الياقوتة
ميسلون هادي
توقف العجوز فجأة عن الغناء بطريقة عصبية، ثم فارق مابين شفتيه كمن يهيء فمه لفرشاة أسنان.. بادله الشاب الذي يجلس أمامه في الحافلة ماظن انها ابتسامة.. ولكن العجوز عاد وأقفل فمه بسرعة، ليفتحه بعد ذلك باتساع أقل ضارباً فكيه الواحد بالآخر محاولاً إخراج طقطقة معينة فبدا وهو يفعل ذلك بانهماك، انه يحاول ان يوفق بين تلك الطقطقة وبين إيقاع مايسترجعه مع نفسه. ابتسم المحصل هازاً رأسه وهو يصعد السلم المؤدي الى الطابق العلوي.. اما الشاب فقد انصرف عنه مندهشاً لحفاظ رجل، في مثل سنه، على عدد من الأسنان الطبيعية كاف لاخراج كل تلك الضوضاء. رفع العجوز رأسه فجأة بانتباه شديد وعينين متسعتين كقائد اوركسترا في لحظة البدء.. وظن بعض الركاب المراقبين انه سيقول شيئاً ما، الا انه أرخى وجهه من جديد وأحنى رأسه الى وضعه السابق.
كل رواد ذلك الطريق غالباً مايرونه يتخذ جلسته المعتادة على المقعد العريض المجاور لباب الحافلة.. برأس مائل الى اليسار ملفع بغطاء خفيف حائل اللون يعقد طرفيه خلف الرقبة، وحقيبة سفر كبيرة محشورة بين ساقيه ودعامة المقعد.. ينم عنقه واطرافه الدقيقة عن جسد بالغ النحافة.. اما ملابسه التي لايعلم أحد أين أو كيف تبدأ، فقد كانت تنتهي من الخارج بمعطفين رثين مزررين فوق بعضهما بإحكام.
نظر من تحت حاجبيه الاشيبين الى الشاب الجالس قبالته وراح يتغنى بكلمات مسموعة:
- الحب قلبان… يغنيان اغنية واحدة.
ابتسم الشاب بدعة، ولكن العجوز عبّس وجهه من جديد.. ملامحه لازالت تحتفظ ببراءة الطفولة الى حد بعيد، وبشرته بالرغم من التجاعيد التي غضنت مواضع عديدة منها، كانت تبدو كقشر طرية لوجه صب من شمع. عاد وأطلق أسارير وجهه وهو يعاود النظر الى الشاب مضيقاً عينيه على نحو ودود وابتسامة هادئة وديعة ممتدة على شفتيه. لم يجازف الشاب بأي رد هذه المرة، أما هو فقد عاد الى الغناء بصوت خفيض:
- الحب قلبان… يغنيان اغنية واحدة.
…………………………..
توقفت الحافلة فهبط العجوز يجرجر حقيبته ذات المقبض الملفوف بمنديل متسخ من القماش الأبيض وسار بها وكأنه يحمل حقيبة يدوية صغيرة. أحياناً كان يهم بعض الشباب، ممن يصادفهم ذلك العجوز لأول مرة، لحمل الحقيبة عنه… الا أنه غالباً ماكان يخذلهم باشارة من رأسه أو بتمتمة أبعد ماتكون عن الرضا، ولابد ان كثيراً من الناس قد اعتاد رؤيته يهيم بحقيبته الكبيرة تلك كل يوم حتى لم يعد يهم للمساعدة، في الغالب احد.
مضى العجوز متثاقلاً إلى نهاية الشارع، ثم انحرف باتجاه الزقاق المؤدي الى بيته. رأته جارته المعتادة فجاءت ترافقه الى المنزل وبعد قليل كان الاثنان قد تواريا خلف بابه. لم يكن يعيش في البيت سواه والقط. وغرفة المعيشة التي تكاد تكون فارغة من الأثاث كانت مزدحمة الجدران الى حد بعيد، صور مختلفة الحجوم لبنت وولدين في مراحل مختلفة من العمر….. وأخريات لامرأة عجوز وأشخاص مختلفين تحيط بصورته….. صور كثيرة لفرقة موسيقية في اوضاع شتى….. صورة القط ايضاً وجدت لها مكاناً صغيراً بقرب صورة زوجته الراحلة.
أولاده انقطعوا عن زيارته منذ زمن بعيد، وبعض الاقرباء الذين كانوا يترددون عليه بانتظام فيما مضى، كفوا عن ذلك بالتدريج ولم يعد يفعل ذلك الا تلك الجارة، بينما آثر بقية الجيران السلامة واكتفوا بالتساؤل فيما بينهم عمّا تحتويه تلك الحقيبة التي ترافقه في رحلته اليومية من البيت الى المحطة وبالعكس.
قال البعض:
- آلة موسيقية.
- او لعلها ملابس قديمة.
- قد تكون مجموعة نوتاته.
- أو مجموعة اسطواناته.
- ولكنه لم يعد يملك شيئاً.
- إذاً لابد انها فارغة.
لم يسأله عن ذلك أحد، ولعل ذلك كان عائداً الى محاولة تجنبه قدر الامكان اذ انه كان سيجيب بثرثرة تتصل بكل المواضيع إلا موضوع السؤال، وقد لايجيب البتة مكتفياً بفتح فمه تلك الفتحة القسرية المستطيلة التي تشبه الابتسامة ولكنها لاتمت اليها بأيما صلة.
أجلسته الجارة عند طرف الاريكة، وجلست هي عند الطرف الآخر تفصل بينهما الحقيبة.
قال العجوز:
- لقد نسيت مااريد ان اقوله.. فأنا هكذا دائماً، عندما أريد الكلام أنساه.. وعندما أتذكره لاأجد من يصغي.
قالت الجارة تسأله بآلية:
- ماذا تضع في هذه الحقيبة؟
قال العجوز دون أن يعر للسؤال أية أهمية:
- لا.. لا.. لا.. أنا أفعل كل شيء بنفسي.. فأنا كما ترين أجيد عمل كل شيء تقريباً. ولطالما تساءل الكثير عن قابلياتي المتعددة، انها موضع دهشة دائماً.. انا اعرف ذلك.. ولكن لماذا يتعمد الناس اخفاء دهشتهم بي.. أعني.. أعني.. اوه.. دعيني أكمل.
قالت الجارة وكأنها تحدث نفسها:
- أعرف أنك مدهش.. ولكن ماذا يوجد في هذه الحقيبة؟
قال العجوز:
- قائد الاوركسترا مثلاً كان شديداً معي ولكنه لم يكن ليخفي إعجابه بي..
قالت الجارة تجاريه بنفاد صبر:
- بالتأكيد، ولكن ماذا يوجد في هذه الحقيبة؟
قفز القط الى مسند الأريكة فتطاير غبار خفيف خلف فيما بعد قدمي القط مطبوعتين على ظهر القماشة.. وعلى المنضدة الوسطية باتت آثار اقدامه اقل وضوحاً بسبب طبقات الغبار الجديدة التي غطتها.. أثارت قفزته الهواء فتحركت رائحة المكان المشبعة بالعفونة نتيجة لاختلاط رائحة الرطوبة المنبعثة من جدران الغرفة مع رائحة اعقاب السكائر المتناثرة في زواياها.
رفع العجوز رأسه الصغير بانتباه كقط فز من غفوته، وكان وجهه الذي يشي بوسامة باهرة في صباه.. معلّماً في عدة مواضع منه بكدمات وجروح طرية، أرادت الجارة أن لاتضيع فرصة الانتباه تلك، وقد أحست لأول مرة منذ عرفت ذلك الرجل بأن حياة ما قد دبت في أوصاله، فعادت وسألته قبل أن يأخذه الخرف مرة أخرى:
- ماهذا الذي تحتفظه به في هذه الحقيبة؟
ارتجفت شفتا العجوز والتمعت عيناه ببريق عجيب، ثم قال وكأنه يتذكر شيئاً نسيه منذ زمن طويل:
- الياقوتة.. الياقوتة.. إنها هدية من الفرقة التي كنت أعمل فيها. لاأدري أين أصبحت تلك الفرقة، كم من أعضائها أموات الآن.. ولايهمني من عاش منهم او مات، فهم جميعاً أحياءً في ذاكرتي.. وفي كل مرة أفتح فيها تلك العلبة تصفو أمام عيني كل الأمجاد التي حلمنا بها وكل الأحاسيس التي عشناها سوية: الخوف مع كل حفلة جديدة.. الفرح الغامر بعد نجاح حفلة ما.. الجلبة التي تسبق تدريباتنا.. صوت قائد الاوركسترا.. كان ذا صوت حازم، ذات مرة نهرني بشدة لأني تأخرت ولكنه لم يكن ليخفي إعجابه بموهبتي.. وحتى الفتى، أوه ياربي لم أعد أذكر اسمه، والذي كان يوزع علينا أقداح الشاي في فترات الاستراحة، أراه في هذه الياقوتة الصغيرة. إنها بلورتي السحرية.. وأنا اقول حسناً فعلوا، إذ أهدوني اياها يوم تقاعدي من الفرقة.
ثم تمتم بصوت خفيض: فأنا مدهش.
وانحنى على الحقيبة ليسحبها.. فقفز القط إلى حضنه، ولكنه نهره بحركة من يده. فتح فمه تلك الفتحة القسرية وراح يطقطق فكيه ببعضهما، وهو يعالج ألسنة الحقيبة بشكل آلي دون أن يبدو عليه إنه يعي تماماً مايفعله. أخرج علبة من القطيفة السوداء المغطاة بالتراب. فتحها وأخرج منها حجارة حمراء صغيرة مؤطرة بسلك من الذهب.. امتلأت الجارة دهشة وانفعالاً وأشرق وجهها بالفضول لرؤية ذلك البريق الصافي المنبعث من تلك الجوهرة الراقدة في جوف العلبة والذي يتنافر بحدة مع كل موجودات الغرفة الهرمة.
قال العجوز:
- رائعة أليس كذلك؟
قالت الجارة بحرارة وقد زاغت عيناها:
- بالتأكيد.
عاد العجوز وعبّس من جديد وأغلق العلبة بحركة عصبية:
- ثم لماذا أنت هنا؟ أنتم جميعاً تتعمدون ازعاجي….. هيا أخرجي.. أو دعيني أخرج أنا.
قال العجوز وهو يعيد العلبة الى مكانها، ثم نهض بجسمه النحيل إلى الباب يحمل حقيبته الجلدية الكبيرة. أصطدم رأسه بحافة الباب وهو يحاول أن يرد ضلفتيهما إلى بعض، وأراد أن يرفع يده ليفرك موضع الكدمة ولكنه وجد نفسه، وقبل أن يفعل ذلك، أمام رجل واقف عند الباب يرتدي زياً رسمياً ويعتمر قبعة.
- السيد….
- برووم.. برووم… بم بم بم.
- هلا تفضلت معنا. سننقلك الى مكان مريح تجد فيه رعاية صحية طيبة.
اتسعت عينا العجوز بهلع، ثم تراجع قليلاً الى الوراء وهو يشد من قبضته على ممسك الحقيبة.
قال الشرطي:
- لاتخف، ستجد من يهتم بك كثيراً هناك….. هيا أيها السيد…. فلن تندم على الذهاب.
التفت العجوز الى القط بعينين ملتمعتين وقال محرّكاً لسانه بصعوبة بالغة:
- دو..
تململ القط قليلاً يبحث لجسده عن وضع مريح.. قال الشرطي بأدب:
- لديك ماتشاء من الوقت لحزم حوائجك. سأكون بانتظارك.
كانت بداخله رغبة شديدة لاطلاق ذلك اللحن ذي الشجن الآسر.. ولكنه لم يجد في عضلات فمه القدرة على ذلك.. وأحس برأسه يدور وبجسمه يغرق في بحر من الفراغ رهيب. تقدمت الجارة اليهما وفي عينيها تلك النظرة الزائغة وقالت للشرطي:
- أرجوك ان تهتموا به جيداً.
- حسن.
- ولكن قبل أن تمضي به أيها الشرطي هناك في الحقيبة شيء يعود لي.. انها علبة من القطيفة السوداء كانت موضوعة فوق جهاز التلفزيون في بيتي.. وقبل أيام، وفي إحدى زيارات هذا العجوز لي، أخذها وتشبث بها ولم يقبل بإعادتها إلى مكانها.. تعرف…. إنه رجل خرف طاعن في السن.. ماشيته في جنونه وتركته يحتفظ بها على أمل ان يعيدها لي من تلقاء نفسه.. اما الآن فأنا أريد استرجاعها وسأعطيك أوصافها لتتأكد من عائديتها لي.
وبحركة من يدها أفسحت المجال للشرطي الواقف عند الباب لأن يفتح الحقيبة ويعطيها علبة الياقوتة. ومرة أخرى أراد العجوز أن يقول شيئاً ولكنه لم يستطع، وتخيّل انه يمد يده ليستعيد العلبة فتسقط يده في الفراغ الرهيب وإنه ينادي عليها فلا يسمع لنفسه صوتاً. لبث واجماً فاغر الفم بينما خفت الجارة مسرعة كالوهم مخترقة فتحة الباب المؤدي الى خارج المنزل.
أيلول 1983
من مجموعة الشخص الثالث.