قصة حشرات

قصة قصيرة

حشـرات

ميسلون هادي

         اعتقد الزوج في البداية أنه سقط من السقف .. العنكبوت الأسود الصغير الذي تدلى قريباً من وجهه في اللحظة التي هم فيها بخلع ملابسه استعداداً للدخول إلى الحمام . تأرجح قليلاً قرب إذنه اليمنى ثم عاد وأستقر فوق كتفه الأيمن ، وعندما أزاحه من هناك بدفعة كف خفيفة تدلى هذه المرة من أصابعه التي التصق بها خيط العنكبوت وراح ينمو متقطعاً باتجاه الأرض ..وبأسرع من طرفة عين تناوش ذيل منشفة حليبية معلقة خلف الباب ، ليطمئن فوقها قليلاً قبل أن يتخذ قراره الفوري بالدلوك خلفها والتواري عن الأنظار .

     وفي الحمام سقط من رأسه عنكبوت آخر بعد أول رشقة ماء سكبها فوق جسمه … هذه المرة ظل متدليا بالقرب من وجهه محتارا بالمكان الذي وجد نفسه فيه ، محركاً نفسه في أكثر من اتجاه كمن يبحث  لنفسه عن وضع مريح قبل أن يطيل خيطه مرة أخرى ويستقر في مدرج مناسب … دفعه بكفه بعيداً فسقط على حافة الحوض وسار قليلاً باتجاه الحنفية ثم صعد إليها ومن هناك هبط إلى حافة الحوض مرة أخرى ثم غيرّ رأيه في منتصف الطريق فتسلق خيطه من جديد وعاد إلى الحنفية ليختفي خلفها .

     أغلق الزوج حنفية الماء وخرج من حوض الاستحمام فوجد عنكبوتاً آخر بانتظاره في المنشفة البيضاء المعلقة قرب الحائط ، عندئذ قال لنفسه أنه إذا كانت هناك للعناكب لغة للتفاهم فيما بينها ، فمن المؤكد أنها قد أصدرت تعميماً للجميع باعتبار ملابسه وشعره وجميع حاجياته .. مناطق أمنه .ولكن جدته كانت قد أوصته بتحاشي إيذاء الحشرات النافعة.. ولم توصه بأحزمة و مناطق أمنية للهوام والحشرات والزواحف كلها .. فما باله أصبح ، كلما كبر وتقدمت به السن ، يتحاشى قتل كل حشرة تزحف إلى البيت وتقيم فيه بأمان ، أين منه الأمان الذي يشعر به الإنسان وهو يقيم في بلد آخر غير بلده . قالت له زوجته :

– أنا أو هي في البيت .

     ولم تكن تقصد الإشارة إلى صديقته السمراء التي تعرّف عليها في يوم التعداد العام للسكان.. ولكنها قصدت الإشارة إلى الحشرات التي احتلت بيتها على طريقة العولمة الأمريكية وراحت تفرض نظامها الجديد على البيت دون مراعاة لمشاعر ورغبات شعبه المسكين .. ولكن زوجها فهم أنها عرفت بأمر تلك الصديقة الجديدة فقال بخوف .

– أنا احبك أنت .. لا هي .

قالت له زوجته :

 -بل تحبها وتمنعني من التخلص منها.

    صمت الزوج لكي لا يتورط في جواب متسرع قد يقدم رأسه مجاناً إلى المقصلة . ولما طال صمته قالت زوجته :

  • انك مسالم أكثر من اللازم .. وهذا عيب خطير في الإنسان .
  • قال الزوج بعد صمت طويل ..طويل جداً :
  • أنا لست كذلك .
  •     كان الظلام الذي سببه انقطاع الكهرباء قد زاد الطين بله وقد وجد الزوج ، بعد تفكير طويل ، أن تلك الجملة التي قالها هي  أقل الكلمات بلاهة وأكثرها حياداً ، للتعليق على موضوع لا يفهم منه شيئاً .. فقالت له زوجته واضعة في آخر المطاف النقاط عل الحروف : – لقد تسللت إلى خزانة ملابسي وأكلت وشاحي المصنوع من الصوف الخالص …ذوّاقة والله حشراتك هذه ، وكأنها تقرأ العلامات الموضوعة على الملابس فأن وجدت فيها نسبة من الأكرليك تركتها وأعرضت عن قرضها .. إنها لا تشتهي سوى الصوف الخالص …فهنيئاً لي حشراتك هذه .
  •    تنهد الزوج بارتياح بعد أن كاد يغرق في شبر ماء لم يكن يرى ما يحيط به من اليابسة لأن الفم الذي تستعمله زوجته أثناء العراك يمتلك القدرة على تطويق الفريسة وشل كافة الحواس لديها بما في ذلك حاسة النظر .حمد الله كثيراً أنه احتفظ بالعنز الذي تحت أبطه صامتاً طيلة الوقت… ثم قال بعد أن أصبح فوق الضفة الآمنة :
  • أنا لست مسالماً … ولكن أي حياة فيها ذكاء يجب احترامها .
  •      وبالطبع فأنه قد أغفل التعليق على تلك الليبلات التي تشير إلى نسبة الصوف أو الأكرليك في الملابس وقفز متراجعاً إلى النقطة التي يمكن من خلالها أن يدافع عن حشراته بشكل أفضل .قالت الزوجة بغيظ:
  • أي ذكاء ذلك الذي تمتلكه صراصير الحمام.
  •    قال وهو يعيد ظهره إلى الوراء بعد أن انتشله قارب النجاة :
  • – هذه تهرب وتختبئ دفاعاً عن نفسها من رفة ضوء …فلماذا نقتلها ولكن النمل ياعزيزتي …النمل هو ما يستحق العيش مثلما يستحقه البشر .. هل رأيت نملتين وهما تلتقيان في الطريق .. هل رأيت ماذا تفعلان  انهما تتوقفان قليلاً وتتلامسان وجهاً لوجه ..فهل تتخيلين ما تقولانه لبعضهما البعض .. تقول الأولى لدينا ما يكفي من الطحين فلا تحملي في المرة القادمة إلا ذرات السكر .. فتقول الثانية ولكن أين هو السكر ؟ اني أبحث عنه ولا أجده، فتقول الأولى أنك لكي تبلغيه يجب أن تصعدي ذلك الجبل الأبيض الشاهق الذي يجعل القدم تتزحلق عند المرور فوقه وعليك أن تلازمي الأثر الذي تركته خلفي لكي تهتدي إلى المعبر الضيق الذي أوصلني إلى قمة ذلك الجبل..
  •     كانت الزوجة ملتفتة إلى زوجها بحدة ، وقبل أن يكمل كلامه قاطعته وقالت بسخرية :
  • لا .. يا عزيزي .. أنا لم أر نملتين تتحدثان في شؤون الحصة التموينية ، أنا رأيت جيشاً من النمل يفسخ ذبابة ميتة وينقلها إلى بيت من بيوته يا إلهي أنه شيء مقرف .
  • قال الزوج بتعال واضح :
  • أنه لا يفسخها لكي يأكلها كما تفعلين أنت مع أفخاذ الدجاج وأجنحته .. أنه ينقلها إلى بيته ليستعملها سماداً للسدود الترابية التي تحيط بالبيت .. فمن هو المقرف ؟ أنت أم النمل؟
  • قالت الزوجة وهي تدفع كومة من الشعر خلف أذنها اليمنى :
  • لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ” آلا يزرع الزهور في شرفات نوافذه أيضا.
  • قال الزوج :
  • ولم لا ..؟ قد يزرع زهوراً لا نراها .
  • ثم صمت قليلاً وقال :
  • أسمعي .
  •   كانت هناك أصوات طقطقة قريبة من الباب لحشرة يبدو أنها تعبث  بورقة ما على الأرض ..قالت الزوجة وهي تعيد كومة الشعر إلى وضعها السابق :
  • ماذا أسمع :
  • قال الزوج :
  • أنها خنفساء
  •    رأت الزوجة زوجها وهو ينهض من مكانه ويتوجه إلى الفانوس .
  • قالت :
  • يا إلهي .. ألا يكفينا انقطاع الكهرباء . ماذا تفعل ؟
  • قال الزوج:
  • ألا تشعري ماذا يفعل الظلام بالحشرات ؛ أنه يشعرها بالأمان فتخرج من مخابئها لتسرح وتمرح على هواها .. الحر مع الظلام يجعل الحشرات تهيم بشكل أفضل.
  • قالت الزوجة:
  • اعرف ذلك والله .. هلا أعدت إشعال الفانوس .. إني أختنق .
  •     أخذ الزوج الشمعدان الصغير الذي تلوثت قاعدته بالشمع الذائب ، وبلا صوت تقريباً وضعه فوق حافة الكوميدينو قرب رأسه ثم قال لزوجته :
  • والآن انظري .. هذا البصيص من الضوء سيجذب إليه الهوام والبعوض والفراش البري .. أما الخنفسان والصراصير والزيزان والجداجد والعناكب والسلابيح .. فإنها تفضل الظلام وتحبه كثيراً
  •      أصوات الدبيب أخذت تنتشر في الغرفة ..وعدا طقطقة الخنفساء التي كانت تعبث بورقة ما قرب الباب كان هناك صوت لمخلوق طائر يرتطم بزجاج النافذة ثم يبتعد عنها ليعاود ارتطامه بزجاجها من جديد .
  • قال الزوج :
  • إنه يريد الخروج .
  • قالت الزوجة :
  • أتعرف ماذا سأفعل نكاية بك .. سأدخل جيشاً من العظايات إلى البيت لتاكل كل تلك القاذورات التي ترعى في بيتي .
  • قال الزوج بلهجة آمرة :
  • لا تتدخلي في عمل الطبيعة .. انها تتوازن من تلقاء نفسها وتصحح الأخطاء بدون مساعدة من أحد .
  • قالت الزوجة وكان صوت ارتطام الحشرة الطائرة بزجاج النافذة مستمراً.
  • أتعتقد أن التوازن متحقق الآن وأنت تدع كل هذه الزواحف والهوام تتجول في بيتي .
  • قال ببرود :
  • هذا هو التبيؤ.
  • صاحت الزوجة :
  • ماذااااااااااااااااا.
  •     وكانت صيحتها مذعورة أكثر منها متهكمة … بل كانت خليطاً من الرعب والاستنكار والاستغاثة من حشرة طائرة كبيرة مست جبهتها ثم حطت على أنفها والتصقت به من جهة المنخرين قبل أن تلطمها الزوجة بعيداً عن وجهها وهي تصرخ من الفزع :
  • يا إلهي .. ما هذا .. ماماما ..هذا؟
  •  ثم زأرت وهي على وشك البكاء :
  • غداً سأتخلص منها جميعاً … ومنك أنت أيضاً.. وسترى .
  •     
  •       شم الزوج من كلمات زوجته رائحة مبيد حشري .. وهو لا يحب رائحة المبيدات ولا يحب القتل الجماعي . وحار ماذا يفعل أو يقول لمنع زوجته من تنفيذ مخططها العدواني ذاك. ولما طال صمته ، قطع عليه الطريق عنكبوت تدلى من شعر رأسه ووقف يتأرجح قريباً من أذنه فقال وهو يهز رأسه موافقاً :
  • أقسم بالله العظيم سأطلقك بالثلاثة .. إذا ما أدخلت مبيداً حشرياً إلى بيتي .
  • قالت وقد ضاق صدرها بظلام الغرفة وجوها الخانق :
  • يا ناس .. يا عالم .. هل هذا الرجل عاقل ..؟
  • قال ببرود وهو يعيد رأسه إلى الوراء ليتكئ به على ظهر السرير :
  • لا تصرخي يا سوس ..لئلا يرتفع ضغط الدم.
  •  
  •       ولم تكن به حاجه لتذكيرها بارتفاع ضغط الدم ، فتنهدت وعادت إلى الوراء و ألقت برأسها على الوسادة .. قالت لنفسها :
  • ” أنه مجنون بالتأكيد .. هذا الرجل الذي يقاسمها بيتاً تسكنه الحشرات قد أصابته لوثه في عقله ولم تعد تشفع له وسامته وقامته الفارعة وهيبته الشيب الذي تخلل شعره الكستنائي فزاده جمالاً .. ثم قالت ” إن رجلاً يستدعي الحشرات إلى بيته بهذه الطريقة يكون من أعرض ابتسامات خطها لها أن يبر بقسمه  ويطلقها”
  •    ظلام الغرفة اصبح دامساً بعد انطفاء الشمعة وأصوات الحشرات بدأت تتعالى هنا وهناك .
  • ورفع صرصر مصري (هكذا يدعونه في علم الحشرات ) عقيرته بالغناء على إيقاع المذهب الاستهلالي لأغنية عمرو ذياب الشهيرة ” حبيبي يا نور العين ” . حاولت الزوجة أن تتحلى بالهدوء التام لكي تمنع الدم الساخن المتدفق إلى رأسها من الانفجار .. وراحت تفكر في خطة محكمة لجريمة كاملة شاملة تخلصها من المأزق الذي هي فيه .. وضعت رأسها تحت الوسادة وطلبت من الصيدلي ذي الأصابع العظيمة النحيفة ، سماً بلا رائحة ولا يترك خلفه أثراً يدل عليه .. أذابته في إناء كبير ورشته بهدوء في زوايا البيت وخلف الأثاث وخزانات المطبخ ثم نظرت من نافذة الصالة إلى الشارع فوجدته خالياً من المارة تماماً .. إذن ستفرغ من إبادة الجميع قبل أن يعود زوجها من العمل وليطلقها بالثلاثين لولا أن الصيدلي نسي إخبارها بأن تترك البيت بعد تعفيره لأن البخار الذي يتصاعد من السم يكون خانقاً للإنسان إذا كانت نوافذ البيت جميعها مغلقة . بدأت الزواحف من الحشرات تخرج من أوكارها مختنقة لتتلوى وتتراقص على أكتاف الموت قبل أن تهوي صريعة على الأرض .. وراحت الأيدي الخفية للسم تحصد على هواها وتترك خلفها بلاوي مبثوثة بلا رائحة .. بلا صوت.. ولا تراها سوى الحشرات التي تخرج من مخابئها آمله في فرار فتتلقفها تلك الأيدي بالمناجل لترديها إلى مصيرها المحتوم . الدوار الذي شعرت به الزوجة كان خفيفاً في البداية .. وشبيهاً بالنعاس .. وعندما فطنت إليه وقفزت مغمياً عليها إلى خارج البيت كان زوجها قد عاد من العمل  قبل نهاية الدوام بساعتين متمتعاً بإجازة زمنية شعر بالحاجة إليها فجأة ودونما سبب واضح.. وبدلاً من أن يطلق زوجته بالثلاث صام ثلاثة أيام كفارة عن قسمه وأبقاها على ذمته…… ولكن على بعد مسافة عشرين ميلاً بالتمام والكمال هي المسافة بين بيت أهلها الذي خرجت إليه من المستشفى وبين بيته الذي عاد إليه وحيداً بلا زوجة ولا منغصات. قال لنفسه أنه سيقضي فترة نقاهة هو الآخر من نقيق زوجته وهدير كل الأسلحة النارية التي كانت تقصف بها رأسه أناء الليل والنهار .. تارة بإشهارها المجفف الكهربائي الذي يشبه صوته صرير سرفات الدبابة وأخرى بركوبها فوق المدرعة الكهربائية التي تهجم بها على شراشف البيت بمعدل غارة أو غارتين في اليوم الواحد فلا تبقى قميصاً أو بيجامة أو شرشفاً أو ستارة إلا وتسوقها إلى جوف غسالتها الشمطاء وكآخر رجل وحيد في الدنيا وجد أن الصمت الذي أحاط به من كل جانب داخل البيت ما هو إلا صخب العالم ناقصاً صوته هو وأنه  لا سبيل إلى تبديد الوحشة التي هاجمته بقوة ، إلا بالجلوس في الحديقة والاستماع إلى طنين النحل وأزيز الجراد ونقيق الضفادع والنعنسة على أصواتها قبل أن يدخل إلى فراشه لينام.. فإذا ما أنقطع التيار الكهربائي وحل الظلام والصمت التامان في البيت لا يجد غير الأرجوحة تنقذه من الإحساس بأن الآخرين قد دفنوه حياً في باطن الأرض ثم مضوا وتركوه دون أن يتأكدوا من أنه لم يمت بعد.. وعندما يذهب في آخر الليل إلى نهاية المرأب ويقف خلف الباب ليحكم إغلاقه ، يحس بالشوق المفاجئ إلى زوجته وهو يختلس النظر إلى آخر أطفال الليل المنتشرين في ظلام الزقاق ممن يتمردون على صيحات أمهاتهم للدخول إلى المنازل.
  •      مرت ثلاثة أشهر عادت فيها أرجل الحشرات لتدب في أرجاء المنزل ، وشمرت بعض الصراصير عن لوامسها الطويلة التي ظهرت من فوهات المجاري أشبه بأيادي المسافرين التي تلوح من بعيد بالتحايا الساخنة لتعلن عن وصولها إلى الديار .. ونسج العنكبوت خيوطاً فوق أماكن لم يعتد الإقامة فيها من قبل مثل عيون النيران في الطباخ وسطح مقلاة البيض وأفواه قدور التيفال … وعندما فتح الثلاجة ذات يوم ليأخذ عنقوداً من العنب يأكله مع رغيف الخبز الساخن وجد عنكبوتة سوداء تشبه المظلة تتأرجح في الفراغ الواقع بين رفين من رفوف الثلاجة وهي متكورة على نفسها لا تستطيع أن تحسم أمرها في العودة إلى الرف العلوي أو المضي إلى الهاوية حيث يمدها خيطها الأمين بالطول الكافي لبلوغها . شعر بلزوجة ذلك الخيط على يديه وهو يدفعها خارج الثلاجة ثم رآها وهي تسرع هاربة تحت قاعدة الثلاجة حيث رجح أنها ستكون وليمة عشاء دسمة لبعض الحشرات العمياء التي عادة ما تستدل على ضحاياها عن طريق اللوامس فقط.
  •        أغلق باب الجبل الأبيض الشاهق ، الذي كان صفان من مشاة النمل قد تسلقه باتجاه جرة السكر الموجودة فوقه ، وقد قرر أن يزيح الأجهزة الكهربائية وخزانات المطبخ من أمكنتها العتيدة المستتبة ويكنس من تحتها ومن زوايا البيت كل ما عشعش فيها من تلك المخلوقات البائسة التي تسببت في هروب زوجته من البيت … كانت تلك المخلوقات تهرب أيضا أثناء دفع المكنسة على الأرض … والكثير منها احتمى ببالوعات الحمام والمطبخ ودخل إلى شقوق وزوايا لا يستطيع الإنسان الدخول إليها .. أما السقوف فلم يحضره الالتفات إليها أبدا بعد أن نال منه التعب الشديد وشعر ، لأول مرة في حياته ، بجسامة الدور التاريخي الذي تقوم به الزوجات الخارقات ، للحفاظ على قوة ومتانة ولمعان أزواجهن وهم يطلون على الناس من خلف الواجهات الزجاجية العتيدة التي تحميهم من الغبار .
  •     رفع سماعة الهاتف بعد أن نقل بيضته المسلوقة إلى الطبق وقال لزوجته :
  • اشتقت إليك جداً . فعودي .
  • لم تتفاجأ الزوجة بتلك المكالمة الهاتفية التي انتظرتها طويلاً .. فقالت له بعد صمت :
  • لما تشوف حلمة إذنك.
  • أعتبر الزوج استعمالها لمثل مصري شائع للرد عليه مجرد مزحة تكسر بها حدة زعلها وتغلف جدية كلامها معه بلمسة دلال .قال:
  • ولكن اليوم هو عيد زواجنا .
  • قالت :
  • أعرف
  • قال :
  • متى إذن سأرى حلمة إذني ؟
  • ولم ترد الزوجة على سؤاله بشيء مؤكد … ضربة الجرس هي التي ردت عليه في الساعة التاسعة مساءً .. عندما امتدت يدها إليه وقرعته بالرغم من أنها وجدت الباب مفتوحاً .. نظر زوجها من النافذة وأبتسم .. مد يده إلى ضوء النيون أطفأه.. ثم خرج إلى المرأب حافياً وقال مهللاً وهو يعانقها :
  • ها قد عدت أخيراً يا سوسة ..أهلا حبيبة روحي
  • ابتسمت بصمت ولم ترد عليه… فسحبها من يدها إلى البيت وهو يقول :
  • بانتظارك مفاجأة :
  • يبدو أن الزوجة شعرت أن هناك خطأ ما سيحصل بعد قليل .. وهي وإن كانت قد عادت إليه بالرغم من اعتقادها بخفة عقله ، فذلك شأن المتزوجين عندما تمر بهم السنوات فتصبح عيوب بعضهم في نظر البعض الآخر ، أقداراً يجب التسليم بها .. خطوتان وأصبحا داخل البيت … أنفصل بعدها زوجها عنها ثم أشعل الضوء وصاح :
  • انظري .
  •   طق..طق..طق .. أشتعل ضوء النيون ..فوجدت الزوجة الأرض ممسوحة وتوحي بالنظافة الشديدة من كافة أنواع الحشرات .” هذا شيء جميل.. إذن لا يوجد خطأ” قالت الزوجة وهي تفعل حرفياً ما تفعله غالبية النساء ، عبر التاريخ ، بعد دخولهن إلى أي منزل يجب أن يعثرن لاصحابه على عيوب ، بأن رفعت بصرها إلى أعلى ..و..تك…تك..تك ..فوجدت الهوام والعناكب والديدان قد انتظمت في زخارف وأقواس تتدلى من السقف بنظام متناسق وجميل يجعلها تبدو كأنها زينة من تلك الزينات التي تعلق في أعياد الميلاد . بعضها تشابك مع بعض وتدلى متعرشاً فوق سكك الستائر وريش المراوح ومصابيح الثريات……… تاه الزوج وهو ينظر إلى زوجته محرجاً كطفل مذنب وقال لها :
  • لم أستطع الوصول إليها أنها بعيدة .
  • فقالت الزوجة وكانت لا تزال رافعة رأسها إلى أعلى .
  • كم هي جميلة ؟
  • قال الزوج ببلاهة :
  • الحشرات؟
  • قالت الزوجة :
  • نعم

   وتلك هي عادة أخرى من عادات قدماء المتزوجين إذ بعد أن يتقلب بهم الزمان حتى يبلغوا منتصف العمر يغسل أحدهما دماغ الأخر بمسحوق سحري عجيب أسمه ” التشابه التام أو الموت الزؤام”  .

قال الزوج ببلاهة أشد :

-حقاً ؟

قالت الزوجة :

-حقاً.

   ثم احتضنا بعضهما ومضيا معاً إلى غرفة النوم للاحتفال بعيد زواجهما بعيداً ، في تلك اللحظات فقط، عن كافة أنواع الحشرات .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *