نقار الخشب
ميسلون هادي
أطباق الحلوى أمامهم.. وخلفهم أشجار القيقب العارية تبدو من نافذة الغرفة وقد جردها الخريف من أوراقها، كأنها صورة فوتوغرافية قد نشرت منذ زمن بعيد في صحيفة يومية، ولولا بضعة سناجب تصعد وتهبط على جذوعها لأصبحت مختفية تماماً عن الانظار مثل نساء عجائز لم يعد يراقبها أحد.
بين نافذة الغرفة ومائدة الطعام ثمة منضدة مدورة عليها مصباح منضدي صغير وآنية مليئة بالمفاتيح وهاتف خلوي ظل صامتاً طوال الوقت. هم أيضاً كانوا صامتين، ووحدها ضربات نقار الخشب على إطار النافذة كانت مسموعة للجميع. قالت لورين:
- ما أجمل لونه الأزرق!
انساب صوتها الناعم كالماء الرقراق بين الحاضرين الخمسة، ولكن الكلمات نفسها لم تكن مفهومة، وربما لورين نفسها لم تكن مرئية بالنسبة اليهم، شأنها شأن أشجار القيقب العارية، ما دام الجميع كانوا منشغلين بوضع الحلوى في الأطباق، وهم يغادرون مائدة العشاء ببطء حيث لم يعد للديك الرومي من وجود سوى قليل من الجلد والعظم وبقايا أجنحة. أما الرؤوس الصغيرة ذوات المناقير المدببة فمن المحبذ عدم وجودها أمام العيون أو فوق المائدة أو حتى أثناء شراء الطيور جاهزة للطبخ، إذ تُباع في المحلات الكبيرة نظيفةً ومجمدةً ومقطوعةً الرؤوس، داخل أكياس من النايلون.
أكثرهم كانوا شاكرين، في يوم عيد الشكر لوجودهم أحياءَ وسالمين بعيداً عن بلادهم التي غادروها بسبب المشاكل والحروب، قادمين إلى لوس أوكسفورد بحثاً عن الراحة والأمان..
قال ديمتري عازف البيانو، وكان قادماً من أوزبكستان:
- ماذا قالت لورين قبل قليل؟
لم يرد عليه أحد. وكانت لورين منشغلة برفع بقايا الديك الرومي من المائدة، فأجابت جوان ، وكانت تعمل خبيرة للتغذية، نيابة عنها:
- قالت ثمة نقار خشب على النافذة، ولونه جميل.
وكما يحدث دائماً في مثل هذه اللقاءات التي يتغلب فيها الطعام على الكلام، فإن الجواب تسمعه الآذان وتقرأه العيون، ولكنه لا يصل إلى الرؤوس المأهولة بالأفكار إلا بعد محاولات متكررة من مضغ السؤال.
ألقى ديمتري نظرة عابرة إلى النافذة، اخترقتها كالسهم الذي سرعان ما ارتدّ إلى داخل الغرفة حيث ارتطمت سكينة المهندس الصيني يان، القادم من لاسا عاصمة التبت، بالأرض بعد أن جلس سلام، الشاعر القادم من بغداد بشكل مفاجئ وعنيف على الأريكة. قال ديمتري:
- في طاشقند يعني سقوط السكينة على الأرض أن ضيفاً رجلاً سيأتي، وإذا كانت الملعقة هي الساقطة فإن القادم هو امرأة.
قال سلام الشاعر لنفسه “يا لها من عرّافة عجوز، لكشف المستور، طاشقند هذه! ” فما هي إلا دقائق معدودة حتى شخصت العيون أنظارها تبحلق في ديمتري، وفغرت الوجوه أفواهها بالإعجاب عندما رنّ جرس الباب بعد ثوان من سقوط السكينة، وجاء القادم رجلاً بالفعل، وكان غاضباً وفظّاً وهو يقول للورين:
- ألم أقل لك أنْ تنتظريني تحت الساعة؟
فزعت لورين، ثم شهقت باهتمام وقالت:
- يا ألهي! لقد نسيت.. أنا آسفة.. أرجوك سامحني.
ثم التفتت يمنةً ويسرةً من شدة الارتباك، وقالت:
- لا تهتم.. سأجلب لك طبق العشاء في الحال.
قال الرجل:
- أنا لست هنا من أجل العشاء.
انتبه جميع الحاضرين إلى أن القادم ذو شبه كبير بإلبرت إينشتاين وأنه لا يريد الدخول إلى البيت، وإنما الاكتفاء بالوقوف قريباً من الباب. التفتت لورين صاحبة الدعوة الى الحاضرين وهمست :
- من هذا؟ من دعاه؟ أنا لا أعرفه.
قال الشاعر:
- في الحقيقة، أنا الذي دعوته.. سامحيني.
لورين اختفت من الغرفة.. وحلّ محلها إلبرت الذي كان لا يزال واقفاً قرب الباب، بعد أن أغلقها خلفه، وشعره الأبيض المنكوش يكاد يلامس سقف الشقة الذي بدا واطئاً إلى درجة كبيرة، وغير مناسب لرجل ضخم مثل إينشتاين. كانت جوان لا تزال تنظر إليه باستغراب، فهمست لسلام الشاعر هذه المرة:
- هل نحن في عيد الشكر أم عيد الهولوين؟ من هذا الرجل؟
قال سلام:
- كلما فكرت كم قصيرة هي الحياة، تذكرت صاحب النظرية النسبية فيظهر في الحال.
قالت جوان:
_ هل هو ساحر أم ماذا؟
قال سلام :
– انه فيزيائي ويستطيع أن يفعل أي شئ . أنظري كيف ظهر الى الوجود بمجرد أن فكرت فيه.
قال المهندس يان:
- أنا أيضا تذكرته عندما هبطت إلى المطار، هنا في أوكسفورد ، وقالوا لي إن عمرك قد نقص ثماني سنوات عما هو عليه في التبت.
قال سلام:
- أحقا هو كذلك؟ ما رأيك يا جوان؟
قالت جوان، وهي لا زالت تنظر إلى الرجل الواقف قرب الباب:
- تفضل يا إلبرت.. ألن تجلس؟
لم يجبها الرجل فالتفتت جوان إلى سلام، وقالت وعيناها تتنقلان بينه وبين يان:
- هل قلت إن الحياة قصيرة؟ يمكنك أن تفعل كما يفعل المعمرون في التبت.. إنهم يقشرون الثوم ويأكلونه على الريق.
قال الشاعر:
- ولكنهم ماتوا في النهاية.
قال ديمتري بكلمات سريعة وحازمة:
- هل الخلود هو ما تفكر به؟
قال سلام:
- ليس الخلود هو ما أفكر فيه، ولكن الموت.
قال ديمتري، وهو لا يزال منفعلاً:
- وماذا يعني؟ موزارت أنجز أحلى أعماله، ثم مات وهو في الخامسة والثلاثين.
قال الشاعر:
- هذا ما أفكر فيه. كان يجب أن يعيش للمئة وبصحة جيدة وأن ييدأ حياة أخرى بعد الخمسين، يتمتع فيها بما صنعت يداه.
قالت جوان:
- هذا يستدعي الحديث عن غذاء المعمرين مرة اخرى .. إنه الخضروات الطازجة والزبادي والسمك والشاي والبصل والثوم .
ظل الشاعر غارقاً بأفكاره، بينما الشمس تميل إلى الزوال، فقال وكأنه يحدث نفسه:
- ليس هذا ما أفكر فيه.
ثم نظر الى اينشتاين الذي كان يضحك فوجد سقف الغرفة أصبح أوطأ من قبل حتى ليكاد يلامس رأسه فقال له الشاعر:
- ان العمر قصير فاين الحل؟
قال اينشتاين وهو يضحك:
- السنوات الضوئية هي الحل.
قالت جوان:
- وكيف ذلك؟
قال إلبرت وهو يضحك:
- إذا سافر أحد توأمين في مركبة فضائية تقارب سرعتها سرعة الضوء، فسيكتشف بعد عودته إلى الأرض، بعد خمس سنوات بتوقيت ساعته، مرور خمسين عاماً على توقيت الأرض، وسيجد أن أخاه التوأم قد كبُر خمسين عاماً، في حين لم يزد عمره هو سوى خمس سنوات.
شهق ديمتري وقال:
- هذا أكثر رعبا من الموت.
ضحك يان وقال:
- تخيلوا سور الصين العظيم مملوءً بالبشر الذين يعيشون منذ آلاف السنين، ولا يفعلون شيئاً سوى الوقوف والنظر الى العدم ، لأنهم سيكونون قد ضجروا من كل شيء، وأصبحوا يتمنون الموت.
وقفت جوان، خبيرة التغذية، وقالت وهي تنشر ذراعيها في الهواء قريبا من السقف :
- يمكنكم ببساطة أن تتخيلوا أنفسكم شجرة.. فإذا سقطت عدة ورقات منها إلى الأرض وداستها الأقدام، فإن الشجرة لا زالت قائمة.
ثم التفت الى اينشتاين وقالت:
- لماذا انت واقف وتضحك؟
فرفع الشاعر رأسه وقال نيابة عن اينشتاين:
– يضحك لانه هو نفسه مات في النهاية.
كان إينشتاين قد اختفى مع عودة لورين وهي تحمل في يدها أكواب القهوة والشاي، كما عادت ضربات نقّار الخشب على النافذة من جديد وأصبح سقف الغرفة اكثر علوا من قبل. قالت لورين:
- لماذا تتحدثون عن الموت؟ تعالوا وانظروا إلى هذا الطائر الجميل.
قال سلام:
- لا زالت شابةً بالطبع، ولا يمكن للموضوع أن يشغلها.
قالت وكأنها لم تسمع رد الشاعر:
- ماأجمل الريش فوق رأسه، وهو يتصاعد مثل التاج! وما أرق ألوانه، وهي تتدرج من الأزرق إلى الرصاصي! وانظروا إلى جناحيه المكحّلين باللون الأسود.. يا إلهي، ما أجمله! لماذا لا تنظرون إليه.
قي تلك اللحظات حمل الجميع أكوابهم واقتربوا بحذر من النافذة للنظر إلى تلك الألوان الجميلة التي تلون ريش نقار الخشب من الرأس وحتى الذيل، بينما كان الشاعر يفكر بأن عشرات ديدان الأرض تموت الآن بين منقاري هذا الطائر الجميل.