قصة بيتنا القديم

                             ميسلون هادي قرب بيتنا القديم عندما فتحت ستارة النافذة رأيت كل الذي لم أره تلك اللحظة.. كان يمكن أن أرى النخلة التي تمس سعفتها زجاج النافذة.. وأن أرى الطفل الذي يدرج بدراجته وهو يتعكز على قدمه اليسرى بين الحين والآخر خوفاً من السقوط ثم وهو يضرب القطة التي تأكل من صندوق القمامة بحجارة أو قطعة صفيحة.. أو يترك دراجته على عجل ويمضي إلى إصبع حلوى مرمي على الأرض يقلبه بين يديه ثم يرميه ثانية على الأرض.. أو يلاحق خنفساء صغيرة تدب على الحشيش يقلبها على ظهرها ويترك أطرافها اللائبة تتحرك في جميع الاتجاهات وهو يدس بينها عوداً صغيراً تتعلق به.. أو تكاد! وأرى أخاه الوسيم عند العتبة وهو يفتعل الالتفات يمنة ويسرة فتراه جارتنا الطالبة في معهد اللغات وتتعمد أن تسأله عن الوقت وهي تمر بتباطؤ فلا تسمع جوابه ولا تراه وقد ابتسم ودار رأسه بعطرها وعذوبة صوتها. يخرج- أبو طه- سيارته من المرآب سائراً بها إلى الخلف وهو يتوقف بين لحظة وأخرى ليقول لابنه: -انظر هل الحفرة بعيدة؟ وأسمع ابنه يحثه على الرجوع والأب يحبو بسيارته إلى الوراء غير عابئ في الحقيقة بتنبيهات ابنه وتوجيهاته.. أو ربما هو لا يسمعه لأنه يكون منشغلاً بالسياقة.. ويمر وقت قد تسرقني فيه ضربات آلة كاتبة تنطلق من بيت جاري المؤلف الروائي فيدور رأسي وأدوخ وأنا أتصنت لإيقاعها الرتيب الذي يبعث على الخدر… أقول لنفسي: الطيور المبكرة، ثم انتبه لصوت “أبي طه” وهو يقول لابنه: -ما وقوفك إذن؟ وأرى إطار سيارته الأيسر الخلفي وقد أصبح داخل الحفرة التي خلفتها البلاطة المكسورة. يكون الطفل قد ترك الخنفساء ودخل إلى البيت من أجل كراته الزجاجية. وتكون مجموعة من الصغار، قد تجمعت تحت ظل شجرة اليوكالبتوس للتشاور بأمر الخنفساء وتكون ابنة الطبيب الساكن في نهاية الشارع قد خرجت إلى بيت ابنة الضابط جارهم لمصاحبتها إلى الطريق…. تتهامسان وتتضاحكان وعندما تقتربان من الفتى الوسيم تفتعلان الحديث الجاد وهما تتمالكان ابتسامتيهما بصعوبة حتى إذا ما ابتعدتا أطلقتا العنان للضحكات الصغيرة والوشوشات مرة أخرى. تنادي العجوز التي تمر كل يوم على بضاعتها من قشطة الحليب فأناديها من مكاني.. واغلق النافذة فتمس سعفة النخلة زجاجتها ويفر عصفور من عشه بين السعفان.. وتطلق الساعة الجدارية ثماني دقات متتالية فافتح الباب وأخرج بالطبق: لا تزال حقائب الأطفال مكومة على الأرض. والخنفساء أنست الأطفال مدرستهم.. أقول لهم: -إنها الثامنة.. ألا تذهبون؟ وقد يكترثون لذلك أو لا يأبهون.. أو قد يدخل الفتى الوسيم ويخبر أمه بندوة الخنفساء فتخرج إليهم لتعنفهم فينفضوا عن الخنفساء ويمضون إلى المدرسة. أناول الطبق اللاعرابية العجوز التي تفترش الرصيف… تغوص سكينها في القشطة وتقطعها إلى مثلثين صغيرين تقتلعهما من الطبق المعدني الكبير فتنتشر رائحة القشطة في الهواء ثم ترتفع الشريحتان البيضاوان على الراحة المفرودة وتحط لتلتصق بطبقي. تقترب مني “أم طه” فتسأل عن حالي وأقول لها: -بخير. ثم تنطلق دجاجتها من الحديقة مذعورة وهي تصيح مستنجدة فتنهض البائعة الاعرابية من مكانها لتلحق بها وتعيدها إلى القن. تقول “أم طه” وهي تسرع إلى البيت: -انه القط! تضج عصافير شجرة البوكالبتوس وتحلق في الفضاء القريب المضبب ويقف أحدها على سلك الكهرباء يقلب عينيه إلى جهات مختلفة على الأرض وكأنه ينظر إلى الخنفساء المقلوبة على ظهرها. ادخل بالطبق إلى البيت ثم أخرج ثانية إلى الشارع.. يقبل أديم الشارع قدمي كل يوم ثم اشتهي أن أصنع باطن قدمي على الطين البارد ولكن عربة مليئة بالرجال تمر فأتهيب وأمضي في طريقي المعتاد إلى المدرسة. الشارع النخيل يتوزع عند المفترق يميناً ويساراً وإلى أمام وأنا أنعطف يساراً في طريقي اليومي بين البيت المدرسة… تستقبلني النخلة العجفاء في نهاية المنعطف.. فأخاف وأبتعد عنها إلى الرصيف المقابل. فيجيئني صوت فاختة معششة في مكان ما وهي تهدل: “كوكوت.. كوكوت…” ويتردد صوتها في رأسي: “كوكوكتي… كوكوتي” وأرى جدتي وهي ترمي كرات “الخبز” إلى العصافير وبعد أن تفرغ من تكوير اللب تختفي ويلتقيني جارنا المعلم المتقاعد وهو يتوجه بملابس البيت إلى السوق فيقول لي: -ها.. إلى أين! فأقول له: -إلى المدرسة فيقول: -لكن اليوم (عرفات)! فابتسم له وأشعر أن كل شيء جديد وجميل مثل فاكهة طازجة وشهية ويلفني الهواء البارد بغلالة شفيفة تجعلني أتمنى أن لا ينقضي الصباح أبداً. وأبتعد عن النخلة العجفاء وأجتاز المنعطف فتقول لي “آلاء”. وهي تناديني من الخلف: -لا تذهبي إلى المدرسة.. فاليوم عرفات. وأقول لها: -أدري. ثم أنعطف باتجاه الشارع العام الذي يفصل محلتنا عن المحلة الأخرى.. وأقطع المسافة وأنا أتلذذ بالهواء البارد والصمت المشوب بأصوات الصباح الأولى. واجتاز دكان- المكوى- ودكان- النجار- حتى إذا ما أصل دكان- عبد- العطار أبتعد عنه إلى الرصيف الآخر ثم أدفع بؤبؤي عيني إلى أقصى اليمين لألقي نظرة على الأطفال المتجمعين على دكة الدكان وأقاوم رغبة تتملكني في أن أجلس على الكرسي المتحرك الذي يقتعده “الحاج أحمد” المشلول وهو يتخذ له مجلساً مجاوراً للدكان كل صباح. أخلّف دكان- عبد- العطار وكرسي (الحاج أحمد) وراء ظهري.. فتواجهني نخلة أخرى تتفرع منها نخلة صغيرة وتحيط بها فسحة من تراب متماسك لا يتطاير لكثرة ما داسته الأقدام.. تتوزعه حفر صغيرة جداً خلفها الأولاد الذين يستعملون تلك الفسحة من أجل لعبة- الدعبل-. اقترب منها وألمس الحفر الباردة واحدة واحدة ثم أقلب طابوقة راقدة على الأرض فيهيج تحتها جيش من الديدان السوداء الصغيرة اللائبة دونما سبب. يخيفني المنظر فأخرج من ظل النخلة وأمضي باتجاه الزقاق الصاعد إلى ضفة النهر وأقترب من البستان الصغير الذي يقع في مساحة محصورة بين بيتين من بيوت الزقاق. البستان غريب وموحش وفوق سياجه العالي جداً شظايا زجاج وكعوب قناني معجونة بالطين اليابس.. وخلف بابه التي أكل الصدأ معدنها وطلاءها الأخضر.. تهمهم أصوات وتخشخش قطط وفئران. وأسمع مواء كالبكاء.. وأقول لنفسي: -ما يهم أن أتأخر عن المدرسة.. فاليوم عرفات وغداً عيد.. ثن أتخيل الصف الفارغ إلا من أربع أو خمس بنات يتوزعون على الرحلات والمعلمة واقفة عن الباب تحادث معلمة أخرى.. والنافذة تسرب صوت النهر القريب وروائح البيوت المحيطة بالمدرسة. وتدخل الرؤوس سحابة أليفة من رائحة الخبز وصيحات الصبية المنتشرين في الزقاق الممتد بين المدرسة والنهر. وأرهف السمع لهمس البستان المختبئ وراء سياجه العالي وأقول لنفسي (هل هي السعلوة؟ أم زوجة الطفل؟) ويراني الضابط الذي يسكن البيت المقابل للبستان فأبعد أذني عن السياج.. وأتظاهر برفع شيء ما عن الأرض.. ثم أعاود السير قليلاً خوفاً لكنه سرعان ما يدخل البيت ويغلق الباب خلفه.. فأتلكأ مرة أخرى عند باب البستان وأقرب أذني إلى السياج فاسمع خشخشة الأوراق اليابسة وهي تضج وتهدأ. وارى الضابط يخرج مرة أخرى ويلقي نظرة استطلاع إلى الشارع وكأنه ينتظر شيئاً… فأجفل وانتصب واقفه ثم أستأنف السير على عجل وأنا لا أجرؤ على الالتفات إليه لئلا يعنفني على تلكؤي الطويل قرب باب البستان. تلتقيني سيارة عسكرية تهبط باتجاه بيت الضابط فالتفت إليها حتى أراها تتوقف عند باب البيت لتبتلع الضابط داخلها وأقول لنفسي: “إنه محبوب… لم يوبخني على تلكؤي” ثم أشعر بالرغبة في العودة إلى البستان والتنصت إلى الأصوات الغريبة القادمة من جوفه.. لكن الوقت كان قد تأخر والأبواب راحت تنفتح في وجه الشارع كالأفواه المغفورة. اقترب من المدرسة أكثر فألمح بابها الخشبي العتيق منطبقاً والعتبات الثلاث تحتها غارقة في السكون فأشعر بحاجة إلى المضي خطوة أو خطوتين إلى أمام قبل أن استدير إلى الوراء وأعود أدراجي إلى البيت وقرب النخلة العجفاء مرت- آلاء- مسرعة بقربي وقالت: -لماذا ذهبت؟ ألم أقل لك أن المدرسة مقفلة. ثم اختفت.. وحل محلها الفراغ الرهيب… فراغ لا أول له ولا آخر… كأنه قطعة هائلة الحجم من الضباب… فراغ بارد أخرس… لا يقول شيئاً ولا يفعل شيئاً… صامت كالموتى… شاسع كالسماء. أغلقت النافذة المحمية بمشبك معدني سميك وأنا أقول لنفسي: “ما حاجة مثل هذه البيوت إلى النوافذ أساساً؟ ألا يكفيها الباب الذي يؤدي إلى بئر التوصيل مباشرة؟” أطلقت الساعة الجدارية ثماني دقات متتالية متبوعة بصوت نسائي منغم قال بعد انطفاء الدقة الثامنة: -حان وقت النزول. فتحت الباب الموجودة في أرضية البيت… والتي تتصل ببئر المصعد مباشرة… خطوت على أطراف الأصابع إلى الفتحة الدائرية وأنا أحاول أن لا أدع ثقلي يهبط إلى قدمي أثناء النزول إلى أسفل… الأرض تبعد عني بمسافة (1000) متر والمصعد المعلق تحت بيتي سيأخذني إليها بلمح البصر.. وأنا أحاول أن أضع قدمي على السلمة الأولى فتنزلق وأسقط في الفراغ الرهيب بدلاً من أن أستقر في غرفة المصعد.. ولكن الغرفة الأسطوانية الدافئة والمضاءة باللون الأصفر كانت هناك… تحت قدمي.. تنتظرني لأدخلها فتحتويني وتهبط بي إلى حيث أريد. فسح لي عامل المصعد المجال للمرور وأردت أن أقول له شيئاً… ولكن ماذا أقول؟ أنا التي اخترت أن أسكن في بيت معلق في الفراغ.. وأنا التي راقت لي فكرة أن أدخل المزايدة لشراء بيت من البيوت العائمة فوق سطح من الهواء المضغوط يرتفع بمسافة (1000) متر… ولا شيء يربطه بالأرض غير مصاعد أسطوانية تصعد وتهبط بالسكان داخل خراطيم مطاطية عملاقة تتدلى من السماء إلى الأرض كالثعابين.  العراق



الحقوق محفوظة لـ “الكاتبة” 1993-2005 ©
النشر والافتباس يتمان بإذن خاص – المجلة منبر حر، والكتابة تعبر عن رأي أصحابها – تبويب المجلة يخضع لاعتبارات فنية – والمادة التي تنشر لا ترد

جميع المراسلات على عنوان المجلة info@alkatiba.com

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *