ميسلون هادي
صرعة هذه الأيام لدى المحللين وأهل السياسة وأصحاب الرأي السديد أن ينطقوا بالمصطلح الذي يعترض عليه البعض ويوافق عليه البعض الآخر، ثم يضعوه (بين قوسين) للدلالة على أن هذا المصطلح موضع اختلاف وأنهم يبدون اعتراضهم أو تحفظهم عليه.
وانطلاقاً من هذه الموضة الكلامية التي انتشرت وسادت وتداولتها الألسن، ومن باب الدقة وتوخي الأسى، حري بنا أن لا نتلفظ باسم بغداد في هذه الأيام إلا ونتبعه بإشارة (بين قوسين) هذه للدلالة على أن مدينة بغداد التي يتحدث عنها المتحدثون وتلك التي يفكرون فيها، هي غير بغداد التي نراها ونحسها ونمشي في شوارعها كل يوم. فإذا ما أخذت أبناء جيلي مثالاً على ما أقول فإن بغداد بالنسبة إليه هي ذاكرة ممتدة منذ بداية الستينات وحتى الآن، وهذه الذاكرة فيها تراكمات جميلة وعذبة وليست خراباً في خراب كما يحلو للبعض أن يدّعي، وفيها من الأمكنة المضيئة ما ملأ قلوبنا بالامتنان لهذه المدينة الأليفة الوديعة والالتفات لدجلتها دجلة الخير الذي كان طريقه سالكاً من جزيرة بغداد في الراشدية ولحد جزيرة الأعراس في الجادرية (وكانت تسمى فيما مضى بأم الخنازير)، وكان هذا النهر يشهد الكثير من الرحلات الجامعية والعائلية وسفرات النوادي والجمعيات والأعراس. كما أن كورنيش النهر، ورغم المناطق المحظورة فيه، كان يعج في الكثير من مواضعه بجهتي الرصافة والكرخ بالحياة والحركة اليومية، وكنا نعبره بالقارب أحياناً من جهة دائرة التقاعد في الكرخ إلى جهة المستنصرية في الرصافة إذا ما أردنا الذهاب إلى شارع (النهر) للتبضع من دون استعمال السيارة، أو نعبره على جسر الإئمة من راس الحواش، ثم التجوال في أجمل أسواق الملابس والإكسسوارات والمصوغات الذهبية. وقد نقطع بالسيارة، في أيام الربيع والصحو الجميل، طرقاً فسيحة غير مخربة ولا محطمة الجوانب ولا يابسة الأشجار تقود إلى المناطق المحيطة بأطراف بغداد كالراشدية وسلمان باك وعكركوف والحبانية والثرثار وبحيرة الرزازة وسدة الهندية.. وغيرها.
وإذا كانت هذه الأمثلة البسيطة قد تبدو سياحية الآن وبعيدة المنال، حتى على أجيال قادمة من طلاب المدارس، الذين فيما مضى كانت هذه الرحلات مقررة عليهم خلال أيام العام الدراسي، فأزعم أنه كانت هناك في بغداد متع بسيطة يجب أن لا تختفي ولا تزول مهما كانت الأسباب أو المبررات الأمنية ملحة، فقد كان يكفيك متعة أن تمشي في شارع الرشيد دون تعترضك فوضى أو منغصات أو اختناقات أو تعبر أي جسر من جسور الشهداء أو الأحرار أو الجمهورية مشياً على الأقدام منصتاً لخرير الماء وهسهسات الهواء الطلق، أو أن تجرب متعة الذهاب إلى الشورجة والسوق العربي والتجوال في ما يحيط بهما من أسواق البهارات والأقمشة والقرطاسية والصفر والذهب والفضة، أو أن تأخذ أولادك في أوقات المساء، وتعبر بهم الجسر المعلق إلى مسرح من المسارح أو منتزه من المنتزهات أو مطعم من المطاعم.
وياما حكومات في هذا العراق سادت ثم بادت، ودالت ثم زالت، ظالمة وغير ظالمة، أي منها لم يقض عل هذه الروح الخضراء لبغداد، ولم تتأثر سجية هذه المدينة بسياسة هذه الحكومة أو تلك حتى جاءتنا قوة الاحتلال الغاشمة فأشعلت النيران في هذه الروح العظيمة وقتلت مباهجها الصغيرة وألحقت أعظم الضرر بإيقاع حياتها، حتى تكاد أن تقضي عليه تماماً، إذ منذ ثلاثة أعوام، وشوارع بغدادنا الحبيبة تكاد تكون مكباً للنفايات، وأرصفتها ملاذاً لطباخات المطاعم وأكشاك الخضروات وهواءها مرتعاً لدخان وضجيج المروحيات والمولدات، وهناك شوارع إذا مررت بها، ستشعر أنك قد ركبت آلة الزمن وعدت إلى عقد الثلاثينات من القرن الماضي، بل أن شوارع كانت ولا تزال تسمى بالراقية (وأيضاً بين قوسين) هي الآن مرتع للأزبال والنفايات والأسلاك الشائكة التي تحيط ببعض بيوتاتها (المهمة) تحولت إلى لوحات تجريدية عليها كل أنواع وأشكال القاذورات والعلاكات. أما مناطق حيوية مثل الباب المعظم والباب الشرقي والسعدون فحدّث ولا حرج على ما آلت إليه الأمور فيها من فوضى.
أما أن تمر في شارع من شوارع بغداد التجارية (وأيضاً بين قوسين) في مثل هذا الوقت الجميل من السنة، وفي الصباح الباكر فستصد روحك وقلبك وأحاسيسك المناظر الكئيبة للجرزات الوسطية والأرصفة ورؤوس الأفرع. أما إذا عدت إلى بيتك مساءً فسيقبض روحك الظلام الدامس والوحشة القاتلة التي تلف شوارعها الرئيسة المقفرة.
إن استمرار هذا الفشل المكاني وتفاقمه مع مرور الزمن خصوصاً لعاصمة عريقة مثل بغداد يسكنها الكثير من المتعلمين والمثقفين والبسطاء من أصحاب الذوق الرفيع سيؤدي بالباحثين منهم عن النظافة والنظام والجمال باليأس ونفض اليدين من هذا المكان، وربما هجرته والنأي عنه إلى الأبد، كما أن مكاناً قذراً مبعثراً بلا إضاءة سيشجع أنواع الجريمة وأشكال الشر على الظهور بينما المكان النظيف المرتب سيجعل حتى المواطن الفوضوي أو الرث أو البعيد عن النظافة يفكر مرتين قبل أن يبعثر هذا المكان أو يمس بسوء نظامه ونظافته وهيبته، ولو كانت الورود حاضرة لما تجرأت حتى القذائف على السقوط.
وعلى ما يبدو أن بغداد الحبيبة تسقط سقوطاً آخر في براثن الإهمال والفوضى والقاذورات، وأن أهاليها الكرام أصبحوا لاجئين (لجوءاً قسرياً) حول المنطقة الخضراء التي على ما نسمع ونقرأ من تقارير صحفية أنها أصبحت بمرابعها الخضر وشواطئها الغناء جنة من الجنان الأمريكية على الأرض.
جريدة الزمان 2006
شاهد أيضاً
أهلاً بالعالم !
مرحباً بك في ووردبريس. هذه مقالتك الأولى. حررّها أو احذفها، ثم ابدأ النشر!