حديقة الزهور التي لن يراها سوى إسماعيل ياسين
ميسلون هادي
من نحن؟
هذا السؤال قد يطرأ أحياناً على بال رجل بدوي أسمر من أحفاد (سام) أو على بال قوقازي أشقر من أحفاد (يافث)….. ومن الممكن أن يكون هناك جواب على هذا السؤال لا يعرفه أحد سوى اسماعيل الذي سماه أبوه ياسين بهذا الاسم لكي تحل عليه البركة وينال الخير والرحمة، ولا أعني بذلك أن الجواب سيكون ريشة تسقط من عش في أعلى الشجر أو هو محض اجتهاد من خيالات البشر، إنما أعني أنه يحاكي الواقع تحت أرض الواقع، حيث يحدث هناك كل ماهو شقي وغريب بل وأغرب من الخيال.
لا أفتري عليكم عندما أقول إن اختراع جواب معقول على هذا السؤال لا يكون إلا بالقول بأن عشرين مليون حيوان دافق يتنافسون على بيضة واحدة… فإذا ما فاز إسماعيل بهذه البيضة سيكون واحداً من ذرية ياسين وصاحب الجائزة المكونة من أشهى أطباق اللحم المتبل بالملح والفلفل وورق الغار والقرفة وزبدة اللبن الرائب. سيكون هو الفائز بالذهب لأنه الأفضل من عشرين مليون لسان وعشرين مليون أنف وأذن . وهو الأسرع من مئتي مليون إصبع وأربعين مليون يد…. هو شارب حساء الإنشوجة وآكل شرائح الأناناس تاركاً من بعده عشرين مليون فم تتحسر لأنها لن تشرب القهوة في الصباح ولن تأكل شرائح الجبن وقت العشاء كما لن ترتوي من قدح الماء الذي تطقطق فيه مكعبات الثلج.
أول مليار من البشر لم يأكلوا نصيبهم من ثمرات التفاح على الأرض، ومليار ثان لم يمضغوا نصيبهم من سمك السردين في البحر.. ومليار ثالث لم يشربوا شاي الصباح ولا شاي العصر… مليار رابع لم يلتقطوا التصاوير الملونة.. مليار خامس لم يحفظوها في ألبومات الصور.. ومليار سادس لم يأكلوا عناقيد العنب ومليار سابع لم يدعُ لهم المعزومون بالولد الصالح…. ومليارات أَخر لم تسمع عبد الباسط عبد الصمد، ولا تعرف شيئاً عن الغربان والغزلان والنحل والنمل ولا عن كلاب البحر وثعابين البحر وقناديل البحر ونجوم البحر.. ومن الواضح أنها لم تستطع الصعود إلى سفينة نوح، فسقطت إلى عش الديدان مع تسعة عشر مليون وتسعمئة ألف وتسعة وتسعين أخ ماتوا مرة أولى ثم ماتوا مرة أخرى، حتى إذا ما جرى دفعهم إلى الهاوية بالتي هي أحسن، انفتح الباب بعد تسعة أشهر لكي يولد رجل اسمه إسماعيل من امرأة اسمها سنبلة ولدتها أمها تحت الشجرة.. كانت سنبلة قد خرجت من بطن أمها بلبلة منذ مليون سنة، وبعد أن نزلت من السرير، التفت سرابيل الملابس عليها ودخلت القراطيس والقواميس وبحثت عنها أمم الغيب التي تحل الكلمات المتقاطعة وتسأل عن الفروقات السبعة وتلعب الحية والدرج. هؤلاء هم الفائزون بالوليمة المكونة من أشهى أطباق اللحم المتبل بالملح والفلفل وورق الغار والقرفة وزبدة اللبن الرائب.. الذين إذا أغمضوا عيونهم وجدوا الظلام الدامس وإذا فتحوها وجدوا الدنيا الزاهية والصور التي لا تلد ولا تبيض، ولكنها تتكاثر على الجدران عن فاتنات عابرات للقارات وفاتنين خالدين لا يدركهم الموت أو الكبر.
ولأرجع إلى السؤال الذي كتبته ثم محوته ثم كتبته مرة أخرى:
- من نحن؟
هذا السؤال قد يطرأ أحياناً على بال رجل بدوي أسمر من أحفاد (سام) أو على بال قوقازي أشقر من أحفاد (يافث)….. ومن الممكن أن يكون هناك جواب على هذا السؤال لا يعرفه أحد سوى اسماعيل الذي سماه أبوه ياسين بهذا الاسم لكي تحل عليه البركة وينال الخير والرحمة، ولا أعني بذلك أن الجواب سيكون من منطقة الخيال أو هو محض اجتهاد من اجتهادات البشر. إنما عندما تكون الأمور على ما يرام، فإن الحيوان الدافق لياسين يصبح قادراً على شم الهدف مما يدفعه إلى الاتجاه نحوه بسرعة أكبر ومسار أقصر. والهدف دائماً واضح ومحدد وهو البويضة التي تنتظره هناك، فإنْ لم تجدْه ماتت وهبطت بغتة….. عشرون مليون حيوان دافق والبيضة واحدة. ولكن إذا كان عدد الحيامن نصف مليون للمرة الواحدة، فهو عدد صغير جداً… ويعتقد الناظرون من المجاهر أنه من حالات النقص الشديد في الكفاءة.. ولهذا يقترح العشّابون التهام الغذاء الملكي فور استخراجه من ملكات النحل وشرب حليب النوق منثوراً عليه ثلاث ميلغرامات من برادة قرن وحيد القرن المُحلّى بالعسل… وإن لم يصل الماء المهين بعد ذلك إلى الحد الطبيعي، فإنهم ينصحون بتناول بذور الفجل مع الحبة السوداء أو شرب الحلبة الناعمة مع كوب من حليب النوق صباحاً ومساءً حتى تصل الحيوانات إلى معدلها الطبيعي، وهو أكثر من عشرين مليون حيوان دافق في السنتمتر المكعب الواحد . يمكن أيضاً مضغ طلع النخيل مع عسل النحل وغذاء الملكات ولقاح النحل وورقات الخس ثلاث مرات يومياً.
عشرون مليون حيوان دافق… لا يزال واحد منها فقط يبحث عن البويضة الواحدة التي تنتظر.. ليس في ذلك من صعوبة تذكر بل هو كشربة قدح من الماء بالنسبة لأفضل حيوان يجد البويضة بانتظاره، فإذا مااخترق جدارها منعت عشرين مليون حيوان آخر من الدخول. وإذا ما تلقحت حدث الانقسام وتكور الجنين الذي سينتقل إلى الرحم حيث يتمكن هناك في مكان مكين ويكبر ويحيا، بينما يسقط الآخرون كما يتساقط رماد السكائر.. إلى الهاوية. إلى عش الديدان..إلى تحت الجسر الأبيض….. وهم الأبطأ من السلحفاة والأعمى عن حديقة الزهور والميت الذي لا يذهب إلى الجواهرجي قبل شهر العسل.
واحد من عشرين مليون يقر في الأرحام ليحيا، والباقي يموت قبل أن يحيا.. يسقط من القطار الماشي على الجسر الأبيض ويخرج من ثقب في سفينة نوح…. يذهب إلى تحت العالم حيث لا يولد ولا يموت. لا يعرف بلاد الرومان ولا بلاد الطليان ولا يشتري تذكرة سفر أو آلة تصوير أو حتى قبعة..لايدخل الجنة ولا النار ولا يعبر النهر أو يغرق في بحر الروم.. ليس له أول ولا آخر ولا يبكي عليه أحد أو يتعشى مع أحد… واحد من عشرين مليون سيدخل البستان من البربخ وينام ليستيقظ وقد أصبح إسماعيل أو كسرى أو يسرى أو سلمى أو سنبلة.. يعني يصبح واحداً من أهل الرحم وذوي القربى. وفي العيد يقولون له تعال… ياأسماعيل تعال والبس ثياب العيد.. فأنت الأفضل من عشرين مليون شقيق لن يولد ولن يموت.. لن يغويَهم أحد.. لن يلصقوا الطوابع على الطرود.. لن يسمعوا أم كلثوم. لن يأخذوا قبساً من نار.. لن يراهم أحد وهم يتساقطون.. ينزلون الدرج .. يهبطون إلى العدم.. ذكوراً وأناثاً.. آباءً وأمهاتٍ.. رجالاً ونساءً…. آذاناً لا تسمع.. عيوناً لا تبصر.. ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
منهم مليون لاعب ومليون شحاذ ومليون خياط ومليون سينارست ومليون فلكي ومليون أعمى ومليون بصير …… المليون الأول لم ينظر إلى القطة التي تتمشى على سطح العمارة العالية.. المليون الثاني لم يذهب أعلى الفردوس.. المليون الثالث لم يقرأ هذه القصة.. المليون الرابع لم يشاهد أنور وجدي… المليون الخامس لم يتخرج من كلية طب الأسنان.. والسادس لم يدخل الدنيا ساذجاً ويخرج منها نذلاً. السابع لم يتوسخ. جميعهم مروا من الصلب الى الترائب ثم رحلوا من الإحليل مسافرين إلى عنق الرحم . كلهم ساروا تجاه بيضة الأنثى التي تكون قد انطلقت من المبيض بتوجيه من هارمونات تُوسوس لها من المخ، تسير البيضة داخل قناة كالوردة اسمها فالوب إلى أن يتم التقاطها من خلال أنبوب كالإصبع إسمه البوق. وهناك داخل أهداب بلون التراب، سيقصف البيضة حيوان واحد يحيلها كرة من الخلايا اسمها النطفة، وعندما تنغرس هذه النطفة داخل بطانة الرحم، ستتخمر وتصبح واحداً من ذرية ياسين لأنها الأفضل من عشرين مليون فم وعشرين مليون مليون أنف.
هذا هو إسماعيل الذي سيتغذى عبر حبل سري لقرون عديدة ثم يلفظه الرحم إلى الخارج بعد آلاف السنين.. فإنْ استقبله السابقون الضاحكون ووضعوه في المهد، سيبكي بكل ما أوتي من قوة ثم يضحك من حصاد الأخبار أو ينخرط في حزب الأمة. يُلدغ المؤمن من هذا الجحر مليار مرة.. وإذا ما تحركت ستارة الغرفة من أثر الهواء الهاب، فقد يولد إسماعيل بروفيسوراً بدلاً من بائع عصير أو يولد عسكرياً بدلاً من مونولوجست. ولكن الباب هو الذي تحرك بدلاً من الستارة فتأخر بائع العصير في الوصول إلى خط البداية.. والمنولوجست اعتراه بعض البرد .. فكان إسماعيل ياسين هو المعتلي المنصة ليغني على ظهر السفينة. هو الأفضل من عشرين مليون أنف لم يشم الهواء ومليون قدم لم تسجل هدف التعادل ومليون معصم لم يرتدي الذهب واللؤلؤ… هذا هو نحن.. الأفضل من عشرين مليون شقيق بعضهم أعمى كالخفاش وبعضهم بطئ كالسلحفاة وبعضهم تائه عن حديقة الزهور التي لن يراها سوى إسماعيل ياسين.