الموبايل يتم التقاط تلك الأمواج مرة أخرى عبر (الانتينا) بواسطة أجهزة الاستقبال في أبراج محطات الجوال لتوجيهها إلى الموبايل الذي يتم الاتصال معه.
إذن فكرة الهاتف النقال والراديو واحدة وأن الأول هو جهاز شبيه للثاني، ولكنه على درجة عالية من الدقة والتعقيد. وقد تطورت جميع الاتصالات اللاسلكية نتيجة لتحديث وتطوير أجهزة الراديو الذي اخترع عام 1894، وقبل اختراع الموبايل كان هناك تلفون الراديو حيث لا توجد سوى محطة إرسال (انتينا) واحدة مركزية في المدينة. أما في نظام التلفون الجوال فإن المدينة تقسّم إلى خلايا صغيرة cells ، وفي كل خلية توجد محطة إرسال (أنتينا)، وبهذه الطريقة يمكن إعادة استخدام نفس التردد على كل المدينة، وبالتالي فإن الملايين من الأفراد يمكنهم استخدام الموبايل في الوقت نفسه، ولهذا سُمّيَ أيضاً بالهاتف الخلوي.
وتشاء (انتينا) الالهام أن تفكّ لي لغز الإنترنت أيضاً في دقيقة واحدة، وربما أقل من دقيقة، بخاطر مفاجئ جاءني فجأة عندما كنت أسير في الشارع ذات يوم واملأ البصر من تفاصيل المكان وملامحه ووجوه ناسه قبل أن تمضي من أمامنا إلى اللامكان، وتلك عادة أخرى من عادات التأمل والتفكر ينصح بها أحياناً لتبديد الضيق والاكتئاب. ذلك الخاطر المفاجئ صرخ بي فجأة بينما أنا انظر الى حركة الناس في الشارع: عيني التي أرى بها الآن كل شيء بلا واسطة غير الضوء هي جهاز (انترنت طبيعي) يعمل بـ(هاي سبيد) أسرع من كل سرعات الإنترنت على الإطلاق!؟ فها هي عيني ما أن تنظر إلى شيء حتى تلتقط صورته وتسجلها على الشبكية، ثم تقوم بإرسالها إلى المخ ليتم تحليلها وتحميلها وتحويلها الى صورة. وهكذا، فإننا “نرى” الشيء خلال ثوان بلاشئ غير كمية الضوء المُرسلة إليه من العين، فهل الانترت أغرب من هذه العملية السحرية التي تتم بسرعة هائلة بحيث يكون كل شيء نراه واضحاً؟؟
من هذا المدخل أريد الالتفات إلى أمر آخر أصبحنا، شيباً وشباباً، نستعمله في التخاطب والتراسل، وهو لغة الإنترنت التي استغنينا فيها عن كثير من الزوائد والتكرار، فندخل إلى الرسالة بسلام مقتضب، نتبعه بكلمات موجزة بلا فضفضات أو مقدمات أو (جنجلوتيات) اعتدنا استعمالها فيما سبق. أما اذا كنت داخلاً على مرسال الماسنجر فيمكنك أن تودع صاحبك بكلمة (باي) أو (سلام)، وتتركه مطمئناً من أنه لن يزعل أو يغضب، لأن رُبّ (بايٍ) أو (سلام) خير من ألف (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل).. وإذا كنا نحن الكتاب قد أصبحنا متورطين الكترونياً في هذه اللعبة بحكم المهنة اضطراراً أو اختياراً، فإن أولادنا، عندما يصلون إلى أعمارنا سيكون العاطل منهم والعالم خبيرين في هذه اللعبة وأسرارها.
أما الإيميلات فتلك حكاية أخرى أجدها كالتواقيع والأسماء تعبر عن شخصيات أصحابها وطبائعهم، في أغلب الأحيان، فتجد مثلاً أكثر الناس أريحيةً وبساطةً هم مَنْ تكون إيميلاتهم هي أسماءهم الأولى التي يُعرفون بها بين الناس، ولكن هناك من يضعون تلك الشرطة اللعينة المسماة بـ(الاندر سكور) فاصلاً بين اسم الأب واسم صاحب الإيميل، فتكون كحجر العثرة الذي تتعثر به الأصابع بدلاً من الأقدام، والبعض يقول إنه مضطر لها بسبب تشابه الأسماء والبعض الأخر يختارها من أجل الخوف من الوضوح التام الذي يجب تعكيره بمثل هذه العثرات المصنوعة. وهناك من يضع نقطة بين الاسمين، وهناك من يضع حرفه الأول ثم اسمه كاملاً أو يجعل اسم ابيه سابقا لإسمه، وهناك من يضع رقماً كالألفية الاولى أو الثانية أو الثالثة بعد اسمه، وعندما سألت أحد الزملاء من الكتاب عن ذلك، قال جادا بإنه يضع ذلك الرقم لأنه يعيش القرن الواحد والعشرين، بينما أجاب كاتب ماكر بطريقة ساخرة ملتفاً على الموضوع: “رشيت ايميلي بهذا الرقم الكبير(2000) لأنه يشبه أجر كنّاس بالدينار العراقي”. وهناك من يضع سنة ميلاده أو سنة ميلاد أحد أولاده، وهناك من يستعمل إيميلاً لا علاقة له البتة باسمه، فيصعب حفظه.
وهناك، من الرجال حصراً، من يستعمل أكثر من إيميل يخصص كل واحد منها لاستعمال مختلف. وهناك من الشباب من يميل إلى استخدام عناوين الافلام السينمائية في إيميلاته. وهناك من البنات من يستعملن كلمات الأغاني أواسماء الورود وألقاب الفنانين في إيميلاتهن. وإذا كان الاميل هو (الأميّل) شبها بالتوقيع فإن (الباسورد) حكاية أخرى ربما هي كبصمة الإبهام الفريدة التي تميز إنسانا عن إنسان في هذا الزمان … وهذه مناسبة لكي نتساءل في ختام هذا الموضوع أليس من الغريب أن يسمى (الإبهام) بهذا الاسم وهو الذي لولاه لايمكن توضيح هوية الإنسان والبت فيها على وجه اليقين.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *