قصة زينب على أرض الواقع

زينب على أرض الواقع 

ميسلون هادي

نحن كتّاب القصة تحدث لنا أشياء غريبة أثناء الليل، إذ عندما يحل الظلام ويهجع الآخرون إلى النوم، ويأوي كل ما على هذه الأرض إلى السكون تبدأ داخل رؤوسنا حركة صاخبة تشبه الجلبة التي يثيرها فأر جائع بعد أن ينام أهل البيت. يبدأ  الفأر خربشاته بين الجدران على شكل دوران غير منظم .. يركض هناك فيرتطم بجدار، ثم يعود هنا فيرتطم بجدار آخر، ثم ما يلبث أن يتحول ركضه إلى أفكار ووجوه وشخصيات تزاحم بعضها بعضاً ولكن … بهدوء هذه المرة .

***

جلس أمامي ثم قال بعد أن علم إني أكتب القصة :

  • هل تكتبين قصتي ؟

قلت :

  • أتقصد قصة حدثت لك ؟

قال :

  • نعم .

قلت له :

  • أنا لا أكتب قصصاً  واقعية.

قال :

  • ماذا تكتبين إذن ؟ قصصاً خيالية ؟

قلت :

  • أكتب في النقطة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال .

لم يعلق على كلامي، فأضفت بعد قليل :

  • هل تعثر حفريات الآثار على سبائك الذهب المصبوبة، أم على أساور وقلائد وأقراط .. تقريباً هذه هي وظيفتي … أن أحوّل السبائك إلى أقراط و أساور و قلائد .

قال :

  • هذا جميل .. فقصتي تحتاج إلى لمسة أخيرة من هذا النوع .

مرّت برهة قصيرة من الصمت قال بعدها :

  • قبل أشهر عدت من الأسر .

قلت :

  • لا أحد يعود من الأسر قبل أشهر … عندما تؤسر فإنك لا تعود من الأسر أبداً.

قال، وكأنه لم يسمعني :

  • قبل أن أذهب لم يكن لدي من أقارب سوى أمي وابنة خالتي زينب … وكنا نعيش سوية في بيت صغير يقع في زقاق ضيق عند باب الشيخ .. زينب لم تكن جميلة .. ولكن كل من يعرفها يجب أن يحبها .. إنها ملاك.
  • لا … أرجوك … لا أحب هذه التعبيرات ؟

قال :

  • ولكنها ملاك فعلاً.

قلت :

  • وما أدراك ما هو الملاك .. حاول أن تجد تعبيراً آخر .. لماذا لا تقول أنها إنسانة وحسب.

قال :

  • بل هي أكثر من ذلك .. إن في قلبها المرهف حناناً يكفي العالم كله .. كانت يداها تسبحان بالمشط أوقات الغروب من أجل أن تحول كل شعور الحي المتسخة إلى ضفائر جميلة ونظيفة .. وعندما تغسل طرمة البيت كانت تتعمد أن تترك بُركاً صغيرة من الماء لكي تشرب منها العصافير والقطط .. وذات يوم رأتني وأنا أطش ماءً ساخناً على قطة تحوم قريباً من المطبخ ، فجلست تبكي وحدها بصمت كأني آذيت أنساناً تُحبه .. كانت تخجل من أن تلومني على ذلك .. فهي لا تلوم أحداًعلى خطأ فعله .. أنها تداوي الجراح حسب .

قلت :

  • هذا جميل .

قال :

  • كان آخر منظر رأيته في بيتنا، بعد أن قبّلتني أمي الراقدة على الفراش، هو زينب التي تقف عند باب البيت، وتطأطئ رأسها بخجل، حتى لا أرى دموعها .. لحظتها .. تمنيت لو أرفع رأسها عن الأرض، وأمسح دموعها بأصابعي، لكي يلمس قلبي وجهها الناعم الخجول . ولكني لم أفعل .. قلبي كان خشناً كأصابعي .. وتركتها تقف في باب البيت، وهي تنظر إلى الأرض .

دخلت من النافذة نسمة هواء باردة جعلت الستارة تخفق بصوت منغم وخفيض .. التفت إليها، ثم قال وهو يطلق حسرة موجعة، كأنها اختزنت شوقاً أكثر مما يستطيع أن يتحمله :

  • بيتنا كان شراشف بيضاء نظيفة على الكرويتات، ورز يُغمر لتوه بالزيت الحار، وعجائز يطلبن السجادات دائماً من أجل أداء الصلاة .. هذا هو بيتنا الذي تركته قبل تسع سنوات . أتذكره فيمتلئ صدري برائحة العجين المختمر وتشتاق قدمي للمشي على البلاط البارد المشبع برطوبة الماء، وتحن أذني لسماع آذان الظهر عندما يعلو من مئذنة الجامع القريب ثم يحط في باحة البيت ويملؤها بالنهار .
  • و الآن .. ألم تعد إليه ؟

قال :

  • لا .. لم أعد .. أمي ماتت .. وزينب لم أجدها .. وأصبح البيت قطعة عجين متيبسة على حافة الإناء وقطط صغيرة مبذورة داخل التنور .
  • هل ماتت زينب ؟

انتفض كمن تلقى رصاصة وقال :

  • كلا ..
  • هل تزوجت إذن ؟
  • لا أدري .. ولا أحد يعلم عنها شيئاً.. لقد اختفت من الزقاق .. ولا أحد يدري أين ذهبت .
  • ألم تترك خبراً أو أثراً ؟
  • لا .. مثل قطرة ماء تبخرت .. لا شيء .. لا أثر .. لا كلمة !
  • والآن ؟
  • لا شيء منذ أن رجعت.. أصبحت أبحث عنها في كل مكان، ولا أعثر عليها… عندما أسمع اسمها التفت، وعندما أشم رائحتها أجن .. والغريب أني لا أستطيع أن أتذكر ملامحها بوضوح، ومع ذلك أجدها في كل شيء يحيط بي .. أجدها في رائحة خزانة الملابس عندما أفتحها .. وفي عطر صابون الحمام عندما استحم .. وفي طيات القميص الذي ارتديه .. أجدها في ضفائر الصغيرات وفي صرير باب المطبخ .. فأحس أحساساً غريباً كأنها موجودة حولي تسورني في كل لحظة، وتنتقل معي من مكان إلى آخر دون أن استطيع أن أراها أو ألمسها ..

وقبل أيام كنت أسير في الشارع عندما استمعت إلى أمرأتين تسيران خلفي، وتتحدثان عن امرأة اسمها زينب .. كانتا تقولان إنها تزوجت، وأنجبت بنتاً وأنهما يجب أن تزوراها .. لحظتها تملكني أحساس أكيد أن زينب التي تتحدثان عنها هي زينبي .. ولكني لم أجرؤ على سؤالهما عنها .

ثم طأطأ رأسه وكرر قائلاً:

  • لم أجرؤ .

في اليوم التالي كانت المرأتان نفساهما تسيران خلفي .. تخيّلي هذه المصادفة .. تسيران خلفي لتفتحا الموضوع نفسه. أليس هذا شيئاً غريباً.. ألا تعتقدين أن القدر قد ارسلهما خلفي ليدلني على زينب.. ولكني مع ذلك تلكأت، ولم يكن يجدر بي أن أتردد .. كان يجب أن التفت بسرعة واسأل عما أضعته .. ولكني انشغلت .. انشغلت لوهلة أنظر فيها إلى وجوه المارة على الأرصفة، وأنا أفكر بما سأقوله لهاتين المرأتين وكيف أبدأ بالسؤال . وفي اللحظة التي التفت فيها لكي ألقي سؤالي لم أجد المرأتين .. لم أجدهما .. وكأنهما نزلتا من الأرض إلى مكان خفي دون أن انتبه .. وها أنا أبحث عن زينب منذ عام، والتفت كالملدوغ كلما سمعت اسمها دون أن أعثر لها على أثر .

