كتـب حتى لايطعن احداً بالسكين

كتـب حتى لايطعن احداً بالسكين!
الكتاب: رقعة الشطرنج والرجل العاري
ميسلون هادي
لم اقـرأ منذ زمن طويل قصصاً بطرافـة قصص مجموعة فـرنـانـدو سابينـو «الرجـل الـعـاري»، التي ترجمهـا إلى العربيـة مؤخراً المترجم عوني ابراهيم الديري، مع سيرة ذاتية
موجزة للكاتب، هي بحد ذاتهـا قصة أخرى لاتقـل إمـتـاعـاً عن قصص الكتـاب الثمـاني والعشرين. أي أن الكتاب الذي بين أيدينا هو كتابان جمعهما المترجم في كتاب واحد، الأول السيرة الذاتية للكاتب (رقعـة الشطرنج)، وتاريخ صدوره كما جاء في المقدمـة هـو عـام١٩٨٨ والثاني إحدى مجموعاته القصصية «الرجل العاري»، وتاريخ صدورها لم نعثر له على أثر.
وقبل أن اقدم هذا الكتاب للقـراء، لابد من الإشارة إلى ظروف قراءته باعتبارهـا تقع في صلب أسباب هذا التقديم.. ذلك أني وبسبب من قلق نفسي شديد لازمني لفتـرة طـويلـة،
سحبت هذا الكتاب من المكتبـة، بـعـد قـراءة هامش الشاعر سامي مهدي الذي يذكر بـه
قصص هذه المجموعة، بإشارة مشجعة (وهذه أكبر ميزات الأعمدة المقروءة) ، كانت الساعة قد قاربت الواحدة ليلا، عندما أخذت الكتـاب فاذا به من ذلك النوع من الكتب الذي لا يمكنك أن تدعه من يدك حتى تفرغ منه، وهكذا قضيت الليل كله أضحك مع هذا الكاتب البرازيلي الساخر حتى إذا حل الصباح، وجدت القلق الذي كان يلازمني قد تبخر.
إنه لمن المألوف أن تجعل الآخرين يغرقون في الضحك عندما تروي لهم نكتة قوية بكلماتك وحركاتك وقدرتك على التمثيل، ولكنها مقدرة غير اعتيادية أن تنتزع الضحكـة من نفس الجمهور، عبر كلمة مكتوبة لا تمتلك من وسائل الايضاح غير قوتها التعبيرية حسب. وتعلقاً بقصص هذه المجموعة فان الحد ـالذي يفصل بين كل قصة، كونها عملا أدبياً أو مجرد نكتة مكتوبة، رفيع كالشعرة.. ومع ذلك فالكاتب لا يخاف أن تنقطع هذه الشعرة ويمضي في لعبة السخرية إلى أبعد الحدود .. إلى حد اللامبالاة من احتمال وصفه بمجـرد كـاتب (صحفي) ساخر أو راو ماهر للطرائف.
والقصة باختصـار أن رجلا عـارياً وقبـل دخوله إلى الحمام، جازف بخطوتين فقط خارج شقته من أجل التقاط لفة الخبـز التي تركهـا الموزع عند المدخل الخارجي للشقة.. ولكنه ما أن فعل ذلك حتى انغلقت باب الشقة خلفـه، نتيجة دفعة هواء قوية، وعندما يدخل المصعدالمقابل للشقـة، لكي يداري هذا المشهد عن عيون خادمة تصعد السلم، فأن باب المصعد ينطبق ايضـاً عليـه ويهبط بـه المصعد إلى أسفل!!!
على منوال هذا النوع من المواقف بيسج الكاتب قصصه القصيرة (جدا) بعناد مسبق عـلى مشاكسـة المألوف والسخريـة منـه أو الضحك عليه بصوت عال… يقول الكاتب في سيرته الذاتية:
«أكتب حتى لا أحتاج التمدد على أريكة طبيب نفسـاني.. فـإذا كنت قـد كتبت مثـلاً قصة
بعنوان «السكين ذات الحدين» فربما أكون قد فعلت ذلك لكي لا أطعن احداً»، ويقول في مكان آخر: «عندما كنت حدثاً اكتشتفت أن لي مـوهبة كذاب.. فبينما كنت أحكي لرفاقي عن قصـة قرأتها أو فیلم شاهدتـه، كنت أذهب ممعنا في الاستنباط مبدلاً في النهاية، مضيفاً شخصيات وأحـداثاً، ومغنيـاً العقدة، وباختصار كنت أساعد الكاتب.
وفي مكان ثالث يقول:
أعتقـد بأن الكتـابـة هي في الأسـاس الإتلاف.. إتلاف الـزائـد، وتجنب التكرار، والأصداء، والأحداث المتشابهة، والأمكنة العامة المشتركة، وعلى الأخص المبالغة، وهذا يبرر لنا هذا الاقتصاد الهائل في الكلمات (يتراوح طول القصة بين صفحتين إلى أربع صفحـات) أما قضية اتلاف الزائد التي يشير اليها سابينو، إنما تخص كتابة الرواية أكثر من اختصاصها هذا النوع من القصص، لأن هذا النوع الذي يقام على المفارقة البحتة والضربة الأخيرة قد يفقد عفويته بالتنقيح الزائد، ولا يمكن كتابته إلا دفعة واحدة، وتحت تأثير قوة الفكرة التي تهبط عـادة مكتملـة عـلى الكـاتب دون الحاجة إلى الخوض في تفاصيل وفضفضات، أو البحـث عـن شخصيـات وعقـد ومحـاور للصراع.. ولأنهـا كذلك، فلا غرابة أن نجـد الكاتب يعترف في مكان آخر من سيرته الذاتية، ويتحدث عن فترة بقائـه ملحقاً ثقافياً في السفارة البرازيلية في لندن!
-كنت أرسـل قـصـة في اليـوم لصحيفـة «جورنال دو برازیل» وقصة أسبوعية لمجلة «مانشيت» وقصة شهرية لمجلـة «كلاوديا» وكنت اقرأ قصة أخـرى كل ثـلاثاء في إذاعـة لندن.. لقد تحولت إلى مخبز ادبي حقيقي.
ولكن الغرابة في أن يقول كاتب غزير من هذا النوع أنه كان يجهد نفسه بالبحث عن الكلمة المناسبة أو اللفظة المعبرة أياماً او أسابيع من أجل قصة يقرؤها القارىء في دقائق .
ألف باء
16-10-1991

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *