كما الريح: مختارات شعرية
للشاعر الأمريكي عفا مايكل ويفر
ــــــــــــــــــ
إن كنت نوعاً من التوابل فبرهن لي ذلك
ميسلون هادي
ضمن مشروع (كلمة)الذي تتبناه هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في دولة الإمارات ،والذي يهدف الى إحياء حركة الترجمة في العالم العربي ،صدرت مختارات شعرية للشاعر الأمريكي( عفا مايكل ويفر) بطبعة أنيقة سميكة الغلاف، عنوانها (كما الريح)وتتضمن ثلاثاً وثمانين قصيدة مختارة من قصائد الروائي والمسرحي والشاعر الامريكي عفا ويفر ،الذي أصدر عشرة دواوين شعرية منها (طلاسم) و(أزهار البرقوق) .
هذه المختارات ،حسب ماجاء في مقدمة المترجمة وصال العلاق ، هي قصائد مختارة لشاعر فريد نال إعجاب الكثيرين لدى ترجمته إلى لغات العالم الأخرى.قصائده تتناول موضوعات ذات طبيعة بسيطة وشخصية لكنها مشحونة بالإيحاءات التي يمكن أن يفسرها أو يفهمها القارئ بطرق عدة .كما تتوقف المترجمة بانتباه أمام تجربته الشعرية كونها تبدو محتشدة بموضوعاتها المباشرة إلا أن لغتها صعبة المراس وقصائده كالخيول البرية متمردة وعصية على الترويض ..
ونحن نقرأهذه المختارات نجد الشاعر ويفر ، يهتم فعلاً ،كأغلب شعراء الحداثة ،بتفاصيل المحيط وتضاريسه اليومية البسيطة ويقرأ بعينيه المتأملتين أسرار ولغة الكائنات من وراء الحجب التي تصنعها حواجز الألفة والاعتياد..إنه يخترق الحجر بنظرات ثاقبة ،ويكشف في الوقت نفسه عن حنانه وسعادته وشغفه بالحياة..وما أجمل تحديه الطفولي لطعم حاذق يريده تغيير مذاق لسانه الضجر:
إن كنت نوعاً من التوابل ،
فبرهن لي على ذلك.
ولتعبث الحياة في شئ ما
يقبع فوق لساني الضجر.
يحمل الشاعر عصاه للتجوال بين لذات الحياة ومباهجها ..مرفهاً بحكمة الشيوخ وغير يائس.. ولكنه يغمر بالأيمان والعاطفة كل شئ ويجعلنا نرى أن الرحلة الطويلة علمته الإنتباه إلى مالاينتبه إليه الآخرون وهاهو في مكان آخر يتحدث لنا عن شئ ما يراه كل يوم ولكنه ينظر إليه في القصيدة كما لو كان يراه للمرة الأولى :
إنها صلبة بعض الشئ ،غير أني احملها برفق
كي لاتتكسر أطرافها في يدي،
قد أخفيتها عن الشمس خشية ان تكون قد
نالت كفايتها من الحر
وهاهي الآن مغلفة بهذا الغطاء النظيف كي لاتلتقط
مايعلق في الهواء ،أو تلوثها الابتسامات الزائفة
………….
فهي لاتعلم سوى ماعرفته في منزلي ،
ولادراية لها بماهو غريب عن الحب
…………
وفي خاتمة القصيدة نكتشف أن ذلك الشئ الذي يصفه الشاعر بكل حنان ما هو إلا كسرة خبز.
الشاعرالذي ولد في أمريكا وعاش فيها ، يكتب قصائده بكلمات قليلة بل هي أقل مماينبغي أحياناً ،وقضية أبناء جلدته من الزنوج تشغل حيزاً واضحاً من همه الشعري فتجري الحماسة في عروقه عبر قصائد مشحونة بمشاعر وتداعيات غير مباشرة، وأحياناً غير مفهومة للقارئ ، ولولا الإشارة في عناوين القصائد ،لما عرفنا أنها رافقت أحداثاً سياسية عاشها الشاعر كمقتل مارتن لوثر كنغ عام 1968 ،أو عايشها عبرقراءة التاريخ كاغتيال إبراهام لنكن في واشنطن عام 1865،بيد أنه في قصائد أخرى يعالج النظرة العنصرية والتفاوت الطبقي والاجتماعي في المجتمع الأمريكي عبر قصائد ساخرة معجونة مع نبض الحياة اليومية:
كانت أمي تستخدم الهاتف لتغيير صوتها حين تطلب شيئاً ما
من محلات سبيرز ،فتصبح ألفاظها سليمة مهذبة ومصطنعة
ليس التصنع من طباع ماما ،
لأنها لم تكن كذلك
عندما تكون برفقتنا،
وحين تتكلم هكذا
أدرك على الفور أنها تتحدث إلى شخص أبيض.
رجوعاً إلى كلمة الشاعر في المقدمة والتي تقع أيضاً ضمن دائرة الشعر، يشير ويفر ، إلى كتابته شعراً تجريدياً وشكلانياً وقصائد تجريبية ،لاتتسم بالتقليدية من حيث التركيب والبنية ،وإنه بسبب ذلك المدى الواسع الذي يمتد الى ثقافات أخرى في نبرته الشعرية ،فإنه يوصف بكونه الخليفة الأفرو أمريكي للشاعر والت ويتمان.
القصيدة التي تحمل المجموعة اسمها (كما الريح) ،تتحدث عن دورة الحياة عبر الأجداد والأحفاد..ويهديها إلى حفيدته ماريا وفيها يعبر عن روح تجربته الشعرية بمجملها والتي تمر من الذات الواعية إلى الوجود عبر العاطفة الجياشة وليس المعرفة الحسية فقط ..يقول:
في وجنتيك ألمح وجنتي أمي ،
أرى عيني أبي في مقلتيك،
ويدا جدتي أراهما في كفيك الصغيرتين،
وفي قدميك آثار من خطى جدي ،
أمسك بك بين ذراعي ..وانت مجموع حيوات عديدة.
حياة تعرفينها دون ان تتذكري منها شيئاً،
حياة تركتها عند ضفة النهر القديم كي تولدي،
من أجل ان تاتي إلى هنا وتجعلي مني جداً.
في خاتمة المختارات ثمة قصائد قصيرة مكتوبة بطريقة البرقيات المقتضبة وتحمل الأرقام في عناوينها بدلاً من الكلمات وهي منتقاة من ديوانه (أضواء الله) ..نقرأ منها:
تمسك بالجسد،باللهب،وبالرماد
فالحقيقة تكمن في البدايات والنهايات.
بعد المأساة ،كم ملاك يحتشد على أصابع الأعذار والتبريرات.
يضيع المغزى كما تضيع الارواح تماماً،حين نوغل في التفسير.
المترجمة وصال العلاق ،التي تحمل شهادة الماجستيرفي الترجمة وأنجزت مشروعين للترجمة الشعرية،تعترف لنا في مقدمتها الجميلة بالرجوع الى الشاعر واستشارته حول القيام ببعض خيانات الترجمة البريئة للنص من أجل إيصال جوهر القصيدة لاشكلها فقط .. ..وفعلاً نجد أنه قد كان في قصائد الشاعر من التحدي ،ما يجعل مهمة الترجمة مناورة صعبة من أجل إبداع نص آخر من الظلال يستطيع التعبير بشكل مواز عن كلمات القصيدة ويعادلها شعرياً في الوقت ذاته ..ولولا هذه الحساسية الفائقة للإشارات الشعرية في النص الأصلي لبدت قصائد هذا الشاعر المتميز عند نقلها إلى العربية على غير ماهي عليه الآن من احتشاد بالوجود لشاعر غير عبثي شغوف بالحياة.
الجدير بالذكر، أن هذا هو الكتاب الثاني للمترجمة وصال العلاق وسبق لها أن أصدرت كتابها الأول (كلنا في الليل شعراء سود) وهو أيضاً مختارات شعرية مترجمة للشاعر الأفرو أمـريكي إي. أثيلبرت ميلر.