البقاء صوراً
رواية “مدينة الصور” للؤي حمزة عباس
قراءة انطباعية
منشور
أ د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
مع أنني مشغول في قراءة ما تبقى من روايات المرحلة 1981-2002 للكتابة عن بعضها، وتهيئة للجزء الثالث من كتابي “التجربة الروائية في العراق”([1])، أتساءل: لماذا فرضت رواية “مدينة الصور”([2]) عليّ أن أكتب عنها؟. صراحةً أقول: لا أعرف.. وهو رد ساردده كثيراً في مقالتي.. لماذا؟ لا أدري. وبداية ليعذر الكاتب والقراء ذاتيةَ تجربتي مع الرواية قراءةً ورؤىً وكتابةً مما قد لا يصب في النقد والنقد الروائي في ضوء المناهج الحديثة، بل يعود إلى النقد ما قبل عقود طويلة، نعني النقد الانطباعي الذي ما زال له وجوده بالطبع، مستقلاً في بعض القراءات، وضمناً بشكل محدود في قراءات ودراسات أخرى. وعلى أية حال هي قراءة لن تكون انطباعية عائمة أو خالصة. فإذا كانت الانطباعية أو المنهج الانطباعي، أو ما قد يسمى النقد التأثري، حين ظهر في الإبداع، وتحديداً الفن التشكيلي على أيدي فنانين، مثل رينوار، ويعني التعبير فنياً عن التأثر الذاتي، فإنه حين انتقل إلى النقد صار يعني التعبير عن التأثر والانطباع أيضاً، ولكن مع إدخال التعليل والتبرير وبعض العقلنة.
وإذا كان النقد الانطباعي يعتمد أول وأكثر ما يعتمد على ما يتركه النص أو العمل الفني في المتلقّي، وهو هنا الناقد، من تأثير ينطلق منه الناقد، فإنه لا يستنغني عن المنهجة. ويُحسب لهذا النقد أمران، الأول هو، برأي النقاد ومؤرخي النقد والأدب، أول منهج ظهر في تاريخ النقد، مع أن آخرين يرون فيه اللامنهج الذي سبق ظهور المناهج الحديثة وزامنها وتلاها؛ والثاني أنْ ليس من منهج تقريباً يخلو من الانطباعية وإن بدرجة أو لمحة. وهكذا فالنقد الانطباعي أو التأثري “هو النقد الذي تكون الدوافع الذاتية هي التي تتحكم فيه، بمعنى أن يكون تقويم الناقد للعمل الأدبي مبنياً على أساس ما يبعثه في نفسه ,ومدى ما يستثير من ذكرياته وعواطفه الكامنة في ذاته. فهو يعتمد إلى حد كبير على الخلفية الاجتماعية والثقافية، والعوامل المؤثرة في تكوين شخصية الناقد وحده”([3]). كما يعرفه مجدي وهبة بالقول: “هو النقد الذي لا يهتم فيه الناقد بتحليل الأثر الأدبي، ولا بترجمة حياة مؤلفه، ولا بمناقشة قضايا جمالية مجردة، وإنما يقدم في أسلوب جذاب حي انطباعه هو نفسه بالأثر الأدبي الماثل أمامه”([4]). ومن أشهر من عُرف من نقاده الإنكليزي والتر بيتر (1839-1894) والفرنسي أناتول فرانس (1844-1924)، وقد يميل إلى ذلك بعض نقد رائد النقد العلمي- التاريخي والاجتماعي- الفرنسي سانت بيف (1804- 1869). أما في النقد العربي فقد عُرف به العقاد وبعض نقد طه حسين وعلي جواد الطاهر. وهو ما سيكون منهجنا في هذه القراءة ولأسباب ستتضح تدريجياً، صراحةً وضمناً، في ثنايا المقالة.
( 2 )
الرواية التي بين أيدينا هي أشبه بتداعيات وتذكّرات تستعيد الماضي بشكل مقاطع ولقطات وأحداث وأجزاء من أحداث، وكل هذه معبَّر عنها بصور، “كانت الصور تعيش في رأسي حية، نضرة، لها رائحة وطعم. لها ملمسٌ دافئ غريب. لا تستقر نساؤها على حال. إنهن يتقلبن في ليل وفي نهار”- الرواية، ص27. بعبارة أخرى هي صور من الماضي لا روابط كبيرة ودرامية بينها غالباً إلا في أنها من ماضي البطل، بل حتى صور النساء التي يشير إليها الراوي لا تشكل شيئاً كبيراً في مسار الرواية وثيمتها وفي ما يريد هذا الراوي، افتراضاً، أن يقوله فيها. هي إذن أقرب إلى تداعيات وتذكرات منها إلى السرد. وأحداثاً تجري، أم هل نقول صوراً تُلتقط كلياً في البصرة، وربما معظمها بشكل أدق في المعقل، وهي تتمرد على أن رواية ذات خط معين. ومع أنه تمرد لم يقنعني في بعض لعباته، فإنه امتد إلى قراءتي لها وكتابتي عنها لتتمرد على كل ما فكرت فيه من مناهج. فمع أنني كدت أُخضعها لما وجدتها، في لحظات، أقرب إليه طبيعةً ورؤيةً وخطواتِ تنفيذ من المناهج، وهو منهج أو مناهج القراءة ومقترباتها، فإنني عدت وتراجعت وفكرت بغيرها، ولكنني لم أتوقف عندها كما توقفت عند الأولى، لأجد نفسي أميل بحكم الأكاديمة، التي تحكمني كما أحكمها، إلى الاعتراف بأن الانطباعية، منهجاً، قد فرضت نفسها عليّ، فكانت هذه القراءة الانطباعية.
وإذا كانت هي هكذا لماذا كانت وقفتي، إذن، عندها، وأنا أبحث عن الرواية الرواية عادةً؟ أهي الصفحات (114-138) بخطها الجميل ولكن القصير والمحدود، ببطلته (كريمة) التي سنأتي عليها فيما بعد؟ بل لماذا استحوذت عليّ الرواية، وجذبتني للكتابة عنها، بعد أن عذبتني وأنا أرى الكثير من تفاصيلها وتفرعاتها و(صورها) تنلفلت من بين أصابع كاتبها، دون أن يشغّلها لتكون الرواية الروايه؟ هل لأنها (متمردة) كما قلنا؟ ربما. إذن لنبدأ من تمردها هذا حتى وإن لم نكن متفقين معه.
إذا ما وصفنا الرواية فنياً بأنها رواية متمردة على الشكل الروائي، وإذا كان التمرد- أي تمرد- يمتلك إيجابية أنه يثور على سلطة ما، وعدم التسليم بالموجود، وهو يعني بشكل أو بآخر التجديد والقوة والجرأة، فإنه لا يمكن أن يكون، حتى مع ذلك كله، مقنعاً بدون مبرر له أو مسوغ موضوعي أو فني، وهو ما أتردد في نفي وجوده في رواية لؤي حمزة عباس، لأني لا أكاد أضع اليد عليه غير أنها عبارة عن صور حقيقية مستعادة ومتخيّلة محفوظة في الألبوم الذهني للكاتب أو لبطله الراوي. وهذا غير كافٍ، كما ليس كافياً جمال هذه الصور وما يحمله الكثير منها من دلالات ومعان ومضامين ذاتية، ليكون مبرراً لرواية بدون أن يربط ما بينها خط ما أو يُوجِد صاحبها خطّاً بينها، وهو ما لا نجده إلا بشكل محدود سنأتي عليه. ولأنها رواية ذات أسلوب هو برأيي من أجمل ما قرأت، ولأن صورها تمتلك ما امتلكته، فقد زعلت، وعانيت، وغضبت على ما رأيت أن لؤي قد ضيعه من بين يديه. قد لا أكون في هذا محقاً، في قراءتي للرواية، ولكن لعل واحداً من أغرب ما حدث لي هو أني بدأت الكتابة عنها بمجرد أن أنهيت قراءتها، وهو ما لا يحدث لي عادة، بل ربما لم يحدث لي أبداً، فقد اعتدت أن أكتب بعد أيام وأسابيع، بل ربما أشهر بعد قراءة أي عمل أريد الكتابة عنه، تكون قراءتي المنتهية وما سجلته عنها ذهنياً وتحريرياً تنضج خلالها. أليس هذا غريباً؟ بالتأكيد.. إذن لماذا كانت كتابتي هذه عنها؟ لا أدري.
