طريق مظلم
ميسلون هادي
انعطفت الأم إلى طريق منزوٍ بين أشجار اليوكالبتوس الضخمة، وهي تحمل أرغفة الخبز الثقيلة داخل كيس من الجنفاص الأبيض مطرزة فوقه الحروف الأربعة من كلمة( حب) باللغة الإنكليزية. قال الخباز:
- حرام.
وهو يلم كمية من الخبز تبعثرت على الأرض أثناء وضع كيس الطحين على القبان، ثم لم تسمع صوته هذا مرة أخرى عندما سحبت أرغفة الخبز، التي قايضت بها الطحين، بعصبية، وهي تطالبه بتفسير ما لهذا النقص الفادح في وزن الرغيف.
كان الطريق مختصراً لم تسلكه إلى بيتها من قبل… بدا ظلامه موحشاً وشديد العتمة.. وظلام بلا مصابيح كهربائية يبدو لها دائماً مسكوناً بالأشباح، ويتربص لها بخطر مجهول.. مع ذلك قهرت تررددها في ارتياد الطريق المختصر للرجوع إلى البيت، وطلبت من ابنتها أن تلازم كفها السائبة ولا تبتعد عنها أبداً. نقلت أرغفة الخبز من كف إلى أخرى، ثم قالت لإبنتها:
- لا تتقافزي أثناء السير.. إنك تتعبيني.
سرعان ما ناء كتفها الأيسر بأرغفة الخبز التي نقلتها إليه، فأعادتها مرة أخرى إلى اليد اليمنى وقادت ابنتها باليد اليسرى. فكرت الأم إن الأرض تسحب كل شئ إليها بقوة… ما أن ترفع قدماً عنها حتى تضع الأخرى عليها.. وما أن تأخذ شيئاً منها حتى تريد إعادته إليها مرة أخرى.. وكأنها تتورعشنا بقوة وتريد ابتلاعنا في كل لحظة. غولة أمنا الأرض، لا تشبع.
إنتقل ذلك الخاطر من رأسها إلى رأس ابنتها مباشرة، فسألتها فجأة:
- ماما.. عندما أموت أين أذهب؟
- إلى الجنة.. الأطفال يذهبون إلى الجنة.
- لا أريد أن أذهب إلى الجنة عندما أموت.. أريد أن أعود إلى بيتنا.
أنقبض قلبها فجأة، فتحول الطريق المظلم المختصر الذي تسلكه لأول مرة، إلى طريق لا متناه يقود إلى مكان محدد وفي الوقت نفسه لا يقود إلى أي مكان. ثمة بناية مديدة جداً تواصل وجودها بمحاذاة الطريق بالرغم من قطعهما مسافة تزيد على خمس دقائق من المسير.. وفي ضوء القمر استطاعت الأم أن تلحظ أن البناية بسياج عال، وباب حديدي شاهق، وإنها بلا لافتات أو علامات تشيران إلى هويتها.
إنفلتت يد الإبنة فجأة من أصابع أمها، وهرولت باتجاه شجرة نبق ظهرت فجأة تحت ضوء القمر قريباً من الباب الحديدي الشاهق. صاحت الأم:
- تعالي يا ابنتي.. أين ذهبت؟
الشجرة تبدو في ضوء القمر مثل هيكل شوكي لجسد هو في الأصل وارف الظلال ومتورد ورحراح.. خيًل للأم أنها تشم رائحة نقود تحترق، أو مصباح يشتعل، أو شئ من هذا القبيل.. قالت الإبنة في الوقت نفسه الذي فكرت فيه الأم بالرائحة:
- ماما.. ما هذه الرائحة؟
قالت الأم وكأنها لم تسمع السؤال:
- تعالي ياابنتي.
لم تأت الإبنة، وإنما انحشرت خلف شجرة النبق، وراحت تبحث في الأرض عن حبات نبق ساقطة. صاحت الأم بعصبية:
- لا أراك .. أين أصبحت؟
وضعت الأم كيس الجنفاص الأبيض على الأرض، ثم مدت يدها إلى الظلام وقالت:
- هيا ياابنتي.. تعالي.
أصبحت الإبنة خارج نظر الأم.. ولم تعد الأم تسمع غير وقع أقدام تدوس على الورق اليابس المتساقط على الأرض. قالت بخوف وكانت كفها لا تزال ممدودة إلى الظلام:
- أين أنت يابنتي؟ تعالي. لماذا لا تردين؟
مضت فترة طويلة بين شهيق الأم وزفيرها، ثم انطلق صوت إطلاق ناري في الجوار.. ولم يعد يتردد في أذنيها غير طنين متصل.
من مجموعة لا تنظر إلى الساعة
1993