نظر إلى ورقة الورقة البيضاء التي أمامي ثم قال :

  • هل تجدينها قصة مؤلمة؟

قلت :

  • نعم، وان كنت قد سمعت مثلها الكثير .

قال :

  • أعرف أن طلبي قد يبدو غريباً، ولكني أريدك أن تضعي نهاية سعيدة لهذه القصة.

وضعت القلم جانباً وقلت :

  • لا .. أنا لا أحب النهايات السعيدة .. ولا يمكنني أن ألبي طلبك ..

قال وهو ينظر نظرة غريبة إلى القلم :

  • ولكني جئت لهذا السبب .. من أجل أن أروي قصتي لك ، فتكتبين لها نهاية سعيدة .

قلت له :

  • يؤسفني أن لا ألبي طلبك .. النهايات السعيدة ليست من اختصاصي .. كما أنها لا تلائم هذه القصة. ستنفعل القصة بتكلف إن وضعت لها النهاية التي تريد.

قال وهو يضع رأسه فوق كفه اليسرى :

  • لكن ……

قلت أقاطعه :

  • اسمع .. هذا الحي الذي اسكنه يسكن فيه الكثير من الروائيين و كتاب القصة، ويمكنك أن تقصد  جاري الكاتب (عبد الباقي مقصود) من أجل أن يضع لك النهاية التي تريد .. أنا متأكدة انه سيرحب بطلبك، فهو يحب النهايات السعيدة .
  • هل أجده مستيقظاً الآن .
  • ستجده نائماً.. يمكنك أن توقظه، وسأكتب لك رسالة لتسهل لك الأمر ..

نهض من مكانه بغير اقتناع، ثم التفت، وقال قبل أن يفتح الباب :

  • كيف كنتِ ستكتبين نهاية هذه القصة إذن؟

قلت له بإشفاق :

  • هل يهمك حقاً أن تعرف ؟

قال بصوت خفيض جداً:

  • نعم .. يهمني .

قلت له بعد تردد :

  • حسن .. أنا كنت سأجعل زينب تجلس ذات يوم خلفك في الحافلة تفصلها عنك مسافة تقل عن المتر الواحد .

هتف بصوت عال كاد أن يوقظ أهل البيت :

  • ولكني سألتفت وأراها ..

خفقت الستارة خفقة قوية كادت أن تطير الأوراق من فوق المنضدة، ففرشت يدي على سعتهما فوق الأوراق، وأنا أقول :

  • لا .. لن تلتفت .. ولن تراها .. ولن تحس بوجودها على الإطلاق .. سيشغلك الطريق عن رائحتها وحفيف ثوبها، وهي أيضا ستشغلها الذكريات عن ميلان رأسك، وعندما تنهض، ويمس قميصها شعرك من الخلف، ستململ وتسحب رأسك إلى الأمام .. ولكنك لن تلتفت .. فتهبط هي من الحافلة، دون أن تراها أو تراك .

نظر لي بعينين غاضبتين، كأنها تقولان (كيف يمكنك ذلك)، ثم أوشك أن يلتفت ويصفق الباب خلفه .. إلا أن يده ارتخت فجأة، وسقطت من اكرة الباب إلى أسفل، ثم انتابته حالة من السكون الشديد، وهو ينظر إلى الستارة، التي كانت قد هدأت تماماً..

قلت له :

  • أنا آسفة.. ماذا أفعل .. هكذا أكتب أنا.. فاذهب إلى عبد الباقي مقصود ؟ ألن تذهب إليه؟

قال وقد بدأ غشاء الدمع يتشكل في عينيه :

  • كلا .

ثم تهاوى على كرسي بقرب الباب وأجهش في بكاء حارق، وكأنه أدرك للمرة الأولى منذ عاد من الأسر أنه قد أضاع زينب إلى الأبد .

من مجموعة رجل خلف الباب

1994

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *