الطاحونة
ميسلون هادي
توقفت الحافلة المضاءة بنور خافت وصعدت إليها الفتاة الوحيدة التي كانت تقف في المحطة المنزوية خلف شجرة سرو.. تلفتت تبحث عن مقعد فارغ فأشار إليها احد الراكبين إلى الخلف .. ومع تحرك الحافلة من جديد استوت هي في أحد المقاعد الخلفية على الجانب الأيسر . وراحت ترقب من خلال النافذة أعمدة المصابيح وهي تمر بسرعة متلاحقة وبشكل منتظم. إضاءة الحافلات تضايقها كثيراً وتبعث في نفسها شعوراً بالحزن يجعل شطراً من قلبها يخفق ويرفرف كعصفور .. فكرت أن ذلك النور الأصفر الشاحب يذكر بالظلمة أكثر مما يبددها وكأنه يتسلل إليها من عصر بعيد ليمسك بخناق الحافلة ويرميها إلى عالم آخر من الفناء .. من الأبدية .. من الأفكار المخيفة عن البشر الذين عاشوا وماتوا .. عن الأديم الذي نمشي عليه…. عن العصور القادمة التي سيشهدها الجميع إلا نحن.. عن ….
(ما لهذه العجوز تنظر إلي هكذا؟؟؟) .
حاولت الفتاة تجاهل تلك الجارة الفضولية ولكنها كانت قد التفتت إليها بعينين شاخصتين تبحث في وجهها عن شيء ما ، تحاول كما يبدو تذكره دون جدوى .
نظرت الفتاة إليها في عينيها فحولت المرأة نظرها عن الفتاة وهي تتمتم باستفهام :
– يسرى ؟
التفتت الفتاة بدهشة إلى المرأة وابتسمت لها بعينين مستفهمتين .. تحول الهدوء الذي في وجه المرأة العجوز فجأة إلى شيء ما غريب، غامض، مجهول وأخذت ملامح وجهها تغرق في لجة من الدهشة والذهول واقتربت زاويتا فمها من بعضهما والتمع في عينيها بريق رعب خاطف .. بدت وكأنها تحاول، دون جدوى ، أن تطرد من رأسها فكرة مستحيلة . بعد قليل قالت العجوز وغشاء من الدمع يترقرق في عينها :
– اسمك يسرى ؟
أجابت الفتاة :
– نعم أتعرفينني ؟
أحست العجوز بالتنفس في صدرها يتقطع وبشفتيها ترتجفان ، أسندت جبهتها إلى يدها ولكن العالم ظل يترنح أمام عينيها حتى كاد أن يختفي ويغيب . قالت الفتاة وهي تتفحص وجه المرأة العجوز :
– أنا أيضاً أكاد أعرفك .
قالت المرأة بصوت متهدج :
– ما أسمك الكامل ؟
ترددت الفتاة قليلاً ثم أجابت :
– يسرى عبد المجيد ، ولكن …
قالت العجوز :
– هذا مستحيل !
قالت الفتاة :
-مهلاً .. أنتِ ؟؟
قالت العجوز وهي في حالة أقرب إلى الذهول :
– تعرفيني ؟
قالت الفتاة :
– كيف يمكن ذلك ؟؟ يا إلهي هذا غير معقول . أتكونين دنيا الحكيم ؟؟
نظرت العجوز إليها بشيء من البلاهة فعادت الفتاة إلى السؤال بصبر نافذ :
– هل أنتِ دنيا الحكيم ؟
قالت العجوز وقد أنهكتها الحيرة الشديدة وأودعتها إلى شيء من التمهل والاستسلام :
– نعم . ولكن لابد أني احلم !
قالت الفتاة :
– أيعقل ذلك ؟ انك عجوز .. أقصد .. انك تبدين في الستين أو أكثر .. يا الهي ! لماذا شاخ وجهك هكذا .. أنتِ دنيا ؟ بالتأكيد . عيناك الخضراوان ، وغمازة الحنك .. كيف أنساها . دنيا، الم نكن سوية في المعهد منذ سنتين ؟ انه لشيء فظيع ماذا حل بك ؟ ماذا حدث ؟!
أجابت العجوز وهي ترفع يدها إلى جبهتها مرة أخرى :
– سنتين ؟؟ ماذا تقولين.. إنها أكثر من أربعين سنة يا يسرى،فكيف يمكن أن لا تتغيري أبداً بعد هذه السنين الطويلة ، لازلتِ بالعشرين ،فلابد انه حلم أو كابوس .
كانت الفتاة لا تزال تتفرس في وجه العجوز تبحث فيه عن خضرة العينين وخط الغمازة العميق وكل شيء في داخلها يتجه إلى فكرة واحدة.. رأت بأن مايحدث لابد أن يكون مجرد وهم أو حلم بالفعل .. ثم فكرت . أيكون لذلك كله علاقة بحادثة المطعم قبل يومين عندما نبهتها صديقتها إلى أنها قد سكبت بعض الشاي على ساقها الأمر الذي لم تحس به على الإطلاق ، رغم حرارة الشاي .. عللت الأمر حينها بالشرود والإرهاق ولم تعط الموضوع أهمية كبيرة . (ولكن الذي يحدث اليوم لا يمكن أن يكون شروداً .. لا يمكن على الإطلاق . وإلا كنت مجنونة . ومجنونة تماماً) .
قالت الفتاة مرة أخرى :
– ولكنها سنتان فقط يا دنيا !
كان الخوف قد زال عن وجه المرأة لوهلة وحل محله شيء من الاستسلام ولا مبالاة العجائز قالت :
– بل أربعين . ألم يكن أبو العينين هو أستاذ الاقتصاد وعبد الرحمن هو أستاذ المحاسبة و .. آه لم اعد أتذكرهم ؟!
قالت الفتاة :
– نعم .. نعم .. هذا صحيح .. ولكن ذلك كله حدث في وقت قريب كأنه البارحة فقط . نعم كأنه البارحة.. أنا رأيت عبد الرحمن قبل أشهر . انه لا يزال هو نفسه بشعره الأشيب وربطة عنقه الزرقاء .. أنا متأكدة من ذلك .
قالت العجوز :
– بل لابد انه ميت الآن .
قالت الفتاة :
– بل هو حي .. أنا رأيته بعيني هاتين .. لا يمكنني أن أخطئ ربطته الزرقاء الشهيرة .. آه تذكرت شيئاً آخر .. سامي مدرب الرياضة رأيته أيضاً في النادي ذات يوم وسلم علي بحرارة . إنه لم يتغير على الإطلاق.
قالت العجوز :
– لا زلت تلعبين السلة إذن ؟
قالت الفتاة :
– أتذكرين ؟
قالت العجوز :
– لم يكن بك حاجة لسروال الرياضة لتزيدي من اهتمام الرجال بك .
قالت الفتاة :
– لا تزيدي من غرابة الأمور أرجوك يادنيا ودعيني أسالك : الم تري أحداً من طلاب دفعتنا خلال هذه المدة ؟
قالت العجوز بشيء من الكسل :
– لا لم ار أحداً .
قالت الفتاة :
– أنا رأيت.. أنا رأيت . رأيت احمد وفادي وسرى . وأنتِ ألم تلتقي بأصدقائك ؟
قالت العجوز :
– لم يكن لدي أصدقاء .
قالت الفتاة :
– ولكنك لابد أن تكوني قد رأيت أحداً ؟
قالت العجوز :
– أنتِ أول واحدة أراها .
قالت الفتاة :
– أكنتِ مسافرة إذن ؟
قالت العجوز :
– لأربعين سنة ؟ لا أظن .
قالت الفتاة :
– أين كنتِ أذن !
قالت العجوز :
– يا له من أمر غريب .. يإالهي .. ما هذا النور الأصفر .. إنه مزعج جداً ولا يحتمل.
ثم نهضت متثاقلة ومضت إلى الباب وهبطت إلى الشارع.. تحركت الحافلة من جديد وسرعان ما غابت تحت رداء الليل الفسيح .
من مجموعة الشخص الثالث
1985