قصة تقاويم

تقاويم

ميسلون هادي

أراه كل يوم .. الرجل العجوز صاحب كشك الجرائد الذي يقع عند المنعطف .. وهو جالس خلف صحف الصباح التي يعرضها أمامه منذ الأزل بينما تتكدس على مسافة قريبة منه تلال القواميس الغليظة والمجلدات القديمة والحديثة .

انعطف بالسيارة إلى اليسار فيقع نظري عليه ولا أستطيع أن ألمح تغيراً في السن يطرأ عليه .. فذلك يصعب علي وأنا أراه كل يوم .. وهو هكذا مجعد الوجه و أبيض الشعر منذ المرة الأولى التي رأيته فيها قبل عشرين عاماً .. حتى أكوام الكتب والمجلات الموضوعة على الدكة ذاتها تبدو نفسها لا تتغير وكأنها تذهب مع من يشتريها لتعود إلى مكانها بعد حين وتنتظر من جديد .

ولكن شيئاً غريباً حدث قبل يومين جعلني أعتقد أن هذا الرجل قد تأخر به السن أو ربما تقدم أكثر مما أعتقد .. كانت يداه ترتعشان وهو يناولني القاموس الذي وعدني به منذ فترة . رأيت صرصراً صغيراً فاتح اللون يطفر بين الكتب ثم يمشي على يده الملساء دون أن ينتبه الرجل إليه أو يحس به إطلاقاً .. أخذت الكتاب منه ولم أكن أحمل معي غير قطعة نقدية كبيرة .. أعطيته إياها ولكنه أعادها لي وهو يأذن لي بالدفع في يوم آخر .

انعطفت بالسيارة إلى اليسار كما أفعل كل يوم فرأيته جالساً كالعادة خلف صحف الصباح المتدلية .. يعبث بمؤشر المذياع الصغير بحثاً عن نشرات الأخبار في المحطات البعيدة .. هذا أيضاً يحدث كل يوم .. والمؤشر الذي تكسرت نتوءاته في مواضع مختلفة لا يزال يحمل إليه المحطة التي يريدها منذ عشرين عاماً .

اقتربت منه لألقي تحية الصباح .. ولكني فوجئت بشاب نحيل يجلس مكانه .. ملامحه حادة وضجرة ولكنه كثير الشبه بصاحبي العجوز مما جعلني أخمن انه ابنه .

قلت له :

– أين أبوك ؟

أجاب :

– أبي ؟

قلت له :

– نعم .. أليس هو الذي يجلس هنا كل يوم ؟ .

قال لي وهو يعيد نظره إلى المذياع :

– أنا أقف هنا كل يوم .

قلت :

– قبل يومين اشتريت قاموساً منه .. ولم أعطه ثمنه .

قال :

– أنا كنت هنا قبل يومين .

قلت له :

– ربما .. لم تكن موجوداً .. لقد اشتريته في الصباح الباكر .

قال وهو لا يزال منشغلاً بمذياعه :

– اشتريته ممن ؟

قلت له :

– من أبيك الذي يجلس هنا كل يوم .. أنك تشبهه كثيراً .

انفرجت ملامحه فجأة ثم قال وهو يكف عن العبث بالمؤشر :

– اشتريته مني .

قلت له :

– لا .. اشتريته من أبيك .

قال :

– أنا أعرفك.. كنت تأتين إلى هنا عندما كان أبي موجوداً.. ولكن أبي لم يعد يأتي إلى الكشك منذ سنوات .

قلت له :

– لا .. كان موجوداً قبل يومين .. وها هو القاموس لا يزال معي .

ثم مضيت إلى السيارة لأجلب القاموس .. فسمعت صوت الابن يناديني لأعود ولكني تجاهلت نداءه ومضيت .. جلبت له القاموس ووضعته أمامه .

قال :

– تذكرت .. نعم لقد بعته لك قبل يومين .. ولم تكن معك نقود كافيه .

قلت له وأنا أحاول الإمساك بطرف الخيط :

– قبل يومين إذن .

قال :

– نعم .. قبل يومين .

قلت له وأنا أتشبث بالخيط :

– إذن أين أبوك ؟

قال :

– أنا الآن أحل محله .. انه مقعد في البيت ولا يخرج منه منذ سنوات .

قلت له وقد تذكرت شيئاً ما قد يدحض إصراره العجيب ذلك :

– انتظر لحظة .

ثم ذهبت إلى السيارة مرة أخرى وأنا أفكر بالتقويم الجديد الذي اشتريته من أبيه في بداية السنة قبل شهرين والذي أشر لي فيه بخط يده تاريخ ميلاد حفيدته لكي أجلب له في ذلك اليوم فيلماً ملوناً من المختبر الذي أعمل فيه، بعد أن أعياه البحث عن فيلم مناسب للكاميرا الفورية التي يقتنيها ابنه .

فتحت باب السيارة .. ولكن ماذا يفعل التقويم في السيارة ؟؟؟

انه في البيت .. نبذت الفكرة من رأسي ثم عدت أدراجي إلى الكشك وأنا أحاول إقصاء هذا الموضوع الغريب عن روحي وتفكيري .. نعم .. كنت أريد ألا انشغل به أكثر من ذلك .. فتحت الحقيبة لأخرج النقود وأعطيها للابن فضحك الأب وهو يقول لي بصوته الشائخ المتهدج :

– ولكن لمَ العجلة !؟

رفعت رأسي إلى الرجل فوجدت صاحبي العجوز وقد عاد إلى العبث بمؤشر الراديو وهو جالس على مقعده في الكشك .

قلت له وأنا أحاول أن أضحك :

– أين ابنك ؟

قال وهو يخفض صوت الراديو قليلاً :

– ابني ؟

قلت له :

– قبل قليل كان هنا .

قال وهو يطفئ صوت المذياع تماماً :

– قبل قليل ؟

قلت له :

– نعم وأردت أن أعطيه النقود .

قال وهو يعطيني القاموس ويأخذ مني النقود :

– أنا أو هو لا فرق ..

قلت له والقاموس لايزال بين كفي وكفه :

– ألم يكن تواً هنا ؟

قال وهو يعبر عن استغرابه بالضحك :

– لا .. أبداً .. انه في الخارج منذ سنوات .

قلت :

– لكنه قال انه يقف هنا بدلا عنك منذ سنوات .. وأنك لم تعد ..

قال وهو يطرد ذبابة حطت على جبهته :

– أنا قلت لك ذلك .. عندما سألتني عن الرجل العجوز الذي اعتدت أن تريه جالساً في الكشك منذ سنوات .

قلت له :

– أي عجوز ؟

قال وهو يطرد ذبابة أخرى .

– انه أبي .. وقد أقعده الشلل في البيت .. فلم يعد يأتي إلى الكشك أطلاقاً .

قلت له وأنا أتذكر التقويم مرة أخرى :

– هل هو الذي كتب لي على التقويم أم أنت ؟

فأجاب بطريقة بدت كما لو انه يتذكر شيئاً يعود إلى ماض بعيد :

– آه .. نعم .. تذكرت .. نعم هو الذي كتب .. وصاحبة عيد الميلاد تلك هي أبنتي عندما كانت صغيرة .

كل الخيوط التي حاولت الإمساك بها أفلتت من يدي وتناثرت على الأرض فقلت له قبل أن أضع القاموس في الحقيبة وأمضي :

– وهل تذكر متى كان ذلك ؟

فقال :

– أنك تشترين التقويم في بداية كل عام .. ولم أعد أذكر في أي تقويم من تلك التقاويم قد كتب أبي لك تلك الملاحظة .

ثم استطرد وهو يتثاءب :

– اليوم .. البارحة .. ابنتي تلك متزوجة الآن .. ولابد أن ذلك كان من عدة سنوات .

ثم التقط المذياع مرة أخرى فطفر صرصر فاتح اللون من خلف المذياع وسار بسرعة على كفه الملساء .. قبل أن يستدير ويختفي بين الكتب مرة أخرى .

من مجموعة الفراشة

1987

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *