قصة الحمامة

الحمامة

ميسلون هادي

دلف (عوف) إلى البستان من ثغرة صغيرة في سوره الطيني فرآه جارهم (أبو منعم) وكان جالساً يعبئ كومة من البرتقال في سله كبيرة بجانبه.. صاح أبو منعم: .
– أين أنت ذاهب ؟ سأخبر أباك !!

فتجاهله الصبي ومر مسرعاً يخفي مصيدته في جيب دشداشته الجانبي .. تناهت إلى أنفه رائحة الأشجار مختلطة بنسيم بارد فشعر بانتعاش وتملكته رغبة بان يلتقي تلك اللحظة بجميلة فيجلس إلى جوارها على ضفة النهر ويأكلان من حبات الحمص الهشة .. لابد من أنها تقف الآن على الدكة الحجرية لدكان العم عبد الله ترمي ضفيرتها إلى الخلف بيد وتناول العم عبد الله القطعة النقدية باليد الأخرى . لم تقبل أن تأخذ منه النقود في البداية ، تدللت عليه وتمنعت وراحت تهشهش الخراف بعصاها كمن يريد أن يمضي .. ولكنه مشى خلفها وكلمها وبعد قليل كان كل الذي في يده هو رائحة المعدن . أنها لن تقبل بالتأكيد أن تجلس معه الآن ولو على ضفة الساقية . بل هي لم تعد تلاقيه أو تحادثه في الأيام الأخيرة كثيراً .. هو أكبر منها ولكنه لا يزال كل يوم يحمل مصيدته و(كف) حصى ويخرج لاصطياد العصافير بينما تحمل هي عصاها وطعامها ونظرتها الخجولة وتخرج للرعي … (أتظن أنها كبرت ؟؟ أنا أيضاً كبرت .. وسأتزوجها ..وسأضعها لوحدها في غرفة . لوحدها . بدون العصا وبدون شريط شعرها المنقط).

لا يذكر يوماً لم يكن يعرفها فيه .. كانت جارته ولا تزال .. صغيرة جداً تلعب معه بالكرات الزجاجية والحصى وترميه بحفنات التراب عندما (يزاغل) في اللعب .. هو يعرفها دائماً.. تماماً كما يعرف طوال الوقت أبواب البيوت وسماء القرية وشجر التوت في باحة المنزل. ولكنها تغيرت بسرعة، وأصبحت تغض طرفها عنه كثيراً ولم تعد تقبل أن تصعد معه إلى سطح المنزل ليلهوا بإطعام الطيور وسقيها ومراقبة حركاتها . كانت (جميلة ) تحنو على مخلوقاته الصغيرة تلك وتغمرها بالعناية والمحبة وكان (عوف) يجد متعة كبيرة في أن يحدثها عن طيوره تفوق متعته وهو يفعل ذلك مع أقرانه من الصبيان . ولو تقبل (جميلة) أن تصعد لتراها معه من جديد لطار فرحاً مثلما تفعل  الطيور التي تلوح له في الأفق الذي ترسمه قمم النخيل كلما وقف يتفرج على القرية من سطح المنزل .

انتبه إلى صوته وهو يحدث نفسه فالتفت حواليه كأنما ليتأكد من أن أحداً لم يره . قفز عابراً ساقية يجري فيها الماء بقوة فأغراه ذلك بان يفترش ضفتها ويشرب من مائها الدافق . وتذكر انه لم يرَ أباه خلال مروره بالبستان . وراح يعبث بالأوراق الساقطة والعيدان اليابسة ويرمي بقطع الحصى إلى ماء الساقية . (يجب أن لا أتأخر كثيراً) قال لنفسه (فلابد أن البيضات قد فقست الآن . ولابد أن أفراخ الحمامة تتدافع الآن بمنتهى الفوضى بين قشات ذلك العش المختبئ بين سعفات النخلة . خطية لا تعرف إنها جاءت الى الدنيا).

تحول بقفزة واحدة من وضع الجلوس إلى الوقوف ثم تلفت يتأمل المكان فيما حوله وفي رأسه تتزاحم الأفكار حافلة مستقرة لا تجعله يطيق المكوث في مكانه لحظة واحدة : هل يزور خليه النحل الملتصقة بسياج كوخ الحارس تحت شجرة التوت ؟؟ أم يقطف بعض ثمار اللالنكي في غفلة من عيون الفلاحين ؟ أم يمر على تلك النخلة ؟؟ تلك النخلة ؟؟؟؟؟ أسبوع مضى مُنذ رأى هو ذلك العش الجديد والرغبة في أن يصعد إليه لا تبارح مخيلته .. لم يكن خائفاً من تسلق النخلة ولكن من أبيه  ومن صعوبة أن يفعل ذلك دون أن يراه أحد . كان متأكداً أن هناك عشاً بين سعفاتها . هو رأى الحمامة ورأى قشات العش تبين له من زاوية صغيرة تقع عند التقاء عذقين بجذع النخلة . لم تكن النخلة عالية جداً ومكانها وإن كان منعزلاً بعض الشيء إلا أن أحداً ما سيراه حتماً أذا ما تسلقها حتى القمة . ولم يكن (عوف) يملك كلما مَّر ولاح له ذلك العش أكثر من أن يقف دافعاً رأسه إلى الخلف ليلقي نظرة طويلة متأملة ثم يؤجل الفكرة إلى اليوم التالي . مضى إلى النخلة وهو يفكر بأنه إن لم يصعدها فسيقطف بعضاً من ثمار اللالنكي قبل خروجه من البستان.. كانت تحيط بالنخلة مجموعة من أشجار الحمضيات تلقي على المكان ظلاً بارداً وحولها مباشرة تخلو الأرض المستوية إلا من عشب منخفض تنبت بينة زهور صفراء برية.

جلس (عوف) تحت النخلة مستنداً بظهره إلى جذعها ، تحسس بيده موضع المصيدة في جيبه ثم لملم أطراف حواسه كلها كمن يجمع زوايا صُرة ليعقده .. وراح يرهف السمع للخشخشة الخافتة المنبثقة من قمة النخلة .. لم يكن يرَ شيئاً غير الأفق الذي ترسمه قمم النخيل وهو مغمض العينين يستمع إلى أصوات ضعيفة لا يدري أكان مصدرها الجوع أم الخوف أم أي شي أخر . وظل هكذا لفترة تمنى لو أنها لا تنتهي أبداً وظن لوهلة إن ذلك الأفق فراش وثير يمشي عليه فيرفعه إلى أعلى وان العالم بأسره ساكن يرهف معه السمع لذلك الصوت الواهن الآسر القادم من العش . تحركت أشجار البرتقال القريبة بحركة خفيفة لم ينتبه إليها (عوف) في بداية الأمر حتى انه كاد يصرخ من إجفاله عندما وقع نظره فجأة على رجل بدين يظهر من بين الأشجار ويتقدم نحوه . اضطرب (عوف) وهو ينتزع نفسه بصعوبة من لُجة استغراقه الطفولي ثم يمد يده إلى جيب دشداشته بارتباك . لم يتعرف على الرجل حال رؤيته له ولكن سرعان ما ميز فيه وجه (محروس) سائق العربة . نظر إلى وجهه بحدة ، وخوف المفاجأة لا يزال يعبث بأنفاسه .. وأحتار لوهلة ماذا يفعل أو يقول وظل قابعاً في مكانة يشاغل عينيه عن (محروس) بالنظر إلى دودة قز ملتصق جسدها الأخضر الطري بعناد إلى عود رمان يابس . قال محروس وأصابعه تعبث بشاربيه الرفيعين :

– ماذا تفعل هنا يا عوف ؟

تذكر (عوف) أن ليس هناك داع للخوف من ذلك الرجل فهو ليست له بالبستان أية علاقة ولابد انه هو الآخر مار به لسبب أو لأخر . وأراد أن يخبره عن عش الحمامة الوجود أعلى النخلة، ولكنه لم يشعر بحماسة لذلك . حرك (محروس) دشداشته في موقع أسفل بطنه ثم اقترب من عوف ومس كتفه بيده وقال :

– صغار الحمامة ؟؟؟ سأنزلها لك أن أردت .

دفع (عوف) عود الرمان اليابس بقدمه فالتفتت الدودة عليه والتصقت به بقوة . كان (محروس) يتطلع إليه بنظرات يشوبها احمرار خفيف ويمسح العرق عن أنفه باليد الأخرى .. تلفت (محروس) يمنة ويسرة وفمه مفتوح لم يعرف(عوف) كيف يفهم انفراجه .. لم تكن ابتسامة بالتأكيد .. كان فيها شيء غامض خافه (عوف) دون أن يفهمه .. شيء جعل رأسه يضج فجأة بهمهمة أهل القرية و بكلمات مبهمة طالما سمعها عن محروس .. نظر إليه عوف في عينيه ثم تراجع قليلاً إلى الوراء بشكل عفوي لا يدري ماذا يفعل .

وظن لوهلة انه غير معنى بهذا الموقف على الإطلاق وان على أحد ما أن ينهيه بدلاً عنه . قطع (محروس) على (عوف) لحظات تردده وخوفه الصامتين واستدار إلى النخلة يريد أن يصعدها كيما يحسم الأمر ويبقى على عوف في مكانه . شمر عن ثوبه وتقدّم تشيعه رائحة نتنة ثم تلقف جذع النخلة بذراعية وراح يتسلق كرب النخلة بخفة لا تتناسب مع ثقل وزنه . نظر (عوف) إلى جسده المكتنز ورأسه الكبير فوجد نفسه في عربة العيد المكتظة بالأطفال يقودها محروس وهي تسير بهم في شارع القرية الرئيس . ضجت فجأة في رأسه وفي قمة النخلة زقزقة الحمائم الصغيرة الخائفة فانتبه إلى محروس ورآه يرفع دشداشته بيده جاعلاً منها ما يشبه الكيس يرفرف في داخله جسد صغير لائب . وكان وهو يقبض بشدة على أطراف الدشداشة تحمر أوداجه السمينة وتلتمع عليها قطرات عرق صغيرة سرعان ما تسيل منحدرة فوق عروق رقبته النافرة . نظر عوف إلى محروس وجسده الهائل ودشداشته المرفوعة إلى أعلى وفي داخله ينبض أحساس غريب . شيء يشبه الدوار الذي لا يعرف سببه بالضبط .. أحس انه لا يريد ذلك الطائر .. لا يريده أبداً .

تمنى لو أن تلك الحمامة الصغيرة تفتح أسارها وتطير فتعود تسقط أطراف دشداشة محروس إلى أسفل ويكف عرقه عن الجريان .. خطية .. كيف تقدر على ذلك وقبضته القوية تطبق عليها داخل تلك الدشداشة المرفوعة إلى أعلى .. أحس عوف أن وقوفه أمتد هناك لسنين طويلة وان لقلبه صوتاً يدوي في أرجاء البستان فتسمعه حتى نحلات خلية الكوخ ….. هو يتعثر بالحارس كل يوم فأين هو هذه اللحظة عليه اللعنة وعلي اللعنة .. وعليك يا محروس .. عليك .. عليك يا ابن الكلب.

.. وأطلق ساقيه للريح لا يجرؤ حتى على الالتفات إلى مصيدته التي سقطت من جيب الدشداشة الجانبي وهو يعبر سواقي الماء .. ساقية .. ساقية .. ساقية.

مجموعة الشخص الثالث

1985

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *