قرب مكتب الراحل عبد الإله أحمد

قرب مكتب الراحل
الدكتور عبد الإله أحمد

د. نجم عبدالله كاظم
شاءت الصدفة، وبعد سنين طويلة، أن أشارك أستاذي المرحوم الراحل الأستاذ الدكتور عبد الإله أحمد الغرفة في الكلية، لأكون بذلك على قرب منه لم أكنه من قبل وهو يتعامل مع الآخرين ممن كان له علاقة بهم غيري أساتذةً وباحثين وطلبةَ دراساتٍ عليا وأولية.. فقد عايشتُ الراحل تلميذاً متميزاً له أستاذاً متميزاً، فمشرفاً على طبع بعض كتبه حين كنت أعمل في وزارة الثقافة والإعلام، فصديقاً شخصياً وعائلياً سنوات عديدة، ثم زميلاً له، فصديقاً مقرّباً ضمن أصدقاء معدودين جداً جداً بين أساتذة قسم اللغة العربية في آداب بغداد، وانتهاءً بتشرّفي بمشاركته الغرفة في الكلية. كل ذلك إذن جعلني على قرب غير اعتيادي لملاحظة كل صغيرة وكبيرة في حياة الدكتور وشخصيته وبما قادني إلى فهم ما ربما لم يُفهم فيه، وهو ما قد يحتاج إلى كتابة طويلة نحن هنا بصدد جانب واحد منها.
ومع أنني لم أكن أتوقع، وقد طالت علاقتي بالراحل، أن اكتشف شيئاً لم أكتشفه من قبل، فإن مثل هذا قد حدث، على الأقل فيما يخص ما لم أكن على بيّنة كاملة أو لم أكن متأكداً منه وما لم أكن أفهمه تماماً من قبل فيه. لقد انتهيتُ من تأملي ومراقبتي له- شئتُ هذا التأمّل والمراقبة أم أبيتها- إلى الخلاصة الآتية توصيفاً له: كان الدكتور عبد الإله أحمد عالماً حين كثر الضعف والسطحية، ولا نقول الجهل كما كان يرى؛ وعلمياً حين كثرت الاعتباطية، ولا نقول الجهل كما كان يرى؛ وجديّاً حين كثر التساهل، ولا نقول المجانية كما كان يرى؛ ومتشدداً صارماً في قضية المبادئ الأكاديمية حين كثر التخلي عنها، ولا نقول المساومة عليها كما كان يرى.
هذا هو الدكتور عبد الإله أحمد، بصراحة وإخلاص وصدق وموضوعية كما أشاء أن أكون مع شخص من الصعب أن أكون موضوعياً معه. وإذا كانت هذه المواصفات الإيجابية النادر توفّرها في شخص هي ما يُسجّل له، فإن أمرين رئيسين أيضاً كنا نأخذهما عليه وأحياناً نصارحه بهما. والمفارقة أن أولّهما ينطلق غالباً من هذه تبنّيه لهذه المواصفات الإيجابية ذاتها، وتحديداً من خلال ردود أفعاله على الضعف والاعتباطية والتساهل واللامبالاة والتخلي عن المبادئ الأكاديمية، فقد رسّخت ردود الأفعال هذه لديه صرامةً بدأت مفهومةً وانتهت، مع تقدمه في العمر، غير ذلك، حين صارت قسوة وإرعاباً جعلت الكثير من باحثي الدراسات العليا يصارعون في سبيل عدم الوقوع تحت يديه، وربما سببت في دخوله في مشادات مع آخرين بدأت علمية وأكاديمية وانتهت غير ذلك.
وتعلقاً بذلك وما قاد إليه مما يشبه العزلة، ترسَّخَ عنده المأخذ الثاني الذي كان يبدو حقيقياً إذ كان يصدر عن واقع ويقتصر على حالات فردية، لكنه صار غير ذلك سريعاً. فلعل من أغرب ما عرفناه في أستاذنا الراحل، ونحس أنه كان واحداً مما قاده إلى الموت، هو عقدة الاضطهاد التي كانت تأكل به ببطء أحياناً وبسرعة أحياناً أخرى. الغريب هنا هو أن الحقيقة التي كاد الجميع يعرفها إلا الراحل، على ما يبدو، هي أنه لم يكن مضطهداً، بل أكثر من ذلك، وأنا أتكلم هنا عن معرفة لا عن ظن، هو كان مدلّلاً إلى حد بعيد من قبل غالبية الأطراف التي كان يحس أنها تضطهده، من دولة وحكومة وجامعة وأساتذة وطلبة وأصدقاء. وإن كان هناك من ظلٍّ لمثل هذا الاضطهاد أو الظلم من هذه الجهة أو تلك، ومن هذا الأستاذ أو ذاك، ومن هذا الطالب أو ذاك، فإنْ هو إلا حالات فردية، كما أشرنا، مثلها مثل أي خلاف ينشأ بين اثنين. وأقول لكم بالإخلاص والحب نفسه الذي كنت أكنه للفقيد طوال عمري، إن غالبية مثل هذه الخلافات كانت منه، على الأقل لا في بدئها بل في تطورها وما تصير عليه. وهذا ما كنت أحاول دائماً أن أُسمعه إياه بأكثر ما يمكن أن أمتلكه من لغة دبلوماسية وصريحة في الوقت نفسه، فكان يرفضه غالباً بروحِ مَنْ يعرف أن الذي يصارحه بها محب له، وبعصبية وربما بعنف أحياناً، بينما لم يكن يقتنع به إلا في النادر جداً، وهذا النادر كاد يختفي في السنوات الأخيرة من عمره حتى كدت أتوقف عن مصارحته بمثله.
واليوم وبعد وفاة الحبيب يتأكد لنا، كما كنا نود أن يتأكد هو، أن المحبين له أكثر مراتٍ عدة من غيرهم، فقد صُدم من لم يكن يظن الراحل أنهم ممكن أن يُصدموا، بوفاته، وراحت الكتابات تترى في تأبينه وفي التعبير عن الحب له وفي التخطيط لدراسته ومنجزه النقدي. ويكفي هنا أن نحس جميعاً اليوم أن وفاة الدكتور عبد الإله أحمد يعني مغادرة تلك التي قد تكون حبيبته الوحيدة في هذه الدنيا، وتشكّل الاتفاق الوحيد بينه وبين الجميع على أنها لن تكون بدونه، نعني القصة العراقية. فأياًّ كان الموقف من الفقيد ناقداً وباحثاً وأستاذاً وإنساناً لا نظن لأحد أن يتصور القصة العراقية قراءةً أو كتابةً أو دراسةً أو بحثاً إلا وهي مقرونةٌ باسمه. وصدقوني لا يأتيني في مكتبي بالكلية اليوم أحد يستشيرني في أمر ما يتعلق بالقصة العراقية، بل العربية، إلا وأنظر صراحةً أو خفيةً إلى المكتب القريب الخالي، كما كنت أنظر إليه مقروناً بكلام حين لم يكن خالياً.
najmaldyni@yahoo.com

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

رعب كافكوي في قصص يحيى جواد

رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *