قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات

   ميسلون هادي

 طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة قرب سكة القطار.. وكان الطارق هو ضابط الاستخبارات الذي يريد أن يجري تفتيشاً دقيقاً في المنطقة المجاورة للسكة، بينما زميله النقيب في وحدة تفكيك المتفجرات يفككك عبوة لاصقة في السيارة المسروقة. ولما رأى الورقة في يدي، سألني ماذا أعمل.. قلت: له أنا كاتب، وهذي قصة جديدة أكتبها. نظر إليها من فوق.. وقعت عيناه على كلماتي كيفما اتفق.. بينما كانت فيروز تغني.. (إنت يا اللي بتفهم عليه سلّم لي عليه.. وبوَس لي عينيه.. وهو ومفتحهم عينيه).. ضحك الضابط وقال: كيف يمكن تقبيل عيون مفتوحة؟.. وراح يقرأ بصوت عال، بعد أن أستأذنني بأخذ الورقة من يدي قائلاً إنه كاتب مثلي ولكنه شاعر وليس قاصاً..

    “والآن سيداتي سادتي ستروْن كيف أتحول إلى أضخم تمثال في البلدة.. ولكن لاااااااااا.. لا تستطيع ذلك، فأنت صغير الجرم ضعيف البنية.. إذن سأثبت لكم شيئاً آخر.. أرأيتم هذا الزر الأبيض هناك.. سأنقر عليه وأعود طفلاً في الروضة.. هيا انظروا.. يا بط يا بط إسبحْ بالشط.. قل للسمكة أتت الشبكة.. ميلي عنها تنجي منها.. ها قد أتى الشص مثل اللص.. ها ها ها ها ها.. هذا رائع جداً.. ولكنك تبدو كالأحمق وأنت بهذا العمر تغني يا بط يا بط إسبح بالشط.. حسناً اسمعوني جيداً.. سأغني لكم الثعلب فات فات وبذيلو سبع لفات.. لا.لا.لا. غناء الأناشيد المدرسية لم يعد مناسباً وأنت بهذا العمر، وستكون الجائزة محجوبة لهذا العام… لأن الأفكار نمطية وإنْ كانت مغطاة بالفستق.. آآآآآآآه حسناً.. إذا لم تكونوا تريدونني أن أغني لكم شيئاً حتى ولا النشيد الوطني.. فلأرقص على الأقل رقصة البجع.. ها ها ها راااااائع.. جميل جداً.. ولكن البجع لا يرتدي الملابس.. ولا يزرر القمصان المصنوعة من القماش، ناهيك عن أنه حافي القدمين ويعيش قرب البحيرات الرقراقة التي يمتلئ قاعها بالحصى والقواقع والحشائش. أما قرب الجبال الشاهقة حيث تعيش الغابات العذراء، فيمكنك رؤية النسر الأسود الذي يطير بين الأشجار وقمم الجبال، وعلى مقربة من تلك الغابات يخترق سرب البط البري الحدود بين أسبانيا والبرتغال.. يعني يعبر هذه المناظر الرائعة إلى مرتفعات زاغاروس في بلاد الأناضول، فيرى تحته اللقلق الأسود وهو يبني عشه في المرتفعات ليسهل عليه النجاة من الزواحف الباحثة عن الطعام.. فوق رأسه يحلق عقاب جارح.. وفي الطريق الى المنحدرات الخطرة سيجد نهراً خصباً تحيط به الأعشاب والزهور البرية.. هناك تعيش مجموعة كبيرة من العصافير والحساسين وطيور الحمام.. وقد هجعت في الليل البارد الذي خرجت فيه الخفافيش من فتحات الكهوف، فجاء الباز ذو الذيل الأحمر واعترض مسارها الأهوج ليخرج بفريسة عمياء.. وقبل أن ينتصف النهار يكون السرب قد توجه إلى الممرات الصخرية الضيقة التي تنتشر بين الجبال.. وطار فوق أفضل المناطق المأهولة بالعقبان والصقور والحدآت والشواهين وباقي الطيور الجارحة.. كل المخلوقات تحتاج الى الهواء.. النسر والأفعى وحتى دودة الأرض… ولا تخرج أفاعي الماء من منازلها إلا في الليل… وذلك لكي تتجنب أعداءها من النسور والصقور والعقبان.. وعندما تشعر بحركتها تغطس في الماء ثم تختفي.. هذا لا يعني انها غير موجودة.

كل يوم تقريباً تهبط تلك الطيور من السماء لأكل الأفاعي أو السمك أو صغار الماشية.. وإذا انقلبت على ظهورها أثناء الطيران تنعكس الدنيا رأساً على عقب فترى السحاب وهو يتصفح السماء بدلاً من صورته التي تعبر بين أقدامها على صفحة النهر، ثم يختفي السحاب من السماء وتعود الأرض لتظهر مرة أخرى وعليها أرنب بري يعدو مذعوراً إلى دغل كثيف ينتشر حول منتزه تبحث فيه القنافذ عن الحشرات، ومن الممكن أن يكون هناك في محيط المتنزه أسراب من الحمام الزاجل، ومجموعات أخرى من العنادل والهداهد وطيور الطهيوج…. أو قد تظهر بعض الأديرة في مداخل الوديان وفوق الجبال.. ذائبة مع أشجار الصنوبر والزان والقيقب.. وفي المروج سيمر الدجاج البري باحثاً عن الديدان والبذور مع الأوز المصري وبط الصواري المعنق، وعند اجتياز السرب تلك المناطق الشاسعة إلى البحيرات الضحلة، سيرى دجاج الماء وهو يتشارك شواطئ الغدران مع الكروانات والقُبّرات والنوارس.. والعندليب أيضاً يحب العيش قرب الأنهار العذبة مثل الغرانيق وطيور البجع.. وعلى صفحات الماء الساكن ستنعكس صورة سرب البط البري وهو يجتاز السماء إلى السماء، بينما يسير الناس على أرض يابسة شبه مستوية تتخللها جدران من الكلس والإسمنت وتجاورها قباب ومنائر عالية تنهض من هضاب بنية اللون يكثر فيها شجر النخيل وأخرى خضراء مزروعة بأشجار الزيتون..

    أهلها يعيشون في عدة قرى تحافظ على الهندسة والتاريخ والمعتقدات… ويعتقدون إنهم يتمتعون بالحكمة والأخلاق الحسنة.. لازالوا يمتلكون فطرة الواحات حتى وإن استبدلوا أوراق الغار بصابون اللافندر المستخلص من روح البنفسج . وعندما يحل الليل الدافئ.. لن يكون هناك سوى عيون تنام.. أفكارها هي التي يجب أن تنكتب.. ولكنها محمية داخل رؤوسهم التي تحفظ التقاليد.. والجو عندهم معتدل الحرارة، وأحياناً مشوب ببعض الغبار الخفيف، وقد أخبرهم المتنبئ الجوي بأن المطر سيهطل عليهم خلال اليومين القادمين شآبيب ومدراراً.. ففرحوا بمزنة الربيع تلك وراح البعض منهم يشاهد مقتطفات من أرب آيدول، والبعض الآخر يتفرج على لعبة لكرة القدم بين بايرون ميونيخ ومانجستر يونايتد.. جميعهم يتفرجون.. الطبيب والأستاذ وعامل الطين وربة البيت والفلاح البسيط.. وإذا تشوش البث يصعدون إلى الطوابق العالية لتعديل الصحون العملاقة أو يرفعون أنظارهم إلى الجدران البيضاء التي تكشف عن عدة صور قديمة لثلاثة فتية من خمسة بيوت متجاورة لن يكون لها وجود بعد قليل.. واحدة لباسل التُقطت له في سفرةٍ إلى كربلاء عام 1975، والثانية لحسان وهو يلعب كرة القدم في المدرسة عام 1970، والثالثة لباسل وحسان ومعهما كامل الذي هاجر إلى عمان قبل نشوب الحرب عام 2003… الثلاثة يرتدون أرواب التخرج ويجلسون في حديقة المنزل التي زرعت للتو بأربع نخلات وخمسين وردة وشجرة زيتون.

 يقول خبراء الذاكرة إن الألوان الدافئة في الحدائق، مثل درجات الأحمر والبرتقالي والأصفر الغامق والقرمزي الفاتح، تحفزك ذهنياً وبصريأ أكثر من الألوان الهادئة، لأنها تحتفظ بلونها كما هو في ضوء الشمس أو الظل… تتكرر ولا تتغير.. هكذا هي ألوان الطبيعة وأسرارها معروضة على الملأ ولا تعمل ضد مصلحة أحد.. ولكن من الممكن أن تتحول ألوان الإنسان وأسراره إلى قصائد وقصص أو إلى أصوات مدمدمة لا حدود لها… وماهذه الأصوات سوى ضجيج طائرة الأف الثانية والعشرين التي تحاكي الصقر وقوته العظمى في الجو، لقصف بيت بعيد العنوان تعيش فيه صغار المخلوقات الأرضية السمراء.. فهذه المخلوقات، حسب ظن الزائر الإستعماري المستمر، ليست ذكية بما يكفي للبقاء.. وبعد كل حرب ضروس تدور من أجل مناطق النفوذ والنفط والطاقة، تستمر أساليب التمويه الجهنمية لتبرير تلك الحرب التي قامت بحجة نشر حضارة الغرب المهروسة بالحليب.. وثمة أكاذيب أخرى لبوش وبلير، رددتها حتى إذاعة البي بي سي المعنية بالصدق، فلم تقم بما ينبغي لفضحها بدلاً من تضخيمها وذرها كالطحين الكيمياوي فوق رؤوس الجميع.

حدث ذلك بعد أن ارتفع سرب البط البري فوق منطقة البحيرات الثرثارة متجهاً نحو مشرق الشمس ليقضي أواخر الشتاء بين البرك والمستنقعات.. وقبل عبوره دورة النهر الدافق باتجاه الجنوب، انفتحت تحته صفحة الأرض عن أكوام متفجرة من الآجر والغبار والزجاج وفوقها طائر سنونو يتقلب وينوح فوق الركام الذي جرف بيضاته الأربع ودفن عشه بين أنقاض المنازل المقصوفة.. كان قد عاد وقت الربيع إلى عشه الأزلي في الزاوية الركنية لحديقة البيت الذي التقطت فيه الصورة الثالثة أيام الثمانينات، فظهرت أنثاه على الصفحة الأولى لجريدة بريطانية تطبع نصف مليون نسخة يومياً.. وهي تحوم حول حمّام دم في بلاد ما بين النهرين.. الصورة التقطت بالأبيض والأسود بعد لحظات من رحيل باسل مهروساً بصواريخ سرب الطائرات الحربية.. ثم العثور عليه مدفوناً تحت أنقاض الحديقة، ليلتحق بصديقيه العزيزين عليه، حسان الذي فُقد في الحرب مع إيران، وكامل الذي فارق الحياة في عمان..  وهذا هو حال الدنيا في تلك الديار التي لا تعرف سوى الخلود أو العدم”.

    قال الضابط الذي كان يقرأ بصوت عالٍ، لامتلاكه متسعاً من الوقت لتفتيش بيت أخير: “لا أستطيع أن أكتشف ما تريد قوله عندما تكتب هذا الكلام؟ نحن نقيس الأشياء بنتائجها وأنتم تقيسونها بالأسباب. فهل أنت في هذه القصة تضع كل شيء تحت المجهر وتنظر له من قريب لتعرف أسبابه؟”. ولم أكن أنوي الإجابة على هذا السؤال سوى ببعض التمتمات والهمهمات المبهمة، ولكن، حتى قبل أن أهمهم بها، انفجرت السيارة الذهبية فوق النقيب، فصرخ ضابط الاستخبارات: انتهى كل شيء.. أظن أننا خسرنا.. انتهى كل شيء..أظن أننا خسرنا.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة هات ماعندك

هات ماعندك ميسلون هادي استيقظتُ يوم الخميس على صمت غريب يتدفق بكميات كبيرة من كل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *