وحش الشاشة !
أو (لوحة بالمقلوب)
لا أدري قبل أن أكتب هذه القصة لماذا تذكرت خبراً قرأته في صحيفة، عن لوحة لفنان مشهور، كتب النقاد بحقها مئات المقالات والأطاريح، وأهدروا من أجلها جراراً من الحبر والجهد، ثم جاء أحد الهواة الأثرياء ليشتريها ويعلقها في بيته بالمقلوب! ولا أريد أن أستبق ناقداً جديراً بالثقة، وأقول أنه لا بد ثمة علاقة بين ذلك الخبر، وهذه القصة، ولكني لا أستطيع أن أراها بوضوح إلا بعد أن ينبهني هو إليها!.
إن لديهم دائماً ، أعني النقاد الجديرين بالثقة، تعابير جاهزة من هذا النوع لكي تقال بحق أية قصة سواء كانت عظيمة أو بسيطة.. وبالرغم من أن (ماركيز) نبههم أكثر من مرة إلى أن الديك في احدى رواياته هو ديك ليس إلا، فإنهم لا زالوا يحمّلونه ما لا طاقة له به من رموز وتفسيرات واحتمالات … هكذا يمارسون وظيفتهم كما يمارس الآخرون وظائفهم، وأنا لا أكتب هذه القصة نكاية بهم كما فعل الهاوي مع اللوحة، ولكني أفعل ذلك لأني مللت كتابة قصص من منطقة الخيال،وأردت أن أكتب هذه المرة قصة حدثت فعلاً .
إنها ببساطة قصة جدي مع فريد شوقي، أو بالأحرى قصة فريد شوقي مع جدي، إذ يقال أنه لا يجدر بك أن تقول أني صديق الملك بل يجب أن تصبر على الملك حتى يقول أنه صديقك ! وهذه القاعدة أيضاً لا علاقة لها بالقصة التي أرويها لكم الآن .
جدي هذا رجل طريف للغاية .. يجلس دائماً وهو يرتدي جلبابه الأبيض النظيف على (كرويت) أبيض في (طرمة) المنزل، فتحسبه جزءً منها أو إبناً ينام في حضن أمه .. جدي يقول أنه من مواليد 1920، ولكن خرائط الزمن على وجهه تجعله يبدو في الواقع وكأنه من مواليد العام الأول للقرن التاسع عشر !
نسأله أحياناً :
– جدو .. هل كنت طفلاً في يوم من الأيام ؟
فيصمت ولا يجيب .. ربما لا يسمع جيداً .. ولكننا اكتشفنا خصلة فيه يستثمرها لصالحه بذكاء .. فهو يسمع ما يريد أن يسمعه فقط، ولا يسمع الباقي مهما كان ذلك الباقي مهماً للآخرين !
من بين تلك الأشياء التي يلتقطها بسرعة شديدة شيئان لا علاقة لأحدهما بالآخر (بالنسبة لنا على الأقل)، هما نداء أمي عليه لتناول الطعام، أو نداء أحدنا عليه لمشاهدة فيلم لفريد شوقي يعرضه التلفزيون .. كان يبدو ، لشدة ما تعلق بهما، أن هذين هما الشيئان الوحيدان اللذان يبقيانه على قيد الحياة ، الطعام وفريد شوقي … واذا اخذنا بنظر الاعتبار أن مشاهدة فيلم لفريد شوقي لا تحتاج إلى مضغ وبلع وغسل يدين .. والأهم من ذلك لا تحتاج إلى طقم أسنان ! لاستنتجنا أن فريد شوقي ربما يكون لديه أكثر إمتاعاً من الطعام ..
هذه هي اهتمامات الانسان عندما يبلغ سن الشيخوخة في غمضة عين : أما أن تصبح معدته هي شغله الشاغل، وأما أن تتعلق عيناه بصورة من الماضي يرى فيها كل آمال الشباب البعيد وبهجته الزائلة .
أبي يقول أن حب جدي لفريد شوقي لا يعادله في العالم إلا كراهيته لمحمود المليجي .. فهذا وحش الشاشة وذاك هو شريرها، ولكنه يحب الأول ويكره الثاني ولا أحد يعرف لماذا .. وكلما كنا نسأله :
– جدو .. لماذا تحب فريد شوقي وتكره محمود المليجي ؟
كان يصمت ولا يجيب ويكتفي بابتسامة محرجة خجولة تشبه ابتسامة طفل يسأله أحد الضيوف الثقلاء :
– هل تحب ماما أكثر من بابا ؟
أبي يقول أيضاً أنه أيام مجد (السينمات)، لم يكن جدي يسمع بوجود فيلم لفريد شوقي في صالة من الصالات إلا ويهرع لمشاهدته .. وفي أيام العيد لم يكن يكترث للحر أو البرد أو لصعوبة الدخول في مثل تلك الأيام من أجل أن يحظى بمشاهدة الفريد شوقي هذا .. بل أنه كان يدخل أدواراً متتالية لمشاهدة الفيلم نفسه في اليوم الواحد، وكأنه من أولئك الأطفال الذين لا يجدون خيراً من تلك الوسيلة للتخلص من خردة العيديات في جيوبهم !
العيد هذا العام لم يكن بشوشاً كعادته كل عام فقد خيّمت على البيت سحابة سوداء من القلق والحزن حوّلت الضحك إلى ابتسامات خافتة والكلام إلى همهمات وإشارات صامتة، وظل كرويت الطرمة خالياً من ملاكه الأبيض النحيل ثلاثة أيام لازم فيها جدي الفراش، وهو يشكو من آلام مبرحة في معدته وأحشائه بسبب سوء التغذية . كانت نوبات الألم تنقض عليه بين الحين والآخر فتتركه في حالة شديدة من الاعياء والذهول .. ولم يعد الطعام يعني شيئاً لديه، وهو في تلك الحالة من الألم فنسي هو أمره تماماً كما نسينا نحن أمر فريد شوقي ولم نعد نفكر، بعد أن عجزت الأدوية والمسكنات عن اراحته، إلا في كيف نوفر له الفاكهة التي تلائم معدته والحليب البارد الذي يهدئ آلامها ولو إلى حين .. أشياء اعتدنا أن نعطيه أياها كلما هاجت قرحته عليه، وهذه المرة كنا نتحايل لكي نوفرها إليه بأية طريقة دون أن يخطر ببالنا أن هذا العصفور الذابل قد لا يكون جائعاً وإنما حزين .. وأن الفرج يمكن أن يجيء من حيث لا يتوقعه أو يمكن أن يفكر في حدوثه أحد تحت سحابة تلك الأزمة الثقيلة التي عصرت قلوب الجميع .
كان اليوم هو اليوم الرابع للعيد عندما أعلن التلفزيون أن فيلم الظهيرة لذلك اليوم سيكون فيلماً عربياً يعرضه التلفزيون لأول مرة عنوانه (وكر الأشرار) وهو من بطولة فريد شوقي ومحمود المليجي وحشد آخر من النجوم، كما جاء على لسان فستان العيد الذي كانت ترتديه المذيعة الحسناء ذات الابتسامة العريضة . في تلك اللحظة من منا كان يفكر ،قبل أن يكون ممتناً لقسم التنسيق في الإذاعة والتلفزيون، بغير أن يكون أسرع من غيره لإبلاغ جدي هذا الخبر السعيد ..
وطار الخبر إلى جدي بأسرع من لمح البصر .. ولا أستطيع أن أصف لكم الارتياح الذي ظهر على وجهه عند سماعه .. فقد اعتدل في جلسته على الفور، وطلب منا أن نقوده إلى الصالة بالرغم من أن ثمة أكثر من ساعتين تفصله عن الوقت المقرر لعرض الفيلم .. لقد أصبح مؤكداً لنا وهو يتخذ مقعده أمام الشاشة بأن ما سيفعله حسن الصيفي بعد قليل هو مما تعجز عن فعله جوقة من الأطباء المتخصصين بآلام المعدة .. لقد تحول جدي فجأة إلى طفل موعود بشيء كبير، وهذا الشيء كلما اقترب منه كلما ازداد جدي حماسة وحيوية وانتعاشاً، حتى أحسسنا جميعاً ونحن ننظر إلى تعابير وجهه المرتاحة والهانئة أن انتصار فريد شوقي في الفيلم هو انتصار شخصي له، وأن ظهوره بدور ضابط بوليس يلقي القبض على المجرم محمود المليجي، أنما هو دور يشرّف جدي شخصياً ويجعله يفتخر به كما يفتخر الأب بنجاح ابنه .
كنا نحدّق مذهولين بالتأثير الذي أحدثه الفيلم في صحة جدي فقد نهض من مكانه بعد انتهاء الفيلم ، هو الذي كان قبل قليل يتلوّى في فراشه من شدة الألم ، وراح يتمشى في الحديقة عدة أمتار، وهو يسقي الورود ويثرثر مع الأشجار ويضيء الممرات بجلبابه الأبيض النظيف .
في صباح اليوم التالي صحا جدي من النوم وكأنه قد ولد من جديد .. لا يشكو من معدته ولا من أي شيء آخر في جسمه .. حتى بدا لنا مثل حمامة أوشكت على الموت عطشاً فتعافت وانتعشت بعد أن بللت قطرة ماء واحدة فمها اليابس .
الطريف أن الناقد التلفزيوني لإحدى الصحف المحلية وصف هذا الفيلم بعد أيام بأنه عمل مسلوق، ومهزلة حقيقية، وخليط من البلادة والتفاهة والابتذال .. وأن التلفزيون ما كان بحاجة إلى عرض فيلم هزيل وقديم بحجة أنه يقدم (لأول مرة) .. ولا شك أنّ ذلك الناقد الواعد كان على حق في كل ما قاله فماذا يمكن لحسن الصيفي أن يصنع غير أعمال مسلوقة؟
أبي أيضاً بعد أن قرأ المقال أدار لنا ظهره، ثم وقف قرب النافذة (لا أدري ربما يكون قد تأثر بالمسلسلات المحلية في وقفته تلك) وظل ينظر عبر النافذة إلى الخارج وهو ينقر بسبابته على الجريدة المطوية في يده، وكأنه يردد مع نفسه سؤالاً مزعجاً يجب أن يعثر له على جواب …
ولا أريد أن أشغلكم بقصتي هذه أكثر من هذا .. كما لا يهمني الجواب الذي لم يعلنه أبي عن سؤاله المزعج .. المهم أن جدّي الذي نحبه كثيراً قد تعافى وعاد إلى أريكته البيضاء سالماً .. وعاد الأطفال يحومون حول رائحته الطيبة كالعصافير .. وليذهب ذلك الناقد التلفزيوني إلى الجحيم .. فما حاجتنا إلى نقد بليغ جداً لا يعرف شيئاً عن آلام المعدة..
فعلاً ما حاجتنا إلى ناقد جاد لا يعرف جدي؟!!