هي عمل يتراوح، في أسلوبه الجميل، وفي تناثر أو توالي صوره العادية وغير العادية، التي قد يكون بين بعضها وبعض آخر علاقة أحياناً وقد لا يكون أحياناً أخرى، وهي صور تتراوح ما بين واقعية ومتخيلة وأسطورية؛ وبين قديمة من الماضي البعيد أو المتوسط أو القريب، وحديثة؛ وبين ذاتية- للراوي ومن ورائه الكاتب- عن شخصيات عاش معها أو عرفها أو قابلها ومؤثرة غالباً فيه، وموضوعية عن جيرة ومجتمع وشعب ونظام حكم وحكّام. ولكن، مرة أخرى، هل هذا يكفي لتكون رواية؟ لا بالتأكيد. فكل ذلك إنما هو كنز معلومات وانطباعات ومشاهد، يشبه ما يظن الراوي و(هلال)- إحدى الشخصيات- أن الجرّة الكبيرة التي يعثران عليها مدفونة في الأرض هي كنزُ ليراتٍ ذهبية ليظهر بعد ذلك أنها تحوي جثةَ رجلٍ تتحول سريعاً إلى تراب. صور لؤي كنز مملوء بصور، وإن لم تتحول إلى تراب فتضيع، فإنه أبقى عليها في ألبوم صور جميل، ولم يحولها إلى الرواية التي كان الممكن أن تكون.
أقول للؤي، في ضوء ذلك، إنني، من هذه الناحية، لم أقتنع بالرواية. هل يبدو هذا غريباً؟ لا أدري. ولكن إذا كان كذلك، فإن الأغرب منه هو أنها قد دفعتني بعنفٍ ورقّةٍ- في الوقت نفسه- للكتابة عنها كما قلت. لماذا؟ أهو لؤي الذي أعرفه؟ مرة آخرى لأعترف بأنني لا أدري، فمع أننا نعرف بتغييب المؤلف، ولا نقول بموته، في النقد، فإنه حاضر بالطبع في انطباعية قراءتي وكتابتي هنا. أهو قلم لؤي الذي يمتلك معه كل أدوات الكتابة الجميلة؟ أم راويه الذي قد يكون هو نفسه؟ أم هو (سعود)- بطل الرواية- ذو الشخصية الساحرة، ولكن غير المفهومة بسهولة؟ أم هو (كريمة) التي أحس أن الكاتب إذ أخرجها من كينونتها الورقية، على رأي بارت([5])، لكنه ذبحها بعد ذلك حين تركها عائمة على بركة عالم كنا نحسه، من أوائل لقطات ظهورها، يتلاشى تدرجياً، فاختفى من بين أيدينا في الصفحات الأخيرة من الرواية، كما تلاشت الليرات الذهبية المفترضة إلى تراب، مع فرق أنها بقيت في أذهاننا نتحسر عليها ونحِنّ إليها؟ مرة أخرى لا أدري. في الواقع لقد استحوذت عليّ شخصية (كريمة) تحديداً، كما استحوذت عليّ من قبل شخصية (حليمة) في “حياة قاسية”- 1959- لشاكر خصباك، وشخصية (تماظر) في “النخلة والجيران”- 1966- لغائب طعمة فرمان، وشخصية “منيرة” في “الرجع البعيد”- 1980- لفؤاد التكرلي، و(بهية) في “ذلك الصيف في اسكندرية”- 1998 لبرهان الخطيب. ففي الثلث الأخير بالضبط تتخذ الرواية خطاً لها، هو خط (كريمة- سعود)، ولكن حتى هذا الخط، الذي يصير سريعاً خط (كريمة)، سرعان ما ينتهي فعلياً بعد أن صار جميلاً بشخصيته هذه، واكتسب، بأحداثه وثيمته، خصائص الخط الروائي فعلاً. هنا نعترف لنقول لو لم ينته هذا الخط تقريباً ويتلاشى ونعود إلى صور و(أحداث) وشخصيات ما قبله، لتساءلنا لماذا كانت تلك الصور والشخصيات والأحداث التي سبقته إذن؟.. وهكذا عدنا إلى (البطل الراوي) و(سعود) و(ياسين) وغيرهم.. عدنا إلى صور المدينة.
( 3 )
تعلقاً بالصور، التي هي عادةً صور أبطال لؤي، وصور الرواية، وصور المدينة، نعتقد أن الكاتب، وقد جمع كل هذا العدد منها، ولم ينتقِ منها لتكون صور ألبومه الروائي، دفع بالضرورة، من حيث يريد أو لا يريد، بهذا الخليط من الشخصيات، فكانت منها أولاً الضرورية والفاعلة والإيجابية في فنية دورها، نعني النامية، وثانياً الهامشية التي قد يصح عليها توصيف (المسطحة) ولكنها مكملة لأي عمل روائي، وثالثاً المُقحَمة أو العائمة وغير المؤثرة في وجودها وربما المؤثرة سلبياً أحياناً. نحن متأكدون بأن كل شخصيات الرواية، كما هو حال كل صورها، مهم عند لؤي وإلا ما بقيت وعاشت في ذهنه أو كوّنها واختلقها إبداعياً. لكن هذا لا يعني شيئاً تعلقاً بالعمل القصصي أو الروائي أو الإبداعي عموماً إن لم يستطع الكاتب نقل أهميتها عنده إلى أهمية عندنا وبشكل أكثر دقة أهمية للرواية. أتذكر في كتابتي لروايتي الوحيدة “دروب وحشية”([6])، التي هي جزئياً استحضار من ماضٍ شخصي أثّر في حياتي وشخصيتي، كنت أريد أن أزج بشخصية متشكلة في ذهني على معالم شخصية حقيقية أحببتها من ذلك الماضي، ولكنني استبعدتها حين عجزت عن إيجاد دور لها. لؤي حمزة عباس لم يفعل، برأيي، مثل هذا، فكانت النتيجة أنه لم يهمل صورة ولا حدثاً ولا شخصية، وإلا ما أهمية وما علاقة الحكاية التي ينقلها البحار الهندي (كومار) لسعود، مثلاً، بالرواية وهي عن شراء الهند لسفن ثلاث من شركة ما وراء البحار وإصرار البائع البريطاني على شرط الإبقاء على أسمائها- فيكتوريا، وإيلازبيث، وموبي ديك- واعتراض المشتري الهندي على ذلك؟ وما علاقة الخميني وإبعاد النظام السابق له عن العراق بالرواية؟ وما علاقة أشياء أخرى بالرواية؟ نظن الكثير منها ليست لها علاقة أو هي ذات علاقة مفتعلة بها. وكان دخول هذه الصور سيكون مبرراً لو أنه خدم في رسم خلفية الرواية، من خلال علاقتها بشخصياتها بشكل أساس، كما فعلتْ صور أخرى لها علاقة، ولكن غير مباشرة غالباً، بمسار الرواية والشخصيات، مثل قمع النظام وهنا نسجل للؤي، وتعلقاً بهذا، أن من جميل ما فعله هو تعرية النظام السابق وبعض سلوكياته، مثلاً، بدون أي شعار أو شتيمة، كما اعتدنا أن يفعل بعض الكتاب مع من يعادونهم.
وهكذا كانت المجموعة الأولى من شخصيات الصور الروائية- الإيجابية فنياً- تقتصر على شخصيتي بطل الرواية (سعود) و(كريمة) وقد تتعدى إلى شخصية الراوي. أما أهم ما تدعم هذا من الشخصيات في استكمال أناس عالم الرواية، وكان بعضها حاضراً طوالها وكان بعضها الآخر ضرورياً في حضوره بعض مراحل الرواية، فهي (يوسف) أخو البطل، و(صفاء) الأخ الاصغر للبطل، و(ياسين) صديق الراوي. عدا شخصيات هاتين المجموعتين، تتوزع البقية ما بين عابرة، لكنها قد تكتسب أهمية ظرفية أو وقتية محدودة، وأخرى مقحمة على الرواية. فمن المجموعة الأولى شخصيات أم (كريمة)، و(هلال بداي) شبه المتخلف الذي تُزوَّج كريمة به، وأبو زوجها، والبحار الهندي (كومار)، ومدرس التاريخ (طاهر) المعجب بعبد الكريم قاسم، ومن المجموعة الثانية الحاج حميد بعباءته التي تغطي عُري الإيطالية، وخال الراوي. وهنا نتساءل ونحن نميز هذه الشخصيات الرئيسة والثانوية والعابرة لماذا خال الراوي الذي احتل مساحة كبيرة من الرواية بدون مسوّغ ؟ وماذا يعني؟ ولماذا يتذكره الراوي ويحلم به؟ لا نجد لهذا من جواب ونحن لا نكاد نضع اليد على ما يهم منه للرواية، حتى إن بدت بعض مقاطع الرواية به جميلة. فأن تكون الشخصية جميلة وأن تمتلك مقاطع حضوره جمالاً ذاتياً لا يبرران وجوده في العمل.. ونحن لا نجد من مبرر واضح أو غير واضح غير أنه صورة من الماضي، وهو ما لا يجعل من هذا مبرراً كافياً، حتى وإن انتبهنا إلى كلام أمه لجدته الذي الذي يبدو وكأنه حمّال أوجه، إذ تقول لها:
“إنه يرى خاله في كل مرة يحلم فيها، كأنه العالم لم يعد فيه غير خاله. يراه يمشي ومن حوله الكلاب”- الرواية، ص21.
فمهما أخذنا من أوجهه لا نجد فيها ما يصب في الرواية.
( 4 )
الرواية مروية أصلاً من خلال وجهة نظر مَن قد يُرى على أنه البطل وأنا أراه صديق البطل (سعود). ولتأرجح الراوي بين أن يكون بين هذا وذاك، يكون مفهوماً بل متجانساً وتلقائياً أن يبدو الراوي أحياناً، وهو يتكلم بصيغة المتلكم، كأنه يتكلم بصيغة الغائب، لأنه لا يتكلم عن نفسه بقدر ما يتكلم عن الآخرين، أبطال صوره، لاسيما (سعود)، وعن تجاربه معهم وملاحقاته لحركاتهم، ملتقطاً ما يُفترض أن يكوّن جوهر صور المدينة. يعزز هذا التجانس والتلقائية ما يبن الرواية بصغية المتكلم وصيغة الغائب، أن هذا الراوي وهو يلبس لبوس راوٍ في الواقع أكثر من لبوس بطل، هو راو داخلي أي من الشخصيات. وعموماً هو يتحول، بعد أن تكون الهيمنة للرواية بضمير المتكلم، إلى الرواية بضمير الشخص الغائب بين الحين والآخر، وبشكل خاص وشبه كلي في سرد حكاية (كريمة)- ص114- 138- ليعود فجأة بعد ذلك إلى الرواية بضمير المتكلم. وعلى أية حال ربما يصعب، حتى بمعزل عن هذا الجزء، البت بما إذا كانت الرواية بضمير المتكلم أم الغائب، هي مروية بالضميرين متداخلين بشكل يبدو مقنعاً غالباً وغير مقنع أحياناً قليلة. وعموماً يبدو التداخل والتوزّع، حتى حين يكون تلقائياً وغير مدعوم بمسوغات فنية، مقبولاً إلى حد ما ، ذلك أن الشخصية الراوية إذ تروي في الأصل بضمير المتكلم، كثيراً ما تتماهى مع ضمير الغائب، أو تتحول إليه- كما قلنا. ولكنها قد تقع في ما هو عندنا محذور، نعني الانحراف بالراوي بضمير الغائب ليكون عليماً. فالكاتب، عندنا، يُخطئ كثيراً حين يسمح هو للراوي العليم بأن يدخل على خط السرد فيتكلم عن بعض تلك الشخصيات، مثل (كريمة)- ص110. وحتى إذا ما قبلنا بانتقال وجهة النظر هنا من الراوي إلى (كريمة)، فإن الراوي العليم يبقى جريئاً في تسلله بقوة في حالات أخرى ومع شخصيات أخرى، سواء أكان ذلك والرواية تنطلق من وجهة نظر الشخصية الأولى، أم وهي تنطلق من الشخصية الثانية، كما هو الحال مع مدير معمل التعبئة- ص118- و(أم كريمة) – ص134- بل مع شخصيات أخرى ثانوية، بل مع تلك التي يُفترض أن دورها يجري في خلفيات الرواية، كما هو الحال مع شخصية البحار الهندي (كومار). فها هو الراوي العليم يتمرد على وجهة نظر (كريمة) التي يُفترض أن الرواية تُروى في صفحات محدودة من خلالها، لينقل لنا:
“انتظرت ْأن تأتي أمها لتغلق الباب. تعاود سجنها، لكنها لم تأت ولم تغلق الباب… كانت الأم وهي تغرق في صمتها تنقض عن نفسها آخر ذرات مزاجها العائلي، تخلّص روحها من عنكبوت العلاقة التي طالما شعرت بها قاسية”- الرواية، ص134؟
( 5 )
أن يُسمَّي الكاتب روايته “مدينة الصور” ليس كافيا لتبرير أن يُدخل أية صورة– أحدث، أو شخصية، أو مكان، أو حكاية، أو أناس، أو تخيّل،- كما فعل مثلاً مع (حكاية ونّاس) في ص135-137، التي نعرف فجأة، وبعد مقتل أم (كريمة) دهساً بالقطار، بأن الناس قد اعتادوا روايتها، ولا نعرف، لأن أناس الرواية لا يعرفون، إنْ كانت قد وقعت فعلاً أم أنها متخيلة، أم أن لها أصلاً ولكن الذائقة الشعبية راويةً ومتلقيةً قد طورتها وأضافت إليها ما أضافت، أم هي حكاية أسطورية أو شعبية يحكيها بعضٌ لبعض أو جيل لجيل أو أهل صور الماضي لأهل الحاضر؟ و(حكاية وناس) هي عن شخصية (وناس) الذي يُقال إن الناس اعتادوا عليه وهو يسابق ركضاً يومياً أي قطار منطلق من المعقل، لكنه يختفي فجأة في أعقاب حادث غريب:
“بعد أن ترك السائقُ المعقلَ وراءه ليمضي في المساحات الرملية المعتمة لمح شبحاً بعيداً يلوح أمام القطار، كما لو كان يركض بين قضبان السكة… حدق ملياً أمامه لكنه لم ير شيئاً. في رمشة جفن تراءى له أن القطار صدم شيئاً ما صدمة خفيفة عارضة. في محطة الشعيبة شبه الفارغة قبل أن يتوجه لمكتب الناظر ألقى نظرة سريعة على مقدمة القطار. كانت نظيفة كما خرج بها من محطة المعقل… بعد تلك الليلة لم ير أحدٌ ونّاس.. لا داخل المحطة ولا خارجها، لكن سواق قطار المعقل الصاعد إلى بغداد ظلوا يُحسون صدمة خفيفة تتكرر أول الليل على مقدمة القطار قبل الوصول إلى الشعيبة”- الرواية، ص137.
بقيت لي ملاحظة شكلية آخذها على الروائي والرواية والناشر، ولم أكن لأتوقف عندها لولا أن هذا الذي تتناوله كان على جانب من الغرابة، وتتمثل في استخدام نقطة الوقف بكثرة لا سابق لها، وبشكل غير معقول وغير مبرر وغير مفهوم، وغير صحيح، بل مشوِّه، إذ هي تكاد توضع بين الفعل والفاعل، والفعل والمفعول، والمضاف والمضاف إليه، ولا أريد أن أجزم في القول ربما حتى ما بين الجار والمجرور.
وأخيراً كيف نوصّف الرواية اعتماداً على ما جاءت عليه وعلى كل ما سجلناه وقلناه لها وعليها فيما سبق؟ حسناً.. الروائي يقول في ملاحظة بعد انتهائها:
“تفيد الرواية من أحداث معلومة وقعت عبر ما يتجاوز العقد من الزمان، وأخرى لم تقع، وهي تؤاخي بينهما في إنتاج عالمها واستحضار شخصياتها التي نزلت من دروب الواقع ودروب الخيال”- الرواية، ص155.
ولأن هذه الأحداث التي وقع بعضها ولم يقع بعضها الآخر، على حد إشارة المؤلف، ولأنها بُنيت على صور تلك الأحداث وشخصياتها، نقول نحن: هي عبارة عن ألبوم صور لأناس رحل منهم ومن رحل وبقي من بقي، آلة تصويرها وعي الكاتب، وجهاز تظهيرها كلماته وأسلوبه العذب، وترتيبها وتصفحهها جاء من خلال راويه غالباً الذي قدمها لنا وكأنها أمانة بين يديه ليبقى أصحابها صوراً، وهي الأمانة التي يبدو وكأنها قد منعته من استبعاد بعضها مما لا يضيف إلى الصورة الشاملة التي يقدمها الألبوم شيئاً.. ومع هذا هو كان ألبوماً جميلاً.
[1] ) هو كتاب مخططٌ له ليكون في أربعة أجزاء صغيرة هي بمثابة منطلقات للدارسين الآخرين ولاسيما العرب غير العراقيين وطلبة الدراسات العيا عرباً وعراقيين تُعرّفهم بمحطات مسيرة الرواية العراقية في مئة عام (1919-2018)، صدر الجزء الأول منها سنة 1986 وغطى فترة 1919-1965، وصدر الجزء الثاني سنة 2009 وغطى فترة 1966-1980، وآمل أن يصدر الجزء الثالث، الذي نكاد ننجزه، سنة 2013 ويغطي فترة 1981-2002، وعسى الله أن يمكننا من إصدار الجزء الأخير الذي يغطي فترة 2003-2018 في حينها.
[2] ) لؤي حمزة عباس: مدينة الصور، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، ودار أزمنة للنشر والتوزيع- عمّان، 2011.
[3] ) خالد المحيميد: من أنواع النقد الأدبي، موقع كاتب السيناريو الأستاذ خالد المحيميد، 6 تشرين الثاني، 2009. http://khaled-m.com/
[4] ) مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1974، ص246.
[5] ) محمد عزام: شعرية الخطاب السردي، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2005، ص11.
[6] ) صدرت عن دار الشؤون الثقافية ، بغداد، 2007.