على برد الهوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا تقصقصوا أجنحة الفراشات
ميسلون هادي
يعتدل الطقس ويطيب الصباح بداية الخريف، وتفتح المدارس أبوابها فيرقص القلب فرحاً لرؤية الحقائب فوق ظهور الطلاب وهم يملؤون الشوارع أو سماع مزامير الخطوط وهي تتوقف قرب أبواب البيوت لتقل هذه الحمائم إلى صفوف المدارس وساحاتها التي تعج بالأناشيد واللغط وظفائر الطالبات الجميلة والقرديلات البيضاء والقراصات الملونة.. هذا هو سن الطفولة الذي يعني اللعب واللهو والبراءة التامة وخلو البال من الهموم والمسؤوليات، وهو بالنسبة للمرأة العمر الوحيد الذي تعيشه بلا هموم ولا منغصات حيث تبدأ بعد سن البلوغ حرباً متواصلة مع نفسها والمجتمع، وتبدأ عذابات الطبيعة وآلامها من متاعب الحيض ثم الحمل والولادة.. ولا تنتهي عند سن اليأس حيث أعراض الاكتئاب والضيق وترقّق العظام، ناهيك عن حربها مع المجتمع الذكوري الذي لا يريدها في الأغلب الأعم إلا راضخةً مستكنةً في أغلال العبودية وراضية بواقع ثانوي، مهما نوضل للارتقاء به، فهو يبقى دون واقع الرجل الذي لو كانت يده مطلقة في الأمر لتمنى أن يحبسها داخل بيت مغلق وطبقات من أشكال الملابس الداكنة.. واليوم يأتي من يدفن طفولتها أيضاً بالحجاب باسم الدين، والدين من ذلك براء.
إنه لمن المؤلم أن نرى بنات صف من صفوف المدارس الابتدائية في العراق أو بعض البلاد العربية وهن متلفلفات بالحجاب الأسود شاخصات العيون بلا ظل للأمل أو الفرح أو أية رغبة بالانطلاق.. وكلما رأيت هذا المنظر أسأل نفسي أين القراصات الملونة؟؟ أين الظفائر الجميلة؟ أين القرديلات البيضاء؟؟ أين براءة الطفولة ودهشتها المستمدة من الرغبة في اكتشاف العالم والانطلاق اليه كفراشات بيضاء ترى الورود للمرة الأولى؟… ولكن أي انطلاق هذا لمن وجدت نفسها في زمن الانطباق على النفس موؤودة ملعونة ملغية العقل منذ سني عمرها الأولى منظورة من بعض الرجال على أنها نجاسة أو عورة أو عار يستحق الطمر بطبقات قاتمة من الملابس والحجب.
رؤوس صغيرة مكممة وملثمة ومدفونة بخرق الأقمشة التي يعتقد أولياء الأمور أنها ستخفيهن عن الأنظار وتحميهن من المخاطر، ولكن الدفن في الرمل لن يخفيها عن الأنظار ولا يجعلها غير موجودة بين الناس، إنما سيجعلها فقط قبيحة مشوهة الوعي منكسة الرأس ومنكسرة الذات.. وهذا ما يتنافى مع بناء جيل جديد خال من العقد النفسية والأمراض التي شوهت حياتنا السوية بأمر بعض الرجال الذين شوهوا كل شئ جميل. لقد تمكن هؤلاء البعض وبالاعتماد على ما وراء الطبيعة من صناعة أشكال جديدة من (وأد البنات) أصبحت في المتناول منذ زمن قريب. فالكثير ممن ينظرون حتى إلى سن الطفولة من جهة اللون الأسود، يعملون على إخفاء الرؤوس الصغيرة بشتى الحجب لكي يجعلوها غير مرئية للناظرين، ليس لأنهم يعتقدون أنها جزء من أملاكهم فقط ولكن لأن المنع هو ما تربت عليه عقولهم بدلاً من التثقيف والتنوير وتحصين النفس بتفتح الوعي واحترام الذات.
لقد تحولت المدارس الابتدائية الى مكان لقصقصة أجنحة الفراشات ووأد البنات الصغيرات.. وكما يبدو لنا فإن الأمر على هذا النحو من التطرف سيقود في المستقبل إلى نوع مستحدث ومخطط من إرهاب العقل والفكر الذي يقود الى ارهاب الفعل والتطبيق، ولا ننسى أنه ينافي الشرع والقانون وحقوق الإنسان ويحتاج إلى حملة توعية جادة من وزارات التربية، ووضعه على أولويات اهتمامات منظمات المجتمع المدني، لكي لا تكبر الطفلة وهي تكره اليوم الذي ولدت فيه، مادامت لا تستطيع النظر إلى نفسها كمخلوق جميل وكامل العقل والخلقة.