قصة كوبي بيست

قصة من الخيال العلمي

كوبي بيست*

ميسلون هادي

    تكاثر ساكنو الهواء الذين أضمحلت أطرافهم السفلية الى النصف، وأصبحت تكفي جورابات الأقدام الطويلة لتغطية جلود تلك الأطراف بالكامل. أما رؤوسهم المنحوتة على شكل أنابيق تغلي فيها الأفكار وتفقفق، فتتصل من جهة اليمين بقرص جلدي أسود اللون يلتصق على الأذن اليمنى، ومن جهة الشمال بقرص جلدي آخر يلتصق على الاذن اليسرى وتتكامل فيه تلك الأصوات القادمة من بعيد. يأكلون الكلام بعد أن يستلمونه عائماً على موج مستقيم… بينما الكلمات الخارجة من أفواههم تنبث من سلك قصير ينتهي بلاقطة محززة تشبه دودة قز سوداء…. ومن حاصل جمع القرصين الأسودين مع دودة القز السوداء يتكون السامع الحاكي الذي يتحدث من خلاله سكان الهواء إلى سكان آخرين…قد يسمعون آذان الظهر وقت الصباح، أو يرون شروق الشمس وقت الغروب، وأحيانا يحلمون بأنهم يطرقون على أبواب الجنة… عيونهم متسعة الى حجوم عيون طائر البوم وذلك لطول النظر الى ألواح الزجاج ذوات الأطر السود التي يمكن لها أن تحشد موكباً من مليون إنسان في مكان واحد.

    كوة الكاميرا المخفية موضوعة أمام الإنسان الحزين تراقبه وتنظر إليه عبر كرة سوداء لمَاعة تشبه عيون الحرباء.. خلف تلك العين الواحدة يوجد كاتب وكاتبة يسكنان الهواء .. يراقبانه ويسجلان عليه حركاته وهينماته.. ثم يكتبان في لوح الحروف ما يفعله هذا الإنسان لحظة بلحظة.. الآن نهض.. الآن أكل.. الآن تكلم.. الآن سكت.. الآن ذهب الى دورة المياه… كانا يراقبانه كلما سمح الوقت بذلك، وهو لا يدري أن هناك من يكتب بالنيابة عنه قصة حياته. كان يومه يتكرر بشكل ممل يمكن تسريعه في النهاية للقفز على بعض التفاصيل المتشابهة.. وهذا ما يفعله الكاتب والكاتبة أحيانا دفعا للملل وللاستفادة من عنصر الوقت . شريط أيامه المتوالية كان يمشي سريعا بإتجاه أيام جديدة سرعان ماتتبدل بأيام أخرى ، إلى أن اختفت الصورة فجأة وأسودّت الدنيا ليعود المشهد بعد قليل مهتزاً وقد تكسّر زجاج المنزل ناشراً بعض الشظايا أمام عين الكاميرا السوداء.. إنه انفجار آخر جعل الإنسان يترك مكانه ويمضي صاعداً إلى أعلى السطح. سأل الكاتب:

  • إنه يصعد للسطح …هل حان أجله؟؟
  •  كلا . لماذا تقول ذلك؟.. ولكن يجب أن يصعد النسر إلى أعالي الجبال ليرى الوديان من تحته فيزهو وينتشي، هناك تبدو الأشياء ضئيلة وبعيدة وقابلة للاحتقار.
  • هل ستكتبين هذا؟ ماعلاقته بموضوعنا؟ ليس هذا ما نبحث عنه.
  • نعم سأكتبه ثم أكتب بعده: أما من يصعد ليتبين ما يحدث من خراب بعد دوي انفجار شديد، فلا يرى ما يراه النسر من عالم يصغر ولا ما رأته زرقاء اليمامة من شجر يمشي، ولكنه يرى النيران تشتعل في مكان الانفجار، والدخان الكثيف يتصاعد منها، وصفارات الشرطة تدوي وتدور أضويتها باللونين الأزرق والأحمر.. والناس على مسرح الرعب يتراكضون في كل اتجاه وكأنهم هاربون من بيت نمل صببتَ عليه للتو دلواً من الماء.. يرى ذلك كله ويتشمم رائحة الحرائق متعلقةً بذرات الهواء، ولا يتخيل قط أن ما يراه له وجود حقيقي على الأرض أو أن شظاياه يمكن أن تصيب منه مقتلاً. وبهذا الوهم، على الأكثر، يمكث الناس في بيوتهم ولا يغادرونها طويلاً أثناء الحروب.

قال الكاتب:

  • روحه ممتنعة كأرواح القطط .. ألم يوشك على الموت في بوكا؟؟

قالت الكاتبة:

  • لقد أخذوه إلى معتقل بوكا، ثم نقلوه إلى معتقل آخر.. وقد كانت زوجته تزوره باستمرار إلى أن حدثت اضطرابات داخل السجن فرموه في المستشفى وهو بين الحياة والموت.. مدير المستشفى عندما قرأ اسم الأب والجد على البطاقة عرفه على الفور، وقام بالاتصال بأهله لأنه كان صديقاً لخاله.
  • يا له من محظوظ؟
  • بل قل إنه في منتصف الحظ، لأنه بعد الاتصال بأهله حرر له شهادة وفاة مزورة.. وهو الآن في طريقه إلى عمه في تركيا…
  • صدفة عجيبة!.
  •  نعم، صدفة عجيبة لعبت دورها، خاله كان صديقاً لذلك الطبيب الذي أثار انتباهه الاسم ثم اللقب فتوصل إلى إهله.

 أخذت العيون الملائكية للكاتبة تبكي بلا انقطاع، وهي تقول:

  • خاله معهم، وعمه ضدهم.

استغرب الكاتب من المعلومة، وقال:

  • هل خاله معهم الآن؟

    قالت:

  • كان قد هاجر إلى أمريكا، واستقر في ديترويت منذ التسعينيات. وقبل الحرب طلبوا من العراقيين، الراغبين في العودة والعمل في الجيش الأمريكي، أن يتقدموا للعمل في العراق، فقدم هو اسمه، لأنه مهندس معماري بالأساس ووافقوا على طلبه، فجاء معهم من البداية ليعمل في إحدى القصور الرئاسية، وهو الذي توصل الى ابن اخته بعد أن نقلوه جريحاً من معتقل بوكا إلى المستشفى … انظر إليه.. إنه حائر يقف على السلم لا يدري ماذا يفعل؟؟ ألم أقل لك أنه في منتصف الحظ؟؟ لا يزال الخطر ماثلاً أمامه.

    قال الكاتب، غيرَ مقتنع بفكرة أن ينجو أحد من الموت بشهادة وفاة مزورة:

  •  غريب أن ينجو أحد من الموت بشهادة وفاة مزورة!
  • لا ليس غريباً، فلديه عُمْرٌ آخر ليعيشه؟
  • يبدو عصبياً للغاية.. زوجته جميلة، فلماذا هذه العصبية؟؟
  • أرجو أن تعذره.. كانوا يعذبونه في السجن.. كان مقيداً طوال الوقت.. يحرمونه من النوم.. والجنود يفتحون مكبرات الصوت لبث الأغاني الأجنبية وهم ويرقصون… وهذه هي حالته الآن.. كل ساعة شكل.
  • انظري إنه يهدأ.. إنه يقترب منها الآن ويقول لها: في السجن كنت أنقر على أرقام وهمية وأغازلك دون أن تعلمي…. فهل كنت تنامين بالقرب من هاتفك وتحلمين بي؟

  أشرقت عين الكاتبة بالدموع وكتبت تقول:

– ماذا يمكن للمرء أن يرى إذا خُلطت جميع ألوان القوس قزح معاً في لون واحد؟ سيكون لوناً مائلاً إلى الفيروزي الباهت، بل قل إنه سكّري أقرب إلى اللون الأبيض، يكاد لونه يقارب اللون الوردي الفاتح. هذا هو لون الحب.

قال الكاتب ونصف روحه تضيق بهذه التفاصيل:

  • هل ستكتبين هذا؟؟ ما لنا ولون الكون الوردي؟

  كتبت الكاتبة:

–  دعني اكتب هذه الكلمات أيضاً، أنك إذا أحببت فالكون كله يصبح جميلاً .. الماء والسماء.. النار والبخار.. والورد والدخان.. الغسق والشفق.. والليل إذا اتسق،  الأنجم والأطيار..الفاكهة والأثمار.. والشمس إذا غابت، والقمر إذا عاد كالعرجون القديم.

وجّه الكاتب يده نحو لوح الكلمات وكتب نحو عشر كلمات قبل أن يغلق الفايل ويقول للكاتبة:

  • هذا يكفي. .يجب أن أرسل الفايل.كم الساعة الآن.

انتقل الإنسان الحزين من مكانه أمام عين الكاميرا واختفى تماماً.. قالت الكاتبة:

  •  العاشرة عنده والرابعة عندنا.. أين أختفى الانسان؟؟.. في مكان بعيد وآمن.. أليس كذلك؟

قال الكاتب:

  • في مكان بعيد نعم …ولكن ليس آمنا… ليس كل شئ على مايرام …..هاهو هناك .. في مكان آخر..نعم…  ولكن ليس آمناً.
  • لماذا ليس آمناً؟؟

بدا الكاتب شارد الذهن بعد أن لملم شتات أفكاره من هنا وهناك ووضعها في ذلك الفايل الذي أرسله الى مكان بعيد يتلبث شاخصاً بمجرد الضغط على الأزرار..لم يتمكن من رؤية وجه الإنسان وهو يصرخ وينزف في مكان آخر.ولكنه تمكن من القول بلامبالاة وهو يضع حبة بندق في فمه:

    – لا أدري، فقد حدث انفجار آخر عندما خرج من البيت.

صرخت الكاتبة:

  • ماذا كتبت؟.. توقف..
  • لايمكن ذلك.
  •  الغِ ماكتبت.. لايمكنك أن تجعله يموت ..؟

 كأنه شخص بنصف روح قال الكاتب وهو بعيد عن الانسان الحزين بمسافة الاف الاميال:

  • ماكان يجب أن يخرج من بيته؟؟

     –  لا تحفظ الإضافات التي كتبتها واضغط على كلمة (لا).

أعتقد الكاتب أن شايه قد برد فقال بضيق وهو يشعر بالملل مما يفعل:

– مع الأسف فات الاوان، فقد أرسلت الفايل بعد أن ضغطت على كلمة (أجل).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من مجموعة (ماماتور باباتور).

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *