لطفية الدليمي، عشاق وفونغراف

لطفية الدليمي: عشاق وفونوغراف وأزمنة
المسكوت عنه في التأريخ مسموعاً روائياً

د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ الأدب المقارن المتمرس
كلية الآداب – جامعة بغداد
( 1 )
من الأسطر الأولى لرواية “عشاق وفونوغراف وأزمنة”* للروائية والقاصة العراقية لطفية الدليمي، نجد أنفسنا، وكما في كل ما عرفناه من كتاباتها، روايةً وقصةً وحتى مقالةً أدبية أو نقدية، إزاء اللغة الوصفية الجميلة والساحرة التي تنساب أمامنا بتلقائية غير عادية، بل نحسها تأتي بقلمٍ عاشقٍ للغة. وهي في ارتباطها وتعبيرها عن أشياء بعينها، تكاد تكون مسموعة أكثر منها مقروءة، خصوصاً حين تكون الأشياء التي تعبّر عنها مما يثير العواطف وقد يتلاعب المشاعر، لتُحدث أصداءً في نفس من يمسك بهذا القلم، نعني الكاتبة، أو من تجعله يتحرك صوتاً لها أو معبّراً عنها، نعني الراوي أو الشخصية. إن ما يربط هذه الأشياء معبّراً عنها بلغة الكاتبة الخاصة وموضوع الرواية وخطّها وضمن ذلك شخصياتها كما سنرى، أنها ستكون محفّزة للتعبير عمّا تنفتح عليه بطلة الرواية (نهى) بعد تجربة إقامة في بلاد الآخر/ الغرب التي لم تجد نفسها بقادرة على الاستمرار بها بغير قليل من التضحيات بالأنا والهوية والارتباط بالجذور، وتجربة حب وعشق وزواج مريرة، نعرف من الصفحات الأولى أنها تخرج منها سليمة بغير قليل من الصعوبة. “تفكر نهى: أنا ابنة هذا العالم، فعلامَ يعاملني الآخر باعتباري كائناً مختلفاً؟ لماذا نهرتني الشرطية الفرنسية البدينة التي يقطر وجهها كراهية وعنصرية عندما كلمتها بالإنكليزية وصرخت بي: اذهبي، تعلّمي اللغة الفرنسية ثم عودي لتقديم طلبك..”- الرواية، ص14. وبعد ذلك، “أدركتْ بعد زوال نزوة العشق أنها أمعنتْ في خداع النفس قبل خداع الآخر لها (…) فعاشت تجربة حب صاعق باتت تنظر إليه الآن باعتباره حبّاً مسموماً وولعاً نزوياً مخزياً، تحولت علاقتها بوالدها من الانتماء المطلق إلى الضيق الخانق والشعور بالذنب في مخالفتها له؛ فهو الذي اختار لها كل تفاصيل حياتها حتى هجرتها إلى فرنسا بعد نجاتها من محاولة اختطافها في بغداد (…)، فيجتاحها حنين أنثوي حزين لأشياء صغيرة في البيت: الصور، الروائح، مفرش المائدة المطرّز بخيوط حرير زرقاء، رائحة طبيخ أمها، زهور الدفلى على الرصيف، تغريد البلالبل على شجرة النارنج في الصباح، كتب والدها العتيقة، المزهرية المثلومة التي صنعتها أمها في دورة السيراميك، أغاني فيروز الصباحية في إذاعة بغداد، أشذاء البخور في ليالي الأعياد (…).”- الرواية، ص25-26.
في ظل تجربتَي الحب والزواج، والإقامة في بلاد الآخر المريرتين، إلى جانب الحنين إلى الوطن والأهل وبشكل خاص الأب المريض، تكون عودة (نهى) إلى بغداد طبيعية ومنطقية، ولكن هل هذا سيكون الحل والفرج لما هي فيه؟ ربما، ولكن واقع حال البلد، وكما تعرفه من قبل هجرتها، وستعرفه بعد عودتها غير مؤهل لهكذا حل أو فرج، على الأقل آنياً. فنعرف أنها وكامل العائلة في حال اغتراب فرضها عليها واقع جديد غريب، هو واقع العراق في ظل الاحتلال الأمريكي وما سيتلوه من فوضى وإرهاب وموت يومي مجاني. ولعل أكثر من يعكسه واقع الأب خصوصاً في انكاسره بمقتل ابنه، فلا يستطيع كتم بكائه، لتقول له زوجته الأم: “- لا تبكِ يا عيوني، سيأتي يوم أفضل لنا جميعاً، لا تبكِ، سيأتي ذلك اليوم..”- الرواية، ص68.
يحدّجها بنظرة عاتبة: متى سيأتي ذلك اليوم؟ سنموت كلنا ونلحق بولدي فؤاد وكما مات أخي ووالدي، ووالدك وأمك، وكما مات جارنا الدكتور محمد رؤوف اغتيالاً وكما أُعدِم ماجد (…) كل هذا الجيل الذي بنى العراق سيموت وينتهي وسيهاجر الشباب أو يموت بعضهم في الحروب أو الإبادة بالتفجيرات.”- الرواية، ص68.
وحتى ومثل هذه الظواهر تخفّ، ولا تختفي بالطبع، فإن العراق، الذي يبدأ ومن مدة طويلة بعض الشيء يصير غير العراق الذي كان في زمن ما، يواصل انحداره أكثر فأكثر في هذا الزمن، ليزيد من حالة الاغتراب الذي تصير (نهى)، وكما جل العراقيين، فيه:
“أمي التي كانت تعمل وتكافح من أجل حقوق النساء في أواخر الستينيات، كيف تحوّلت إلى امرأة أخرى، وكأنها تخلّت عن روحها واستسلمت لركود الهمة وخواء العزيمة في التسعينيات (…) لعل مقتل أخي فؤاد كسر قلبها وروحها. رأيتها ذات يوم تحمل علبة معدنية مستطيلة مليئة بالصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض، وضعتها أمامي وقالت: انظري هكذا كنا نخرج في مظاهرات ونصرخ في وجه الشرطة (…) انظري هذه الصور كنت أركب الدراجة الهوائية (…) انظري، هذ الصور عندما كنت في الجامعة في احتفال يوم المرأة ومعي زملاء وزميلات لا أعرف أين هم الآن..”- الرواية، ص53.
،وكأنه اليأس من الحاضر، خصوصاً في ضوء ما يشهده العراق من الموت اليومي، تكون العودة إلى التأريخ من خلال مذكرات (صبحي الكتبخاني)، جد أبي (نهى) ولكن هل يعوض هذا؟ هذا ما يصعب البت فيه. بعبارة أخرى، ولأن اليوم الأفضل، الذي ترى الأم أنه سيأتي، يتأخر عليهم، كما على عموم العراقيين، هل يكون النزوع الضمني إلى الماضي حين سيقتحم العائلة من خلال مذكرات جد الأب إحدى محاولات الهروب من هذا الحاضر، أم هو محاولة فهم هذا الذي يجري في الحاضر؟ نعتقد أن هذا مما لا تجيب عليه الرواية بقدر ما تثيره في نفوسنا كما في نفوس الشخصيات، خصوصاً حين يأتي موضوعياً وفكرياً وفنياً في عدد غير قليل من الروايات العربية المعاصرة، وهو مما أدعوه شخصياً استحضار المسكوت عنه الاجتماعي في التأريخ.

( 2 )
وهكذا، في رجوعها إلى التأريخ، كان أكثر ما اعتمدت عليه الرواية، بناءً وتقنيات، هو تنقّل السرد على أزمان مختلفة تتوزع بالضرورة على زمنين رئيسين هما الحاضر والماضي. والكاتبة حين تفعل هذا فإنها، وقد تعاملت مع مرحلة تأريخية معينة هي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تجنّبتْ السقوط في إغواء هذا التأريخ الذي اختارته فما صارت رواية تأريخية، بل سعت إلى الكشف عن بعض المسكوت عنه، فعملت على الربط ثيمةً ودلالةً وربما تفسيراً لبعض مظاهر الحاضر، بين أحداث الماضي/ التأريخ وأحداث ومظاهر الحاضر/ المعيش حالياً. بكلام أوضح هي ربطت حاضر ما بعد 2003 بماضي ما قبل تأسيس الدولة العراقية، ولكن دون تجاوز ما بين تأسيس الدولة 1920 والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. فحين تمسك بالخط الجميل الذي يصوغ قصة (صبحي) في الماضي، تتوقف، مثلاً، عند عودته إلى بغداد، لتنقل السرد إلى (نهى) في الحاضر، بل يطال الشخصيات والخطوط الفرعية المتعلقة بها ضمن كل زمن، ولا سيما بؤر أحداث الماضي.
تعلّقاً بشخصية (صبحي)، إذا كانت تستحوذ بشكل واضح على اهتمام المؤلفة وحبها، فإنها، نعني الشخصية، تستحوذ أيضاً على القارئ الذي لا يمكن له إلا أن يتعاطف معها، ليس لأنها تمثل- وفق التقسم التقليدي للشخصيات في المسرح والسرد- الخير مقابل شر يظهر هنا وهناك، بل لأنها أيضاً تمتلك نفسها ودواخلها، والأهم خصوصية الجوهر الإنساني الذي نفتقده ونحن نعايش جل الشخصيات الأخرى، مع امتلاكها جميعاً الصدق الذي وفّرته لها الكاتبة. كما أن هذه الشخصية هي التي تصير الرواية بها بشكل خاص رواية، وربما بها حققت لطفية ما أرادته من الرواية، ولاسيما في مسألة استحضار التأريخ، وربط الحاضر بالماضي، وتحديداً من خلال شغف (صبحي) بتسجيل كل شيء: أفكار، وما يعنّ له، وما يقرأه، وما يشاهده ويخبره. وإذا كان ربط الحاضر بالماضي متحققاً من خلال الموضوع والأفكار التي حملتها المؤلفة كما شحنت بها شخصياتها في الماضي من جانب وفي معرفتن نحن بالحاضر على أرض الواقع، فإن هذا لم يكن كافياً ونحن في عالم روائي متخيّل، فالمؤلفة احتاجت فنياً، بناءً وتقنيات، إلى أن تجد ما يحقق هذا، فكانت شخصيات الحاضر ولاسيما الحفيدة (نهى) التي تبدأ بها الرواية شخصية متغرّبة ومغتربة وهي معبّأة بالآلام من واقع عراقيي الحاضر، بفوضاه وإرهابه وحروبه وعنفه وافتقاده الأمن بشكل عام. ويكون أداة الربط وبدايته مخطوطة مذكرات قديمة تعود إلى (صبحي الكتبخاني) الذي يعرضها حفيده، أبو (نهى) عليها حين تعود إلى بغداد، لتقوم بمراجعتها وتنقيحها، وهي المذكرات التي ينفتح بها أحد خطّي الرواية، نعني خط الماضي، وعلى شاكلة الميتافيكشن. وأكثر ما سيعبر عنه هذا الخط، وفي النتيجة ما ستعبّر عنه الرواية عموماً، ولاسيما من خلال ما ينكشف لنا من ـتأريخ العراق مقدماً لنا عن طريقها هو توارث الارتباط مصلحةً بالأجنبي عبر ثلاثة أجيال لعائلة، ولكن في مقابل أن يكون ضمن العائلة من يشمئز من ذلك ويعارضه ويعمل على محاربته، وخصوصاً (صبحي) نفسه.
ولأن التأريخ حين يحكيه الإنسان العادي، نعني غير المؤرخ الرسمي- إذا صح التعبير- لا بد أن يكون، بدرجة ما، غير ذلك التأيخ، بمعنى غير ما يقدمه المكتوب (رسمياً)، فهذا هو تماماً المسكوت عنه الذي يبدو واضحاً أن لطفية الدليمي بحثت عنه فقدمته في روايتها مسموعاً خارج الصفحات المكتوبة بوصفها تأريخاً، مما يعبّر عنه (صبحي) نفسه حين يقدم مذكراته بالقول:
“التأريخ مناور ومضلل وخادع، والحوادث يراها الناس من جانب واحد حسب ما تمليه أهواؤهم، ويكتب عنها الكُتّاب من الجهة التي تُرضي ميولهم وانتماءهم، مصالحهم، قسوتهم.”- الرواية، ص155.
فإذ لا يمكن أن نرى في التأريخ الرسمي المسجّل إلا ساكتاً عن جوانب كثيرة، خصوصاً حين يأتي ممثلاً لسلطة- وهو عادة ما يأتي كذلك- فلا يكشف عنها أو عن بعضها غير المصدر غير التقليدي، من تسجيل ذاتي، وروايات أخبار، وصحف وحكايات حقيقية وما إلى ذلك، ومذكرات (صبحي) من هذا، وبها صارت رواية “عشاق وفنوغراف وأزمنة” منه.

( 3 )
كما هو شأن جل الروايات التي تستحضر المسكوت عنه الاجتماعي في التأريخ، تحتل المرأة بأوضاعها والقمع والظلم اللذين تتعرض لهما وما يحيط بها من تقاليد وممنوعات، حيّزاً كبيراً فيه، كما في فصل (مديحة)، مثلاً، الذي تعود بنا الرواية فيه إلى زمن الأم والأخوات وأمهن. بتعبير أدق يأخذ موضوع المرأة، زوجةً وأختاً وابنةً وخادمةً وجارية، والتعامل السلطوي الأبوي/ البترياركي القاسي، ومدىً أبعد مما كان سيأخذه لو كان قد جاء على لسان عادي فقط، لكنه جاء، وضمن صورة بغداد والعراق والمنطقة، على لسان شخص يخرج عن سياق الشائع والمهيمن، نعني عن سياق استعباد المرأة رأياً وممارسةً وواقعاً، مما من المفارقة أننا نراه في واقع الحاضر، وهو (صبحي) الذي يمثل إلى حد كبير، برأينا، وجهة نظر الرواية أو الروائية، وهو ما تدعمه مقدمة مذكراته السابقة. ومن الواضح هنا أن الرواية تريد، وهو ما نعتقد أن جل الروايات التي تستحضر المسكوت عنه في التأريخ تريده، أن تعبر عن الحاضر. الحقيقة أن الرواية إذ فعلت هذا، خصوصاً في الصور التي يقدمها (صبحي) لنساء العائلة أو من لهن علاقة بها، مثل أخته (ألفت) في مقابل جبروت وقسوة رجال مثل أبيه (إسماعيل) وأخيه وشبيه أبيه (نشأت)، فإن الأمر لم يتوقف على ما يخص المرأة فقط، بل في عموم تعاملها مع الحقبة التأريخية التي تذهب إليها، وهي تريد لها أن تعبر عن الكثير من صورة حقبة الحاضر:
“سمعنا في إحدى الليالي أصوت إطلاق رصاص في البستان (…) أحكمنا إغلاق الأبواب وحملتُ بندقيتي ولبثت أراقب ما يجري من نافذة في الطابق الثاني. (…)، لم أشأ المجازفة بالخروج في الليل فأترك زوجتي وولدي وحيدين مع شاهين، انتظرت حتى الصباح وأرسلت شاهين للبحث عن الحارس، عاد شاهين مرعوباً وقد غاض الدم من وجهه:
“- سيدي، سيدي صبحي بك سيدي، وجدتُ الحارس مشنوقاً في شجرة، وجدته عارياً، سلبوه بندقيته وثيابه.. سيدي رأيته المسكين، لا حول ولا قوة إلا بالله.. رأيته معلّقاً في الشجرة.
” أيقنت ساعتها أنّ هناك من يتربّص بنا، كنت مخدوعاً بالسلام الذي ظننت أني ضمنته لأسرتي في قصر البستان، لا أمان لنا في هذه الولاية التعيسة.”- الرواية، ص388.
ولهذا لا يكون غريباً، “وهي تدقق أوراق الجد، قارنت بين نهى ما حدث أيام الحرب العالمية الأولى واحتلال بغداد وهزيمة العثمانيين وما جرى في سنة 2003 في البصرة من معارك دموية ضد قوات التحالف، قالت لوالدها: – أهكذا تعود دورة التأريخ؟ إنه لأمرٌ يثير العجب..”- الرواية، ص391.
*
أخيراً إذا كان هناك الكثير مما أبهرنا في الرواية، وكما يمكن لكل مقالنا أن يوصله موضوعياً ونقدياً، فإن أمراً واحداً لم أجده شخصياً يتواءم مع ذلك كله، وهو التفصيلة التي لم أحب منها بشكل خاص ما وجدتُ عليه الربع الأول منها. ففي عودٍ على بدء، وإذْ لا يتغيّر موقفنا من لغة الكاتبة الوصفية الشفيفة التي تكاد تنفرد بها، قد نأخذ عليها، وإنْ جزئياً، هذه التفصيلية التي لا ندري إن كانت هي التي أغرت الكاتبة لتكون اللغة عندها غاية، أم أن شغف الكاتبة باللغة ذاتها إغرتها فسحبها إلى تلك التفصيلية. كل هذا لا يُخرج الرواية من حقيقة أنها إحدى أجمل الروايات العراقية التي استحضرت المسكوت عنه في التاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • لطفية الدليمي: عشاق وفونوغراف وأزمنة، رواية، المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد، 2016.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *