قصة لا تخبر أحداً بما حدث

لا تخبر أحداً بما حدث

   ميسلون هادي

 نصف ساعة هو الوقت الذي يستغرقه الطريق عادة من الدار العربية للتوزيع والنشر إلى السفارة العراقية في عمان، بل أقل من نصف ساعة إذا لم يكن اليوم هو الأحد.. السائق لطيف جداً خلاف العادة.. وبعد عدة كلمات اتضح أنه يكتب الشعر الملتزم.. ومثل هذا أمر غير مألوف حدوثه إلا في العراق.. ما أكثر الشعراء الملتزمون في العراق.. إنهجم بيتهم.. كلهم شعراء ملتزمون.. سواقاً وعمالاً وفلاحين .. وأحياناً مدراء عامين. وموظفي جوازات وعقارات وتشريفات.

    عراقي أكيد.. قال السائق بعد أن رآني أحمل ثلاثة كتب.. وخمسة أقلام وألف غرام من الأوراق.. آه منكم يا عراقيين… إنقلبت الدنيا ولا زلتم تحبون الكتب؟ ضحكنا وسكتنا ثم تبادلنا بضعة أحاديث عن الشعر العمودي والحر والمنثور.. والعتابة أيضاً.. وتحاشيت ذكر اسمي أمامه لعلمي الأكيد بأنه لن يتعرف على شاعر قديم اسمه صبري الأفندي.. ليست لدي مشكلة أو شكوى من هذا الحال  ولهذا وجدت من الأفضل مشاغلته عن ذلك السؤال المحتمل بالحديث عن سعر الطماطم وشعر الدارمي والبوذيات والمواويل، فاتضح أنه يعرفها جيداً وراح يردد بوذية عراقية عن نادي ريال مدريد، وأخرى عن نادي برشلونة.. ومن شعر الحاج زاير النجفي قال هذا الموال:

 ظليت احوم على شوفك بس أروحن ورد

أبغي وصالك وروم من المراشف ورد

مفروض ذكرك علينه بالفرايض ورد

من حيث بسمك تتم فروضنه والدعا

والورد قدم عرايض واشتكه وادعا

ويكول إنت الورد وشلون تشتم ورد

    وأخيراً قال حسن إنه يستمع الى أحمد مطر.. ولكن من هو أحمد مطر؟.. قال إنه شاعر عراقي يقيم في لندن.. ما أكثر العراقيين في لندن.. انهجم بيتهم.. لم يتبق أحد منهم داخل العراق.. وأين عثرت عليه؟ على النت.. وهل يكتب عن الدوري الأسباني هو الآخر؟ كلا.. فهو شاعر ملتزم كان يعمل في جريدة القبس الكويتية ثم نُفي مع رسام الكاركتير ناجي العلي إلى خارج الكويت، وظل ينتقل من منفى إلى آخر حتى استقر به المطاف في لندن بعد باريس ثم مدريد… دواوينه كانت ممنوعة هنا لأنها تقذع السباب للأنظمة العربية.. ولكني عثرت على واحد منها في البلد قبل أيام كما، وأقرأ له الآن بعض القصائد على المواقع الإلكترونية..

    لحد الآن كان السائق سريعاً في سيره، ولكنه بعد أن تغيرت الإشارة المرورية من الأحمر إلى الأخضر بدأ يبطئ شيئاً فشيئاً وهو يتلو قصيدة عنوانها “أين صاحبي حسن” استمر في إلقائها من الدوار السابع وحتى الدوار الرابع :

زار الزعيم المؤتمن

بعض ولايات الوطن

وحين زار حيّنا

قال لنا :

هاتوا شكاواكم بصدق في العلن

ولا تخافوا أحدا.. فقد مضى ذاك الزمن.

فقال صاحبي حسن

يا سيّدي،

أين الرغيف واللبن؟؟

وأين تأمين السكن؟؟

وأين توفير المهن ؟؟

وأين مَنْ

يوفّر الدواء للفقير دونما ثمن؟

يا سيّدي،

لم نر من ذلك شيئاً أبداً.

قال الزعيم في حزن:

أحرق ربي جسدي

أكلُّ هذا حاصل في بلدي؟!!

شكرا على صدقك في تنبيهنا يا ولدي

سوف ترى الخير غدا.

وبعدعام زارنا .

ومرة ثانية قال لنا :

هاتوا شكاواكم بصدق في العلن .

ولا تخافوا أحدا

فقد مضى ذاك الزمن

لم يشتكِ الناس!

فقمت معلنا:

معذرة يا سيّدي، أين صاحبي (حسن) ؟؟

    انتهى من القصيدة في العاشرة إلا عشر دقائق.. وفي العاشرة إلا خمس دقائق طالبني السائق بأن أتلو عليه قصيدة من قصائدي المنشورة في الديوان.. وهذا كان آخر ما أفكر فيه.. لم أتلُ قصيدة واحدة على المنبر وأنا في عز شبابي فكيف أتلوها بصوتي في سيارة أجرة وأنا في أرذل العمر؟.. بعد صمت طويل من جهتي.. جهة اليمين، جاءني الفرج في اللحظات الأخيرة باقتراح كتابة إهداء لطيف إلى السائق الذي اتضح أن اسمه حسن.. انفتحت باب السيارة المضعضعة إلى الفراغ.. قلت له معذرة يا صاحبي حسن فأنت سريع في السياقة.. وفوق ذلك تحفظ الشعر الممنوع… قال لي حسن وهو يضحك لا داعي للقلق، لإن كل شيء موجود في بلادنا من الدواء والسكن وحتى الرغيف واللبن.. ثم حلّت علي بركات الشاعر أحمد مطر، فرفض حسن رفضاً قاطعاً أخذ مبلغ من المال من شاعر عراقي.. وذلك كان أمراً غريب حدوثه من رائد فضاء، فكيف بسائق سيارة أجرة؟.. شكرته بصدق على كرمه وعلى تلك الدردشة اللطيفة.. وأغلقت باب السيارة بهدوء.. وقبل أن انزل كانت نسخة من النسخ الثلاث قد ذهبت إلى السائق.. مكتوب عليها بخط جميل: دع القيادة لصاحبي حسن وتمتع بالرحلة.. مع تحيات صبري أفندي صندوق أمين البصرة.

   في العاشرة صباحاً هبطت من سيارة الأجرة وفي العاشرة والربع كانت النسخة الثانية من ديواني الجديد في حضن رجل مشلول خفيف الشعر، اسمه حجر جاسم حجر، استعملها ككارتون سميك يضع عليه استمارة شهادة الحياة للتوقيع عليها.. كان يجلس بجواري داخل السفارة هادئ النفس أنيق الملبس، ولما نودي على اسمه للتوقيع على شهادة الحياة في العاشرة والثلث، التفت إليّ ورجاني بأخذ الشهادة من موظف الأختام وجلبها إليه.. تعال هنا.. اذهب هناك…. خذ وهات.. سلامات.. واحتار صاحبي حجر جاسم حجر كيف يوقع عليها اسمه دون أن تنثقب الورقة بفعل وجود ثلاث نقاط تحت حروف الجيم تجعل ضغط سن القلم الحاد يمزق الزاوية الركنية من الاستمارة. أغلقت أزرار الموبايل وأعطيته النسخة الثانية من الديوان لكي يضعها في المكان الصحيح تحت الاستمارة ثم يوقع عليها. بعد قليل اتضح أنه لم يوقع في المكان الصحيح للمتقاعد وإنما في المكان المخصص للقنصل!!!… إذن يستوجب الأمر أن يمزق جاسم الاستمارة الأولى وأن يعيد  كتابة شهادة الحياة مرة أخرى.. ومن الواضح أنه سيحتاج إلى عشر دقائق أخرى لملء الاستمارة بمعلوماته وأرقامه التقاعدية من جديد.. رقم هنا ورقم هناك ..أمه هناك وأبوه هنا .. عنوان هنا تاريخ هناك.. المهم.. تركت له النسخة الثانية من الديوان عساه ولعله أن يجد من يحمل له الشهادة إلى موظف الأختام مرة أخرى.. في أمان الله .. وانصرفتُ مسرعاً إلى خارج السفارة وأنا أركض للحاق بآخر عشرين دقيقة من دوام وزارة الخارجية لوضع الختم الأخير لهذا العام.. وكل عام.. ومنذ خمسة أعوام….. موظف الاستعلامات يتكرر بدوره كل عام.. وكذلك صباغ الأحذية وعامل الاستنساخ وحارس السفارة.. والوحيد الذي استوقفني من هذا الزمان هو طفل رأيته ينام في حضن أمه كالملك قبل ان أخرج من السفارة.. كان حديث الولادة وملفوفاً بغطاء ناصع البياض وفي إبهامه الصغير يوجد حبر أزرق اللون.. أكاد أشم رائحته الطيبة من بعيد، ويبدو أنه قد بصم به من أجل إضافة اسمه إلى جواز سفر…. يا له من موضوع ثمين لقصيدة جديدة.. ملعون أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.. قلتَ إن المعاني مطروحة على الطريق بين البوادي والقفار، ولكنك لم تقل إنها ستكون موجودة على الطريق بين بغداد وبروكسل مروراً بعمان.

    لم تطلع الشمس في أواخر نيسان.. ولا تزال الدنيا تمطر في عز الظهر.. فكيف أحمي شهادة الحياة من البلل وأنا لا أحمل أي نوع من الحقائب الجلدية ولا يوجد في قميصي جيب كبير أو صغير.. ولم يخطر في بالي إلا تلك اللحظة كيف ملأ جاسم حجر الاستمارة الأولى من شهادة حياته دون مساعدة النسخة الثانية من ديواني التي استند عليها للتوقيع فقط .. ماذا فعل ياترى لكي لا تتثقب الاستمارة عندما وضع النقاط فوق الحروف وتحتها!!؟ .. لا يهم أن أعرف، ولكن المهم أن أحمي شهادة حياتي من المطر.. لا أحتاج أكثر من ذلك.. وضعتُها داخل النسخة الثالثة من الديوان لكي لا تتجعد ولا يسيل حبرها ويتدمر مضمونها.. اليوم هو الأثنين وأنا أحتاج إلى ارسالها إلى العراق يوم الثلاثاء من أجل ضمان استمرار راتبي التقاعدي والتأكيد على أنني لا زلت على قيد الحياة .. الحمد لله أنها بقيت جافة حسنة المنظر محمية داخل النسخة الثالثة من الديوان التي تبللت وأصبح غلافها الأمامي في حالة مزرية.. صورتي على الغلاف الأخير أيضاً تشوهت وأصبحت شبيهة بوجه الباندا المتدلي من مرآة سيارة حسن باشا.. حاجب أسود والآخر أبيض، وفوقهما جبين مبلل وشعر خفيف .. مع ذلك ابتسمت وأنا أنظر إلى خارطة وجهي المقلوبة وأقرأ تحتها مقطعاً من قصيدة مهمة في الديوان عنوانها  “لا تخبر أحداً بما حدث”.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *