الفيل والنملة
ميسلون هادي
دعا الفيلُ النملةَ إلى نزهة على شاطئ النهر، فرفضت النملة الخروج معه رفضاً قاطعاً، ثم أخبرته بأن ذلك لا يجوز ولا يمكن، بل هو ضرب من المستحيل. ولما سألها عن السبب قالت له السبب.. فهل تعرفن يا بنات ما هو السبب؟
– لأنها تخاف من الضياع؟
– كلا.
– من الغرق؟
– كلا.
– من البرد؟
– كلا.
– لماذا اذن؟
– ألا تعرفن الجواب؟
– كلا.
– لأنها تخاف على سمعتها من الأذى.
الضحكات التي انطلقت بعد الجملة الأخيرة من النكتة وجدتُ فيها شططاً ومبالغة كبيرة، إن لم أقل إني لم أجد لها مبرراً قط. بل لم يكن من المفروض الضحك أصلاً، للتهكم على نملة حكيمة ومتزنة تنظر إلى الأمور على أساس المبدأ، ومن الواضح أنها تريد الفوز بسمعتها الغالية قبل النظر إلى من يكون الرفيق الذي تخرج معه في نزهة على شاطئ النهر. وعند الأخذ بهذا المبدأ بنظر الاعتبار فلن يكون هناك في تصرف تلك النملة ما يستدعي كل هذه الكمية من ذلك الضحك والسخرية لمجرد أن هذا الرفيق هو فيل.. وماذا يعني أنه فيل؟.. ليكن قرداً أو ماموثاً أو غزالاً.. هذه تفاصيل تأتي لاحقاً في سياق المبادئ، أما سمعتها فهي أعز ما تملك النملة، والخوف عليها يأتي في المقام الأول الذي يسبق هذه التفاصيل، وفي المقام الأخير أيضاً حيث لا كلام بعد ذلك يجوز أو يمكن أن يقال. فالقضية بالنسبة للنملة كانت قضية مبدأ.
**
كل صباح أخرج إلى الشارع العام لأنتظر الحافلة التي تقلني إلى ساحة المتحف العراقي، فأتذكر تلك النكتة القديمة التي سمعتها أيام الجامعة، وألوم نفسي كثيراً لأني لم أجرؤ على إبداء رأيي الصريح بها.. إذ من الممكن جداً أن تصفني البنات بالبلاهة أو الغباء الشديد اذا ما أنا أنصفت النملة وانتقدت تلك القهقهات العالية التي أطلقتها عشرون بنتاً تبدأ أسماؤهن بحرف التاء، بعد سماع ما قالته النملة حول سمعتها الغالية.
في الساعة السابعة إلا عشر دقائق من صباح كل يوم، أخرج من البيت للذهاب الى الدائرة، وفي السابعة تماماً أنتهي من السير بمحاذاة حيطان الحدائق التي ترتقيها حشود النمل المكافحة بخطوط دقيقة بالغة الانتظام، فتبزع تلك النكتة في رأسي وتظل هناك. أظل أمشي والنكتة هناك.. أظل أمشي والنكتة هناك.. وحتى عندما تصل الحافلة فإني أصعدها وأنا أنظر إلى الأرجل.. وأقف فيها ساكنة كتمثال الحرية.. وإذا لم يسعفني الحظ بمقعد فارغ يجاور مقعداً آخر تشغله امرأة، فأني أفضل أن أمضي الطريق واقفة قرب السائق على أن أجلس قرب رجل غريب لا أعرفه ولا يعرفني.. لا يهم إن كان شيخاً أو شاباً.. مبصراً أو أعمى.. قزماً أو عملاقاً.. كسيحاً أو بطلاً للعالم بالقفز العالي… فهو في النهاية رجل. ولا أدري أي أذىً قد يلحق بسمعتي إنْ أنا جلست بجانبه وبقينا متجاورين طوال الطريق وكأننا ذاهبان إلى نزهة.
إذن “حسناً فعلت النملة”. أقولها لنفسي من السبت إلى الخميس حتى وإن بقيت واقفة كالتمثال أحدق بانزعاج شديد في الفتيات اللامباليات اللواتي يتعمدن الجلوس جوار الرجال الغرباء.. فالقضية بالنسبة لي ليست امتحاناً في درس الرياضة أو التطريز.. لكنها أولاً وأخيراً قضية مبدأ.
صديقتي (ملاذ)، التي تشبه القطط، كانت تقول بصوت خفيض: “بل هو عين العقل ياتوتة”، “ما أحلاها من جلسة تلك التي تجاورين فيه مكاناً يشغله رجل”، فأصمت ولا أجيب عليها وأنتظر منها أن تفهم مقاصدي بلا كلام.. ولا تفصيلات.. ولا دوخة رأس. فعلاً كم تمنيت أن تفعل ذلك ولكنها لم تكن تبالي أبداً. فقد ضاعت الحكمة مع الأسف، وانعدمت الآذان الصاغية، وانتشرت في أرجاء المعمورة عادة التحدث مع النفس بصوت عالٍ، ولم يعد عصر الأمثلة الساطعة أو الاعجاب المخلص بها، موجوداً كما كان، بعد أن لم يجد كل متعلم أمثولة بعجب بها بإخلاص غير نفسه.. وملاذ كانت معجبة جداً بنفسها من الصبح إلى المساء، ولا تنظر لغير مرآتها وانعكاس صورتها على ألواح الزجاج عندما تقف أو تجلس أو تمشي في الطريق. ولهذا هي لم تنصت يوماً الى الحكمة في جواب النملة.. ولم تتأملها أو تفهم القصد من ورائها كما ينبغي.. ولن تفعل ذلك أبداً.. المهم إنها كانت آخر من فهم الخطر الأعظم الذي داهم سمعتها عندما ضحكت مع أمين الصندوق ضحكة شنيعة تردد صداها في أروقة المتحف.. وأول من ضحك ضحكة نكراء عندما حدث لي ما حدث مع ابن الجيران في ليلة مشهودة من رأس شهر مشهود… ولا زالت تضحك ملء شدقيها حتى الآن.
**
أذني المرهفة التقطت وقع أقدامه على ممر الحديقة المحاذي لغرفة نومي.. وفي لحظة واحدة هي اللحظة التي سحبت فيها ستارة النافذة، رأيته ينظر الى وجهي ثم ينتفض ويتمدد ميتاً على الأرض. حدث هذا في الثانية عشرة مساءً من ليلة الإثنين على الثلاثاء عندما كنت أخلع فردة نعالي الأولى قبل أن أنام، وبعد ذلك بلحظات كان أول شيء فكرت فيه هو أني حمدت الله رب العالمين أنْ لم يرني في ثوب مفتوح أو وضع غير لائق، وأنه لا شيء غير وجهي هو كل ما رآه مني عندما سحبت فيها ستارة النافذة.. هذا فعلاً هو أول ما خطر ببالي.. وأنا أعني ما أقول وأؤكد لك ياملاذ أني نظرت إلى منامتي اولاً وتأكدت من احتشامها، قبل التفكير بذلك الرجل الغريب الممدد ميتاً في حديقة البيت.. ومن الواضح أنني لم أستوعب تماماً ما حدث أمامي إلا بعد لحظات من الارتباك.. تبعتها لحظات أخرى سمعت فيها صوت بعيد لضحكات البنات تبارك وتارا وتمارا وهي تنطلق بعد الجملة الأخيرة من النكتة للتهكم على نملة حكيمة ومتزنة تنظر إلى الأمور على هذا الأساس. لم أستطع الصراخ أو الاستنجاد بأحد بل ذهبت الى أختي وأيقظتها من النوم وأنا أرتجف وقلت لها:
– انهضي.. قومي.. هناك لص في الحديقة.
تسمرت أختي في فراشها ورفضت مغادرته وقالت على الفور:
– نستنجد بالجيران.
قلت لها:
– ما هذه الفضائح؟ لننظر أولاً ماذا حدث له.
قالت وهي تكاد تبكي:
– أخاف.
– لا تخافي.
– لا عفية.. أخاف.
– قلت لك لا تخافي.. الأبواب كلها موصدة.. سننظر إليه من النافذة.
سارت تمشي حافية خلفي، وقلبها ينبض فوق ظهري.. وعندما وصلنا إلى نافذة غرفتي ونظرنا من خلالها إلى الحديقة، وجدناه لا يزال ممدداً في المكان الذي سقط فيه. صرخت أختي من الرعب فأسكتُّها فوراً وقلت:
– هششششششش.. مهلاً.. لا تصرخي.
قالت بذعر:
– هل هو ميت؟
قلت لها:
– يبدو كذلك.
صرخت أختي بصوت باك:
– ماذا تنتظرين؟.. لنتصل بالنجدة.. بالجيران.. بأحدٍ ما.
قلت لها:
– وماذا نقول للناس؟ رجل ميت في حديقتنا؟
قالت:
– نعم.. لأنه رجل.. وميت.. وفي حديقتنا. فيجب أن نخبر أحداً من الناس.
قلت لها بحزم:
– اصمتي.. دعيني أفكر.
قالت، وقد تحول صوتها الى شهيق وزفير:
– يا إلهي!.. تفكرين بماذا؟.. وهل هذا وقت التفكير؟
قلت:
– دعينا نخرج إليه.
قالت وقد نفد صبرها تماماً:
– لا.. لن أفعل.. يا الهي.. لا تفتحي الباب.. لا تفتحي الباب.. يا ناس.. يا عالم….. حرامي. ماما.. حرامي. ماما .. حرامي.
ثم فضحتنا بصراخها، وهي تركض هاربة إلى الحديقة الأمامية للبيت حتى أيقظتْ أمي ومن بعدها الجيران كلهم….. يالها من مجنونة .
**
في الساعة الأولى من التمام الجيران على بيتنا، أُجريَتْ الاسعافات الأولية لذلك الرجل من الصدمة الكهربائية التي أصابته بها مبردة الهواء وهي تعمل. وفي الساعة الثانية نقل إلى المستشفى لإنقاذه واتمام العلاج. وفي الساعة الثالثة عاد رجال الجيران إلى بيوتهم وأحكموا إغلاق أبوابها من جديد بعد أن قالوا لأمي بأنه قد اتضح أن اللص الذي وجدوه في حديقتنا ممدداً على الأرض هو ابن الأرملة التي يقع بيتها خلف بيتنا بالضبط.. وإنه ابن لعائلة محترمة معروفة وإنه ليست لديه سوابق في السرقة أو تاريخ في الاجرام.
اقترحت أمي إبلاغ الشرطة عنه ليأخذ الجزاء الذي يستحقه على فعلته الحمقاء تلك حتى وإن كان قد تجرّأ عليها للمرة الاولى.. وأخذتْ الرأفة بقلب اختي الرقيقة أي مأخذ، فقالت كلا.. كلا.. لنعفو عنه، فهو شاب صغير وابن عائلة معروفة ولا بد أن تكون قد دفعته إلى تلك الفعلة ظروف قاهرة. فقلت لهما باستغراب شديد بعد أن وضعت في رجلي فردة النعال الثانية: ألا نعرف أولاً ماذا كان يفعل في حديقتنا بالضبط، وهل جاء إليها من أجل السرقة فعلاً أم من أجل شئ آخر؟.. أليس المفروض أن نتأكد؟
هذا السؤال الذي لم يكن له في بالي جواب محدد، الجارات أم محمد وأم مهند وأم مخلد هن اللواتي تولين الإجابة عليه الجواب الشافي فأشبعنَه بحثاً وقصاً وتقليباً وتناولنه من جميع جوانبه واحتمالاته ووجوهه (السوداء طبعاً)، فقالت إحداهن:
– الناس بيت بلاء.. يقولون إنه شاب طائش وليس لصاً.. وربما لم يأت إلى حديقتكم من أجل السرقة، وإنما لكي يتفرج على البنات.
وقالت أخرى هامسة في أذني:
– ليلعنها الله أم حسون.. تتكلم ولا تبالي بما تقول.. تقول أشياء وأشياء وأشياء.. فهل هي تكرهك أم ماذا؟
قالت أمي:
– سامحها الله.. كيف تجرؤ على مثل هذا الكلام؟
ثم التفتت إليّ بغضب وقالت:
– سمعة الناس ليست لعبة … يجب إبلاغ الشرطة لإحقاق الحق.. وقطع دابر الألسن.
قلت لنفسي: “وماذا ستفعل الشرطة بعد أن حدث ما حدث واشتعلت شرارة الكلام”.
قالت أختي:
– من الواضح جداً أنه لص.. وعيب كل هذا الكلام.
قالت أمي:
– يجب إبلاغ الشرطة.
ولكن أليس من المفروض أن نتأكد أولاً، أو نتذكر النملة الحكيمة التي تريد الفوز بسمعتها الغالية، حتى لو كان الرفيق الذي ستخرج معه في نزهة على شاطئ النهر غراً أو يتيماً؟.. ثم أن أمه الأرملة جاءت الينا قبل ذهابها إلى المستشفى وتوسلت بنا أن لا نبلغ الشرطة عن جريمة ابنها.. فهو وحيدها وحياته هي حياتها.
قلت لها:
– أما سمعت كلام الناس؟
قالت:
– إنه شاب غر.. وما فعله طيش شباب لا أكثر.. تعالي معي إلى المستشفى واحكمي بنفسك.
**
ذهبت معها إلى المستشفى.. وهناك وجدناه حافياً تتدلى قدماه من حافة السرير وكأنه طفل على وشك الخروج من البيت، انتهى من ارتداء ملابسه بكاملها، وجلس بانتظار أحد ما ليضع حذاءه في قدميه.
قالت له أمه:
– هذه هي ابنة الحاج محمود.. البيت الذي وجدوك فيه فاقداً للوعي.. ماذا كنت تفعل هناك يا ولدي؟
صمت ولم يجب، ولمحتُ ابتسامة عابثة تعبر شفتيه. قالت له أمه، وأنا أنظر اليه ملياً:
– هل كنت هناك من أجل السرقة؟
قال على الفور:
– أبداً.
قالت :
– إذن، ماذا كنت تفعل هناك؟
سكت مرة أخرى ولم يرد.. ولا ابتسم.. وراح يؤرجح قدميه الحافيتين في الهواء.
قالت الأم:
– والمفك الذي كان في يدك؟.. وبوابة المبردة المخلوعة من مكانها؟.. ماذا ستقول عنهما لو استجوبتك الشرطة؟!
صاح بفزع وهو ينظر إليّ:
– الشرطة.. لا.. أرجوك.. لا تضيّعيني.
قلت له:
– إن لم أبلغ الشرطة عنك، سيقول الناس إنك كنت في بيتنا لغرض آخر.
قال:
– لا.. أرجوك.. لا تبلغي الشرطة عني.. وأنا مستعد لأن أفعل أي شئ تريدونه.
قالت أمه:
– يا بني.. لقد عرّضت سمعة البنات للشائعات .. فماذا يمكن أن تفعله؟!
قال وهو يلتفت الي:
– سأفعل أي شيء.. أي شيء.. فقط لا تسلموني للشرطة.
قلت له وابتسامة عابثة تعبر شفتي:
– أي شيء؟!.. مثل ماذا؟!
قال وقد أصبح يؤرجح قدماً واحدة:
– أي شئ.
ثم نظر إلى وجهي وضحك، فارتجف قلبي وفكرت أنه كثير الشبه بممثل أمريكي وسيم استضافته أوبرا في عيد ميلادها الخمسين الذي يطيّر العقل من اليافوخ.. طار اسمه من بالي وأنا أحاول أن أضع على وجهي تعبيراً من تلك التعابير القططية التي تضعها صديقتي (ملاذ) على وجهها عندما تتحدث إلى الرجال، فقلت له وأنا أنظر إلى قدميه:
– قابل تخطبني.. لا.. لا.. أنت صغير.. ولص.. وبلا شهادة.
فقال وهو يجعل كلامه على شكل سؤال:
– هذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذي من السجن؟
ولم أجب، فاردف بسؤال آخر:
– وانقاذ سمعتك من الأذى؟
ثم رفع قدمه الحافية إلى أعلى السرير بانتظار جواب آخر غير السكوت…. ولكنه لم ينتظر طويلاً.. اذ أجاب السكوت على السكوت.. فأعاد قدمه الى الأرض وشرع بارتداء الفردة الثانية من حذائه على عجل.
**
في الحقيقة، كنت أعرف أن عرضه ذلك بالزواج سيؤكد الشائعات بدلاً من أن ينفيها. ومع ذلك، فقد قبلت وامتناني عظيم لتلك اللحظة التي جاء بها القدر بهذا الشاب الوسيم الى حديقة بيتنا. صحيح أنه أجمل مني وأصغر مني، نسبياً، وطائش كل الطيش وبلا شهادة معتبرة إلا إن تلك كانت هي المرة الاولى التي يطلبني فيها رجل للزواج.. فهل تقبلين ياملاذ أن أسلمه للشرطة ؟!!.
(ملاذ) التي جربت هذه المشاعر عشرات المرات، وتقدم لخطبتها رجال كثيرون قالت وهي تضحك:
– يا ما تحت الساهي دواهي.. ألا تخاف النملة على سمعتها إذا ما تزوجت الفيل؟
قلت لها:
– نعم تخاف.. ولأنها تخاف على سمعتها فقد قبلت الزواج به.
قالت وهي تتغامز:
– أتتزوجين لصاً ياتوتة من أجل الخوف على سمعتك؟
قلت لها:
– من الواضح أنك لن تفهميني أبداً… النملة ستأخذ على عاتقها تحويله من لص إلى زوج صالح.
فقالت وهي تبتسم بمكر:
– بل أفهمك تماماً.. فالقضية بالنسبة للنملة هي قضية مبدأ.
ثم انفجرت بضحكة نكراء مجلجلة.. ولا زالت تضحك حتى الآن.