استتباب
ميسلون هادي
وقفت عند الشارع العام.. تنتظر سيارة صديقتها التي تقلها الى عملها المسائي كل يوم، متقدمة هذا اليوم بضع دقائق عن موعدها المعتاد، ومتسع الوقت الذي ادخرته من عودة زوجها المبكرة.. أتاح لها ان تنجز لمسات أخيرة في مظهرها لم يكن انجازها ممكنا في باقي الأيام: أن تمسح حذاءها.. وان تضبط خط الكحل في عينيها، وان تلبس ساعتها في معصمها الأيسر بدلا من ان ترميها في حقيبتها اليدوية، وهي تخرج على عجل.
تلفتت تبحث عنه فوجدته واقفاً ينتظر كالمعتاد: رجل في منتصف العمر.. بملابس غامقة وشعر أسود كثيف ومصفف بعناية.. وحذاء يبدو ممسوحاً ولامعاً على الدوام.. لاتدري هل كان يلمع واقفاً هكذا قبل مجيئها ولم تنتبه اليه عندما وقفت، أم إنه قد ظهر فجأة من زاغور خفي ومهمل في هذه المنطقة لاتعرف مكانه ولاتدري الى أين يقود. تساءلت لماذا يخلو المكان من المارة عندما يجيء وتتعطل الأصوات عن العمل ويظل الصمت يدور في دوائر.
دوائر بيضاء تبدأ صغيرة ثم تتسع وتتطاير قبل أن تصغر وتتلاشى في الفراغ. فكرت انه يفعل ذلك كل يوم.. ولاتعرف بالضبط لماذا؟ أيخرج كل يوم لأنه مرتبط بعمل يومي مشابه لعملها المسائي؟.. أيفعل ذلك مثلها ابتغاءً للرزق؟.. أيذهب إلى متجر أو كلية أو عيادة..؟ أم انه يلتمس علماً من العلوم في معهد من معاهد الدراسات المسائية؟! ولكن لماذا في الوقت نفسه من كل يوم.. هو الوقت الذي تخرج فيه بالدقيقة.. لابعدها بقليل ولاقبلها بكثير.. ليجعل ظهوره قاطعاً ومفاجئاً في اللحظة التي تقف فيها وكأنه موقت للحاق بها قبل ان تأتي السيارة لتأخذها؟؟ هل هي مجرد مصادفة أم أنه، وهذا ما أخذت ترجحه في الايام الاخيرة، يراقبها من بيت مجهول وينتظر خروجها كل يوم ليخرج بعدها مقتفياً اثرها كظل داكن اصبحت تراه مسفوحاً على الأرض كلما خرجت إلى موعد عملها كل يوم؟؟
التفتت اليه مرة أخرى فوجدته ينظر اليها بلا تعبير معين في وجهه سوى الوجوم.. قالت لنفسها “وجه جامد كهذا يصلح لمهمة المراقبة.. ولكن من كلفه بها؟ ولماذا يكلفوه بهذا العمل؟!”.
ماهي إلا مترجمة تجيد الانكليزية بطلاقة وتساعد صديقتها الصيدلانية في تمشية وصفات المراجعين وتلبية طلباتهم.. وفي الصباح عندما يكون زوجها في العمل وأطفالها في المدارس تستيقظ من النوم منهكة.. مشوشة.. متجهمة الوجه لتدور في دوائرها المكوكية اليومية بين المكنسة والمكواة والغسالة والطباخ وحوض غسيل الاطباق، ثم تسلم خفارة البيت بعد أن تنتهي من اطعام الجميع الى زوجها وتخرج الى عملها المسائي.
جربت أكثر من مرة ان تخرج قبل الوقت.. وجدته هناك.. أن تخرج بعد الوقت.. وجدته هناك.. واليوم ايضاً هناك.. تشاغل عنها بايقاف سيارات أجرة مشغولة بالركاب أو التظاهر بالنظر إلى ساعته بين حين وآخر تبرماً من اضطراره الى التأخر.
نظرت اليه باستفهام وحزم فتشاغل عن نظرتها بايقاف سيارة أجرة كانت مشغولة أيضاً.. ثم نظر إلى ساعته مرة أخرى وتبرم. لم تعد صغيرة السن لتعتقد انه يلاحقها كامرأة فهي متزوجة وأم لأولاد كبار، ولاشيء في مظهرها البسيط والمحجب يشجع على مثل تلك الملاحقة.. أرادت ان تمضي وتسأله: “لماذا يراقبها؟ ومن كلفه بهذه المهمة؟” ولكن أي جواب يمكن أن يصلح لسؤالها غير الاستغراب او الإنكار أو الصمت؟
تجرأت ونظرت اليه نظرة زجرة، فتشاغل عنها باصلاح خصلة من شعره كانت ساقطة فوق جبينه العالي منذ عدة دقائق.. مرت سيارة نقل مسرعة تتعثر أذيالها بأغنية لعبد فلك، فأخذت رقمها وسيارة أخرى شمرت خلفها أغنية لجورج وسوف، فأخذت رقمها ايضاً، أما الثالثة فقد تعمد سائقها أن يبطئ في سيره ويتمهل ويقف. التفت سائقها اليها وهو يبتسم، وعندما لم تستجب له بالصعود أطلق كلمة نابية ومضى.. لو كانت قد سمعت تلك الكلمة قبل عشر سنوات لغلي الدم في وجهها من شدة الخجل، ولكنها لم تشعر سوى برغبة في الابتسام كبحتها بقوة، وهي تفكر بأن الأذن تتحول مع مرور الزمن الى سلة للمهملات، وأن الوجه يتحول الى صندوق ملابس عتيقة محكم الاغلاق. وراحت تطرح حاصل جمع الرقمين من رقم السيارة الثالثة لتتعرف على رقم حظها لذلك اليوم. سيارة أخرى مرت وأثارت عاصفة من الغبار حولهما… ثم انقطع الشارع تماماً من السيارات ولاح يحلق في الفضاء البعيد طائر أسود يسبح فارداً جناحيه في الهواء وهو يقترب منهما تحت غيوم بيضاء متناثرة تخللتها أشعة الشمس الغاربة، فجعلت حافاتها حمراء كالجمر.. تقدم الرجل قليلا باتجاهها ثم دمدم بشيء ما.. ثم تقدم مرة أخرى.. ثم سكن تماماً.
نظرت اليه باستغراب ثم تساءلت مع نفسها لماذا تأخرت سيارة صديقتها كل ذلك التأخر؟.. سكون الشارع امتد واصبح شاسعاً يردد صياح ذلك الطائر الأسود وهالة الشفق الارجواني احاطتها بالصمت المبهم ثم بالخوف ثم بالتوجس. ترى ما الذي سيحدث بعد هذه الإشارات؟ وهل ثمة شيء تفعله لكي تمنع حدوث هذا الشيء؟ هل تعود أدراجها الى البيت؟ هل تستقل سيارة أجرة وتغادر هذا المكان على عجل…. لم يكن امامها من حصن او ملاذ.. فهذا الرجل يحاصرها كالأفعى.. وهو يخرج من جحر خفي في الارض كلما رآها تتقدم نحو الشارع العام في الساعة الخامسة من كل يوم: وسامته مفرطة.. وعيناه واسعتان.. وطوله الفارع قريب الشبه بقامات الممثلين الكبار.. وكل تلك المميزات لم تكن تجعله أليفاً إليها، بل على العكس كانت تجعله في نظرها.. مريباً.. وغريباً.. ومثيراً للشبهات.
سألت زوجها عنه ووصفته له وصفاً بالغ الدقة.. فأطرق قليلاً ثم قال:
- لايوجد مثل هذا الرجل في محلتنا.
قالت له:
- أتعتقد انه يراقبني؟
قال لها:
- سأخرج معك يوم غد لأراه.
عندما خرج معها في اليوم التالي.. كان ثمة رجال يقفزون الى الشارع من دكات سيارات النقل العام كأحصنة الشطرنج، ورجال آخرون يتقدمون ويتأخرون في مواقعهم كالجنود.. ولكنه لم يكن هناك.
قالت له زوجته:
- ألم أقل لك؟؟ هذا يؤكد احساسي بأنه يراقبني.. لقد رآك معي فظل مختبئا في حجره الافعواني.. ربما ينظر لي الآن من شباك في غرفة.. أو كوة في جدار.. يشمت بي ويضحك في سره..
نظرت الى ساعتها فوجدتها تشير الى السادسة والربع.. بقيت على توقيتها الصيفي الكاذب.. والشتاء الطيب قد سمح للخريف العابث هذا العام بمزيد من الأيام الدافئة، فانطلت الحيلة عليه وراح يلهو خلالها مع أوراق الأشجار اليابسة وأكياس النايلون الفارغة وخرق القماش الممزقة والمنفية من كل شكل ولون..
قالت في سرها:
- إنه انيق جداً.. ولايبدو عليه انه من رجال المراقبة!
ثم اغلقت سترتها واحتمت بها من الجو الذي أخذ يبرد.. تقدم الرجل عرضياً هذه المرة وكأنه يمشي على هواه. وكان الشارع لايزال على صمته الشاسع المديد.. تساءلت المرأة في سرها.. “لماذا لم تعد السيارات تجري؟.. ولماذا تأخرت صديقتها كل ذلك التأخر؟” مضت نصف ساعة على تأخرها وهو يتزحزح في مكانه يمنة ويسرة كالسلطعون.. ولكن أساريره تهللت فجأة واصطف ثابتاً في مكانه كالتلميذ يرقب شيئاً ماخرق سكون الشارع وبدد وحشته. التفتت المرأة الى اليسار لتجد صديقتها وقد أقبلت أخيراً بسيارتها البرازيلي الزرقاء ذات المقدمة المفعوصة قليلاً الى أمام.
تنهدت المرأة بارتياح وألقت عليه نظرة سريعة قبل أن تصعد الى السيارة لتجده ينظر اليها باستفهام ثم يستدير ويعود من حيث أتى.
أغلقت باب السيارة باحكام.. ولم يكن الطريق الدافئ الطويل ليكفي حديثها عن ذلك الرجل الذي يراقبها منذ عدة شهور.. ولم تكن تعرف، بالتأكيد، ان الرجل الذي انقلب عائداً من حيث أتى كان يفكر طوال الطريق بان هذه المرأة التي تتنكر بزي محجب وبسيط هي خلاف ماتبدو عليه من سذاجة وبراءة.. فهي تخفي جمالها تحت هذا الستر الموهوم.. وتخرج له من مكان خفي ليجدها وافقة تنتظره كل يوم.. لاتكف عن النظر اليه بريبة وتوجس وأحياناً تلملم سترتها ذات الكتافيات الكبيرة على نفسها لتتظاهر بالجدية والاستقامة.. “أي نوع من النساء هذه التي تخرج من بيتها كل يوم في هذا الوقت المتأخر لتعرض نفسها لتحرش الرجال ومضايقاتهم.. وأين تذهب مع تلك المرأة التي تأتي اليها بسيارتها البرازيلي الزرقاء في نفس الموعد من كل يوم؟ وماذا تفعلان؟”
إنها تنظر اليه بوقاحة وصلف لاتصدران عن امرأة عاقلة وتتعمد النظر الى أرقام السيارات التي يستأجرها وكأنها تسجلها في ذاكرتها أو تحفظها عن ظهر قلب.. “من يعلم لمن تعطي تلك الأرقام فيما بعد ومن سيسألني ذات يوم ان اسدد الحساب عن تحركاتي والأمكنة التي أذهب اليها”. إن النساء يصلحن لمهمة المراقبة أكثر من الرجال.. وان هذه المرأة الغريبة ذات الخروج المتكرر والمتأخر كل يوم.. لابد أن تكون قد انتدبت ومنذ عدة شهور لهذه المهمة..
كان يحدث نفسه بذلك كله وهو يقفل عائداً الى بيته بعد أن لم يجد سيارة اجرة تنقله الى متجره.. وعندما أغلق باب البيت خلفه قلب شفتيه الى أسفل، وهو يردد مع نفسه بقنوت:
- ترى من كلفها بهذه المهمة؟ ولماذا؟
بغداد 1996