بنية المفاجأة.. وظيفة التسامي
قراءة في العالم القصصي عند ميسلون هادي
د. صالح هويدي
مجلة الطليعة الأدبية
9 و10/1987
قليلات من القاصات العراقيات اللائي تميزن من بين مجموع القاصات العراقيات اللواتي لم يكد عددهن يتجاوز أصابع اليد الواحدة عداً. ولعل أكثر القاصات العراقيات حضورا وأشهرن تميزا من بین زميلاتهن قاصتان اثنتان هما : لطفية الدليمي التي لما تزل تواصل مسيرتها القصصية وبثينة الناصري التي كان توقفها عن مسيرتها القصصية خسارة حقيقية للقصة العراقية الحديثة.
من هنا فإن ظهور القاصة ميسلون هادي جاء ليبث في عروق القصة العراقية دما جديدا، ويمنح القاصة العراقية حضورا أقوى لا سيما أن القاصة التي بدأت مسيرتها الفعلية مع بدء العقد الحالي (1) تتمتع بمواصفات إبداعية قلما توافرت لغيرها من أقرانها كتاب القصة وكاتباتها على السواء. فالقاصة ميسلون هادي بدت منذ أول قصة نشرت لها، مكتملة النضج، ولو أننا عمدنا إلى المقارنة بين آخر نتاج قصصي لها وبين اول قصة نشرتها ما وجدنا بينهما بونا كبيرا أو فارقا ملحوظا، خلافا لكثير من أقرانها ومجايليها ممن بدأوا بدايات مرتبكة أو متواضعة ما لبثت أن تطورت شینا فشيئا أو ظلت تراوح في مستواها تبعا لمسيرة كل قاص منهم.
إن الذي يتابع النتاج القصصي الغزير لقاصة عراقية كلطفية الدليمي مثلا سيرى واقع التطور الملحوظ وسیلمس دون ريب حجم الانتقالة الإبداعية الكبيرة في واقع مسيرتها القصصية (إذا كنت تحب )، وما تلا هذه المجموعة مما نشرته القاصة من قصص ضمتها مجموعتها القصصية (عالم النساء الوحيدات)، وأكد واقع تطورها على مستوى اللغة والمعالجة والبناء جميعا.
ولعل هذه البداية الناضجة للقاصة ميسلون تكشف في جانب منها عن تأني القاصة في النشر وتريثها حتى امتلاكها لأدوات العمل الإبداعي. والقاصة في هذا الجانب تذكرنا بالقاصة بثينة الناصري التي بدأت بداية مشابهة لها من حيث النضج. إن أول ما يلاحظ على القاصة ميسلون امتلاكها للغة قصصية رائقة سليمة في وقت عز فيه على أقرانها حيازة هذا الشرط الإبداعي المهم. كما يلاحظ على هذه اللغة انضباطها ودقتها وتوظيفها لغايات التعبير عن واقع العمل القصصي بعيدا عن النزعة الإنشائية وضروب الفضفضة وعدم الانضباط. إنها لغة رشيقة منضبطة دقيقة وموجزة يمكن الاشارة الى بعض نماذجها :
ألمس وجهه أحيانا فتملأ صدري رائحة الصابون المنبعثة من جسده وأقول له : – في أية بقعة من العالم كنت ( ۲ ) / ويضع كفه في كفي ويسحبني اليه، فأخلف ورائي سقف الغرفة وجدرانها المتثلمة والمسامير الصدئة المغروزة في ثقوبها منذ الأزل . ومرآة الخزانة العتيقة. والستائر الباهتة اللون. وضفيرتي الملتفة على بعضها داخل الكيس كالثعبان.. ومصابیح الجدران التي لم أعد أرى في البيوت أنواعا تشبهها.. ونوابض السرير التي تئز تحتي كلما تقلبت في الفراش.. والفانوس الذي نسيناه معلقا على الحائط منذ جاءت أمي به من الحج.. والتقويم المصفر اللون في غرفة الضيوف.. ورقاص الساعة الجدارية القديمة الذي ما كف لحظة واحدة عن حركته المقوسة السخيفة.. أجري خلفه عاجزة عن اللحاق به تماما.. أين یاخذني؟ ومن أين جاء؟ وإلی این نذهب؟ ( ۳ ) / رن جرس الباب بصوت متقطع ملأ فضاء الشقة برجع موسيقي جميل فتركت النافذة ومن خلفها حركة الشارع والسابلة وطيوراً كنت ارقبها تحط وتحلق قي الفضاء الواسع ..(4)/ كانت تريد ان تسأله ولكن السؤال كان يستعصي عليها، ويبتعد عنها شيئاً فشيئاً كطائر حلق واختفى في الفضاء . ولم تحس وهو يحتضنها إلى صدره أنها تريد من هذا العالم شيئاً أكثر من ذلك الاحساس بالطمأنينة الذي غمر قلبها، ثم سرعان ما انتشر فأحاطها وملأ البيت والشارع والدنيا كلها (5)/ ثم مالت قليلا ودفعته برفق باتجاه السائق.. نظرت إليه من زاوية عينها اليسرى فبدا لها وجهه الغارق في الهجوع كوجه طفل غاف مستسلم لحلم جميل (6)/ كانت تجمعنا الغربة وتقربنا إلى بعض يشكل كبير.. إضافة إلى تقارب سنينا واختلاف وجهات النظر. وكانت هي ذات مزاج رائق وطبع مرح. ولم يكن يزعجها البتة، مزاجي المتقلب وطبيعتي القلقة.(7)/ ورفعت رأسي في لحظة لامبالاة وتحد: ماذا يعني اني اغتبته، ولمَ اسمح له أن يضعني في هذا الموقف المشين؟ أنا لم أقطع لحمة من جسده ولا قتلت أحد اولاده. لقد أخذتنا حرارة الحديث، وقلت في حقه كلمات حمقاء وهذا كل ما في الامر.. إنها لحظة ضعف لم يكن لي فيها خيار فلم احمل نفسي وزر اعوجاج الطبيعة البشرية.؟ (8)
ومن بين خصائص عالم هذه القاصة اعتمادها في قصصها على تجارب الحياة البسيطة المألوفة التي لا يكاد المرء الذي يحيا تفاصيلها التنبه لها ثم الارتقاء بها إلى مستوى قصصي ناضج. فليس سهلا، بل أن من اصعب مشكلات العمل القصصي أن تخلق من موضوع بسيط عملا قصصيا، كعودة مسافر إلى أهله بعد غياب طويل أو لقاء امراة لزميلتها او عثور رجل على مفتاح ما في درج مكتبه او اغتياب رجل لزميله في العمل او انتظار عجوزين حافلة نقل في محطة الانتظار وما الى ذلك من موضوعات لا يبدو منها أنها يمكن أن تصلح مادة قصصية مثيرة. بل ان لدى القاصة قصصا تكاد تخلو من الحدث القصصي لتقترب من قصص الحالة او الانطباع ومع ذلك فهي قصص استطاعت القاصة عن طريق استبطان دخيلة شخوصها والتركيز على همومها أن تحقق لها مستوى طيبا من النضج. فثمة قصة تقدم الينا في شكل طلب تقدمه امراة للحصول على اجازة وظيفية(9)/ ليشكل هذا الطلب مفتتح القصة وخاتمتها التي ينساب فيها الحلم والاستسلام له ضمن اطار ذكي أخاذ ليقدم لنا قصة من أجمل القصص واكثرها عذوبة. اذ تبدأ على هذا النحو:
« السيد رئيس التحرير المحترم..
ارجو التفضل بالموافقة على منحي اجازة ‹‹ … » لتنتهي بالعبارة الآتية :
« راجية الموافقة على الاجازة مع خالص الشكر والتقدير » (10).
ميسلون هادي
تستند قصص القاصة في معظمها الى خبراتها الواقعية وملاحظاتها وتجاربها في الحياة وهي ميزات لا يمكن ادراك اهميتها الا اذا علمنا ان كثيرا مما يكتبه مجايلو القاصة لا يتكئ في معظمه على خبرات الحياة الواقعية إلا بخيط واهن لا يلبث الخيال المفتقر الى الدقة والى الواقعية والفهم العميق لعلائق البناء القصصي أن يصيبه بالافتعال واللاواقعية، إن لم يهدم كثيراً من نماذجه. ومن بين قصص القاصة التي تعبر عن تلك الخبرات ما نورده من مقاطع دالة:
تذكر أنه قال لها مرة: إني أحب حتى الطريقة التي تصعدين بها السلم. قد صور لي غروري حينها اني اصعد كالاميرات ولم اكن اصعد السلم واهبطه الا قفزاً! (11)/ ونظر امامه والطريق الممتدة على الارض مقبلة.. مقبلة.. فلا تملك عيناه وهما بين الصحوة والنوم الا ان تستقبلاها بحذر وارتياح شديدين، ثم سرعان ما اخذت معالم تلك الطريق ترخي حواسه وتثقل جفونه شيئاً فشيئاً حتى انمحت وغابت من الوجود (12)/ وسحبت الاختان اخاهما الى الداخل وظل هو ممسكا بكف ابيه حتى جلس واجلسه بقربه.. كان الجميع ملتفتين اليه وهو يتلفت فيما حوله يتفحص بعينه البيت الذي افتقده.. واحس ان المكان اضيق قليلاً مما تركه وأن لون الجدران اعمق مما في ذاكرته.. وبدت له درجات السلم متفارقه عن بعضها اكثر مما يجب(13)/ وأخذت النسوة بالتوافد على بيت « ام عزيز » استزادة في ارواء الفضول اكثر منه رغبة في المواساة. واستطاب بعضهن الجلوس لفترة طويلة مطأطأت رؤوسهن والخدر اللذيذ الذي تثيره الاسرار المهموسة والدفء المتوهج يزيد من ثقل اجسادهن على الارض (14)/ عفواً اتحب السكر ثقيلاً؟ فأجاب : – نعم..وتهيأ لي أن صوته كان أعلى مما يجب فمضيت الى باب المطبخ ومددت رأسي الى الصالة استفهمه عن ذلك.. فانتبه حالما رآني الى ارتفاع صوته فسرت حمرة خفيفة في وجنتيه وقال وهويطوي الجريدة :- آسف جدا. كثيرا ما افعل اثناء الاجازة (كذا).. يناديني احد فاجيبه بنعم عسكرية صارمة.. او انهض من فراشي في الصباح فاحني راسي بحذر كما لو كنت نائماً في الموضع(15).
إن المدقق في قصص القاصة ميسلون والمتمعن في دقائق ما تنطوي عليه لن يفوته ان يلحظ ذكاء القاصة في اقتناص ظواهر الحياة والاحتفاظ بها حية في ذاكرتها والكشف عنها في شكل توظيف فني ناجح يثري القصة ويعمق روحها. فثمة على الدوام عين يقظة تتابع ادق مظاهر الحياة وابعد انماط السلوك البشري بروزا واشد الانفعالات الانسانية خفاء واكثر هواجس المرء ومحركات الدافع السلوكي والعقلي اهمية لديه، في العمل القصصي. حتى لا تكاد تفوتها مفارقة في السلوك او خبرة في الحياة. والحق اننا قليلاً مانعثر في نماذج القصة العراقية على ما يدل على غناء القصة وثرائها خبرة او ما يدل على امتلاك كاتبها لقدرات خاصة وتنبه لما يدق ويختفي وراء سطح الواقع الظاهر الخداع.
ان قدرة طيبة على فهم البواعث النفسية والعقلية المتحكمة بالسلوك البشري للنماذج القصصية هو ما يلاحظ على قصص القاصة، مما اكسب نماذجها تلك طابعا عقلانيا بعيدا عن الافتعال والمبالغة والشطط والخيال الجامع المفتقر الى البصيرة الحقة. ففهم دخيلة الشخوص القصصية انما يدل على معرفة طيبة بالنفس البشرية وخبرة جيدة بالدرس النفسي وهو شرط لازم لا يما نجاح قصصي. فثمة قصة تنجح القاصة في تعمق مشاعر المسافر فيها والكشف عن واقع مل ينتاب النفس من احاسيس في تلك اللحظات الخاصة :
« ثم هرع اليها يريد ان يراها بمجالة من يخاف ان يفقد شخصاً ما الى الابد.. ومضى وقت طويل وهما يتعانقان بدموع ساخنة ويرددان سوية اسئلة كثيرة.. تلك الاسئلة التي لا تسال انتظارا لاجوبتها.. ولكن اطفاء لاشواق عظيمة وعارمة »(16).
وثمة قصتان قصيرتان تصور اولاهما (الحلية) عالم الطفولة حتى ليبلغ حوارها المكتوب بالعامية درجة كبيرة من الواقعية والصدق الفني اللذين يكسبان القصة قيمة ابداعية ويسوغان المستوى اللغوي للحوار الذكي المعبر عن هواجس الطفولة وعفويتها ولوازمها وطريقة تفكيرها وبشكل ينجح في تلبس عالم هذه الكائنات الصغيرة. ولنتامل بعض فقرات حوار قصة (الحلية) لنقف على ما فيه من فهم لعالم الطفولة ودقة رصد وصدق في التعبير عن هواجس الصغار وعاداتهم السلوكية والشعورية :
« – سليمة ماتت ! تعالو نتفرج !
قالت نادية :
- ياه.. خطية
اما «مها» فعادت الى بكائها من جديد وقالت بصوت محتج :
- آني معلية ! راح ارجع للبيت.
قالت لبنى :
- أيا خوافة.. تعالي نتفرج من التيغة مال بيت ابو عامر.
قالت مها بغضب :
- آني مو خوافة.
- لعد مخبلة.
- انت مخبلة !
- امشي نادية نروح بس آني وياج هاي مها خوافة بس تبچي مثل الجهال، خلي نعوفها وحدها.
قالت مها :
- لا عفية، اجي وياكم (17).
قالت لبنى :
- يالله لعد بالعجل. وين تك نعالچ ؟(18)
. . .
- هاي ايشدتسوين.. لچ هاي مال ميت !
سحبت لبنى يدها بسرعة وهي تقول بمكابرة :
- وشنو يعني ؟
قالت ناديه :
- اذا لزمتيها تموتين !
قالت لبنى :
- لا.. يمته ؟(19)
قالت نادية :
- والله تموتين ..
قالت لبنى :
- زين ناخذها ونغسلها بالماي.
قالت نادية :
- آني معلية !
وقالت مها :
- آني هم معلية »(20).
اما ثاني القصتين (الحافلة 17)(21) فتصور رجلين طاعنين في السن جلسا في احدى مظلات انتظار حافلة نقل الركاب يتبادلان الحديث الذي جاء حواره عاميا ايضا ليكشف بدقة متناهية عن عالم الشيوخ، كاشفا المستوى العقلي لهم وعاداتهم الخاصة ومفرداتهم التي لم تعد متداولة عند جيل الابناء. وهو حوار لا يقل ذكاء وصدقاً في التعبير عن المستوى العقلي والنفسي لشخوصه عن الحوار الذي اعتمدته القاصة للتعبير عن عالم الطفولة البريء :
« شنو بعدك تشرب جكاير ؟
فقال العجوز :
- اي والله.. جنت مبطل ورجعت..
فقال الكهل :
- الدنيا بردت.. وانت ما مدفي صدرك زين..
- دتفضل اغاتي.. هاي صار ثلاث باصات «15» فاتت.!
- آني ادري ذولة المرور شنو شغلهم لعد..! (22)
- والله عندي شوية «بابونج» محيوش من الجول.. اذا تريد اجيبلك تفوّرلك شوية منه.. هذا كلش زين للصدر.
- هسه علواه عالكحة.. آني الامساك اموتني..
- بعدك تزين عد..
ثم رفع يده اليمنى واشر (كذا) نحو اليمين دون ان يفلح في تذكر الاسم فقال الكهل :
- اي. اي عند ابو محمد.. بس مو نفس مكانه القديم. مو محلة انكص.
- شنو ماكو ركاع يمكم؟
فقال العجوز :
- اي اكو، بس آني متعود على صاحبي.. وكلت اجيبه بدربي ما دام نازل علمود التقاعد..(23)
- بعده طيب مجيد القندرجي؟(24)
- لا انطاك عمره من زمان.. وچان خال واحد مصري بالمحل بس هسه ابنة ديشتغل بيه.
- ابنك اللاخ لعد هسه وين؟(25)
- بالشيب.
- اي الله الحافظ.
- عمي(17) مو هنا توكف.
- صدك. جذب؟ لعد صارلنا ساعة اهنا كاعدين وننتظر. بلله عليك هاي زينة.. جان هسه واصلين.. دكوم عيني كوم.. طلعت (17) مو هنا توكف.»(26).
لقد بدا من الواضح تماماً أن حوار القصتين المذكورتين لو كتب بمساواة الفصيح لما بدا في مثل هذا المستوى الباهر المقنع ولما حقق اثره النفسي والجمالي في القارئ كما حققه في شكله الذي ارادته له القاصة.
ان هذا وحده هو الذي يفسر لما لجوء القاصة الى اعتماد العامية اداة للحوار في هاتين القصتين دون سواهما من قصص القاصة، مما يدل على وعي القاصة وادراكها الطيب لجوهر الفن القصصي وغايته ومستوياته.
إن لجوء القاصة الى اعتماد العامية في حوار القصتين دون سواهما من قصصها المنشورة انما يؤكد ان مطالب الفن الابداعي وغاياته الجمالية هي التي تحكمت بالوسائل الفنية لدى القاصة لتقودها الى هذا الاسلوب لا العكس. ولو ان القاصة ميسلون لجأت الى اعتماد العامية اداة لحوارها في قصصها عامة لخرجت بذلك عن منطق العمل الفني وبواعثه الموضوعية لتدخل مسارب القصدية والافتعال التي تتنافى وطبيعة العمل القصصي كما يخيل لي.
من هنا فقد كان تلبس القاصة بشخوص قصتيها المذكورتين، اطفالا وشيوخاً، تلبساً تاماً امتلك درجات الاقناع القصوى والابهار الجميل الذي لاتقدر على تحقيقه الا موهبة قصصية خاصة وعين يقظة لا يفوتها شيء من التفاصيل الدقيقة او تخطئ طريقها الى الخبرات الحياتية الثرة.
ولعل من اهم ما يميز نتاج هذه القاصة على تواضع كمها القصصي الذي لم يتجاوز مجموعتين قصصتين بسوى عدد قليل من القصص، هو وضوح شخصيتها القصصية وتفردها بين كتاب القصة ممن رافقوا مسيرتها وهو تفرد تأتي من وجود بعض الثوابت على مستوى الموضوع القصصي وميل القاصة الى الايجاز الذي يكاد يقترب من واقع ما عرف عندنا بـ ( القصة القصيرة جداً ) الى جانب بعض السمات الاسلوبية التي سبق ان اشرنا اليها على مستوى اللغة والمعالجة وزاوية التناول وطبيعة الرصد وامور اخرى تتصل برؤية القاصة الخاصة وميلها الى تغليب المناجاة ( الحوار الداخلي ) لدى شخصيتها وحساسيتها شديدة الوضوح والرهافة، المعبر عنها جميعاً في سلوك نماذجها القصصية مما سنشير اليه لاحقاً.
لن نجد في قصص القاصة ارخاء لعنان الرغبة في السرد او الاسترسال في الوصف لغاية ما غير وظيفية تدخل في صلب البناء الفني للقصة. ويبدو أن موهبة القاصة ميسلون هادي لا تقف عند حدود القصة الواقعية التي تكتبها حسب، فها نحن نفرأ لها قصتين من قصص الخيال العلمي، ضمتهما مجموعتاها القصصيتان (الشخص الثالث ) و (الفراشة). وهما قصتان من اجمل ما قرأنا في هذا الباب.
واذا كانت هاتان القصتان تكشفان عن خصب خيال القاصة وحسن مقدرتها في اقناعنا بالتطور العلمي المذهل لعالم الغد ممثلا في مفردات البيت التقنية التي ستوفر للمرء ما يريده دونما عناء وبأسهل الطرق، فانهما انما تنطويان على مغزى انساني كبير يكشف عن ذكاء قصصي واضح لدى القاصة، ذلك هو أن الكمال الذي يمكن ان يكون عليه واقع البيت الانساني اللاحق لن يكون الا على حساب عواطفنا الانسانية ومشاعرنا التي لا سبيل الى تقنينها حين يسرقها منا التطور العلمي المذهل ويعطلها فينا بسبب عطل آلته التقنية :
(( – هل ستخرج؟
- نعم.
قال لها وهو يجتاز البوابة الآلية الى خارج البيت.
فكرت مع نفسها انه لم يقبّلها عند عودته من العمل وها هو يخرج الآن دون ان يقبلها كذلك!!
قالت له :
- حبيبي.
فانتبه اليها وتوقف ثم قال :
- نعم.
قالت :
- الم تنس شيئاً قبل ان تخرج؟
التفت اليها ونظر الى وجهها وقال :
- كنت اود ذلك. ولكني تركت ( طوق العاطفة ) في معمل الصيانة منذ الصباح. انه يحتاج الى ادامة بين حين وآخر كما تعلمين. وظلت هي واقفة في مكانها تنظر اليه وهو يتركها ويمضي وقبل ان يبتعد كثيراً التفت اليها وقال :
- لن اتأخر كثيراً. انا ذاهب لاستلامه وسنحتفل بالفوز عند المساء))(27).
إن الذكاء الذي تنطوي عليه هذه القصة والمعنى الانساني الكبير الذي تكشف عنه خاتمتها التي تمثل (الضربة) القصصية غير المتوقعة يجعلانا دهشين من قدرة قاصة شابة في سن ميسلون على انجاز عمل قصصي بمثل هذه المواصفات الفنية والموضوعية العالية.
هذا هو المخطط العام لعالم القاصة ميسلون هادي قبل الدخول في قراءة قصة (المداهمة) أحد نماذجها القصصية غير المنشورة من قبل وتحديد مكانته بين نتاجها السابق بوصفه آخر عمل لها.
بدءاً لا بد من القول ان القصة موضع التحليل لا تمثل – كما يخيل لي – نموذجاً قصصياً متميزاً بين نماذج القاصة، فلميسلون هادي قصص كثيرة تتفوق عليها، وان كانت هذه القصة تحتفظ بكثير من سمات القاصة فناً واداء ومعالجة وزاوية نظر.
لا تعدو القصة كونها متابعة لدخيلة (اللص)، الشخصية القصصية الوحيدة، والتعبير عن هواجسه وردود فعله إثر واحدة من محاولاته في السطو على منزل مات فيه عجوز هو آخر ساكنيه عقب زوجة وولدين سبقاه الى الدار الآخرة. تمثل قصة (المداهمة ) واحداً من النماذج الأكثر دلالة على طريقة القاصة التي كثيراً ما تميل اليها في قصصها واريد بها تلك الطريقة التي عرفت بـ (عين الكاميرا ) وشاعت لدى بعض القصاصين الاميركان امثال ارسكين كالدويل وهمنغواي ودوس وشتاينبك وغيرهم. وهي طريقة متأثرة باسلوب السينما التقني (28).
لقد ركزت القاصة في هذه القصة على عناصر المكان وجزيئاته ووقفت عند بعضها طويلاً، بعين فاحصة ورؤية تفصيلية، إن بدت في بعض جوانبها مفهومة من واقع شخصية اللص وسلوكه، فإن بعضاً منها مما يتصل بسلوك اللص ازاء موجودات المكان وعناصره وعلاقته من ثم بها، قد بدا وكأنه لا يتفق وسلوك من اتخذ من السرقة مهنة له حرفة خبر اسرارها، وهو ما سنوضحه في موضعه.
تفتتح القصة بحدث كسر اللص لزجاج النافذة المطلة على حديقة المنزل المنتهك، وهو مفتتح غالباً ما تلجأ اليه القاصة ميسلون في قصصها، كاشفة بذلك عن رغبة في وضع القارئ في قلب الحدث القصصي منذ الوهلة الاولى : ((كسر زجاجة النافذة المطلة على الحديقة )).
ففي مجموعة القاصة الاولى (( الشخص الثالث )) تبدأ تسع قصص بالحدث الدال على الفعل دلالة صريحة من بين اثنتي عشرة قصة، إلى جانب قصتين أخريين سبق حدثيهما ما يدل على ظرف زمني جيء به اساساً للإخبار عن الحدث أو تحديده، مما يسوغ لنا إدخالهما إلى جانب سواهما من قصص المجموعة لتشذ في النهاية عن الظاهرة التي تنتظم المجموعة المذكورة قصة واحدة فقط هي (( الطمأنينة ))، اذ تبدأ هذه القِصص على هذا النحو:
تقدمت سيارة الاجرة(29)/ دلف عون الى البستان (30)/ كانت الكراسي المتحلقة حول المدفأة النفطية تشكل دائرة(31)/ توقفت الحافلة المضاءة(32)/ جاءنا صوت الهاتف مكتوماً (33)/ توقف العجوز فجأة عن الغناء(34)/انفتح باب البيت بتلقائية(35)/ كل يوم عند غروب الشمس يفترش ((عبدالله)) التراب الحار(36)/ ولما استعصى النوم على الرجل(37)/ نظرت الى الممر ثم عدت إلى مكاني(38)/ انطلق صراخ وعويل متصل(39).
في حين تبدأ نصف قصص المجموعة الثانية ((الفراشة)) البالغة عشر قصص بالحدث القصصي الدال على الفعل(40).
ولا يقف الاهتمام بالحدث القصصي لدى القاصة ميسلون عند حدود الرغبة في قذف القارئ في قلب الحدث القصصي فيما يخيل لي بل هو يتجاوزه الى انتهاء القصة به في شكل ما من اشكال البناء القصصي، ذلك البناء الذي يتخذ من عنصر المفاجأة ومن المنحى غير المتوقع للحدث خاتمة له وهو ما سنوضحه لاحقا.
لم يرد في قصة ((المداهمة)) ما يدل على سبق دخول اللص للمنزل أو معرفة تفاصيله الدقيقة، وان ورد ما يشير الى مراقبته له من الخارج قبيل عملية السطو. من هنا فان اعتقاد اللص ان النافذة التي كسرها للتسلل إلى داخل المنزل ستفضي به الى غرفة المكتبة يظل اعتقاداً غير مفهوم ولا مسوغ، كما زعم، على الرغم من اكتشافه خطأ ظنه فيه بعد، فما الذي جعل اللص يفكر بأن هذه النافذة ستؤدي الى غرفة المكتبة على وجه التحديد؟ ولماذا غرفة المكتبة وهي آخر ما يمكن ان يخطر على ذهن لص داخل لغرض السرقة؟ ولعل مما يدل على أن غرفة المكتبة لم تكن تشغل ذهن اللص، كما قد يخيل لقارئ ما، عدم اصراره في العثور على هذه الغرفة وعدم تفكيره بها ثانية، حتى من خلال حواره الداخلي. ان قدراً من الاضاءة لبواعث هذا الهاجس الذي انتاب اللص، سواء أكان هذا الباعث خارجياً (موضوعياً) أم داخلياً (ذاتياً) كان ضرورياً اذا ما اريد له الا يبدو عابراً وغير مفهوم.
لقد اكتشف اللص عقب كسره للزجاج خطأ ظنه مما جعله يرجح أن هذه الغرفة هي واحدة من الغرف الفائضة التي تخصص لخزن حاجات المنزل عادة. ولكن هذا الاكتشاف لم يكن ليتأكد في نفس اللص الا بطريق المعرفة الحسية، أي أن تحقق المعرفة بطريق معطيات الحواس (الشمية) و (السمعية) هو السائد لدى شخوص القاصة عادة، لا بطريق الرؤية البصرية مثلاً:
(( وانسل بخفة الى داخل الغرفة التي كان يظنها غرفة المكتبة حتى لحظة تحطيمه لزجاجتها، الا أن رائحة النفتالين النفاذة التي داهمته حال دخوله اليها جعلته يرجح كونها غرفة من تلك الغرف الفائضة في المنزل والتي تخصص عادة لخزن الملابس والسجاد والامتعة القديمة )) (41).
ولا يقف اعتماد البناء القصصي لدى القاصة عند حدود ظاهرة شيوع معطيات الحواس وتعويل شخوصها عليها فحسب، وانما يتعداه الى تميز شخوصها بقوة تلك الحواس ونشاطها لديهم، فهم مرهفو الحواس، يرهفون السمع لأقصى الاصوات واكثرها بعداً ويستنيمون للروائح في انتشاء ظاهر على بعد غير قليل ولاقل الروائح تمييزاً وتنبيهاً.
إن اعتماد القاصة ميسلون على معطيات الحواس ولا سيما الروائح والاصوات وتفشي معطياتها في قصصها وتعويل شخوصها عليها وسيلة للمعرفة والاكتشاف والتذوق الجمالي هو ما يسوغ النظر الى هذه الظاهرة اللافتة للنظر لدى القاصة نظرة تفحص وتفسير:
وخيل له انه سمع صوتاً يشبه هدير جهاز تبريد في غرفة مجاورة/ انتبه اللص الى صوت الهدير مرة اخرى فنظر باتجاه النافذة وهو يرهف السمع الى داخل المنزل ليتأكد من مصدر الصوت/ وتسللت من النافذة المكسورة رائحة خبز يشوى لتوه في مكان قريب/ سمع اللص اغنية تصدر من مذياع غير بعيد عن الباب فاجفل وانتصب واقفاً وقلبه يرتجف/ وبدا له العالم الخارجي، لشدة ما ارهف سمعه الى الاصوات الداخلية للمنزل، وقد رقد جثة هامدة تماماً من حوله../ والصق اذنه على خشب الباب، ليلتقط صوتاً بشرياً يمكن له ان يكون موجوداً داخل المنزل/ وكان اللص كلما أمعن في لصق اذنه بالباب كلما (كذا) تأكد له صوت الاغنية وهدير الجهاز وصوت آخر كالوشيش الذي ينبعث من شلال ماء/ ورائحة المكان تنبئ بأن النوافذ لم تفتح منذ زمن طويل(42).
إن التنصت للاصوات الذي يصل إلى حدود الهوس والتوهم والظن لدى بعض شخوص قصص ميسلون وسماعها للوشيش الخافت، أو استدلال اللص على رائحة خبز يشوى في مكان قريب منه وهو يهم للانتهاء من مهمة السطو كما في قصتنا، كل ذلك انما يؤكد ركون شخوص القاصة إلى المعطيات الحسية والتعويل عليها وسيلة من الوسائل الموصلة الى المعرفة وهو ما يتحقق بالفعل لدى شخوصها.
إن الحساسية غير العادية والمميزة لشخوص قصص القاصة تبدو في اجلى مظاهرها لدى الشخصيات حين تبدو مشدودة لمعطياتها بحبل سري مرهفة السمع لاصوات العالم الضاج او المكتوم:
وراح يرهف السمع للخشخشة الخافتة المنبعثة من قمة النخلة(43)/ وظن لوهلة انه مرفوع مع الافق الوثير من تحته الى اعلى وان العالم بأسره ساكن يرهف معه السمع لذلك الصوت الواهن الآسر(44)/ اغلقت المسجل وانا ارهف السمع للاصوات الخافتة.. وحمل الي الهواء عبر النافذة المفتوحة رائحة رز مطبوخ غمر لتوه بالزيت الحار(45)/ وارهف السمع لدبيب الارض الخفية وانا اقول لنفسي « اين لمسات الجمال في ذلك كله؟»(46)/ ولبثت لوهلة واقفة احاول التقاط الاصوات من حولي وارهاف السمع لأي صوت مهما كان واهناً: حركة أو نأمة، رفيف فراشة او دبيب نملة، من هذا الكون الصباحي الغريب(47).
وقد تتعدى حساسية الشخوص للاصوات ورهافة نفوسها الى ما هو ابعد من ذلك لتكشف عن حالة اقرب الى التوفز والقلق اللذين يؤديان احياناً الى حالة من التوهم والظن بسماع أصوات غير محققة:
وخيل لي اني سمعت طرقاً على الباب(48)/ وهل كان ذلك الحفيف صوت ارتطام الهواء بملابسه وشعره؟ وهل كانت تلك اقدامه التي اقتربت من الغرفة ببطء ثم ابتعدت عنها بسرعة؟(49)/ لقد سمعت وقع اقدامه وهي تقترب فتوقفت عن الكلام ومرت لحظات لم يعد يتردد فيها في اذني غير صوت ضربات قلبي.. ثم عادت الاقدام اللعينة وابتعدت(50)/ وانصت الى الاصوات البعيدة القادمة من عالم، كأن ليس له وجود..(51)/ وسأسمع صوتاً وهمياً ينحني لي ويقول:
- هل لسيدتي الرغبة بالتنزه(كذا)؟ (52).
وتبدو شخوص قصص القاصة على الدوام وهي مهيأة لالتقاط أوهن الأصوات وأشدها خفوتاً وضعفا. ولعل العبارة التي وردت في احدى قصص القاصة تلخص بوضوح جانباً مهماً من موقف القاصة من قضية تلقيها لمعطيات العالم الخارجي الصوتية:
« ورفعت يدي الى رأسي وانا احاول ان افهمه باشارة بليدة بأن (كذا) هذا الصمت أرحم اليه من الضجيج اليومي الملعون.»(53).
ومثلما بدت حساسية الشخوص شديدة ازاء معطيات حاسة السمع (الاصوات) فانها تبدو على الدرجة نفسها من الرهافة والتحسس ازاء معطيات حاسة الشم ( الروائح )، اذ تتخذ شكل تهيج للحواس ازاء الروائح المنفرة العطنة:
شمر عن ثوبه وتقدم تشيعه رائحة نتنة(54)/ فتحركت رائحة المكان المشبعة بالعفونة نتيجة لأختلاط رائحة الرطوبة المنبعثة من جدران الغرفة مع رائحة اعقاب السجائر المتناثرة في زواياها(55)/ فتناهت الى انفه رائحة النفط المنبعثة من الفراش ومنه ممتزجة برائحة حريفة شبيهة برائحة اللبن الحامض(56)/.
وقد تنشط حاسة الشم لدى الشخوص ازاء الروائح الزكية او الباعثة على الارتياح والغبطة وهي روائح غالباً ما تتجسد في البيوت والطبيعة وسواها من المظاهر والكائنات، ولكن ابرز مظهرين لها هما ما يتبديان في الجسد البشري ولوازمه، مما يتصل به كالملابس مثلا، وبما يكشف عن عمق الحنان الذي تمتلكه الشخوص وشدة الرغبة فيما بينها والتوق الى بعضها:
ألمس وجهه احياناً فتملأ صدري رائحة الصابون المنبعثة من جسده.. وأقول له: في أية بقعة من العالم كنت؟(57)/ واتشمم عطره مختلطاً مع رائحة النسيم البارد(58)/ استنشق اريج النرجس مختلطاً بعطر الصابون المنبعث من جسدي(59).
اإى جانب تحسس الشخوص لروائح الجسد ثمة تحسس واضح لأردية الجسد والالبسة المحيطة به والتي يمكن التمثيل لبعض نماذجها بما يأتي:
وانتشرت في الجو رائحة ملابسه العسكرية.. وغمر البيت ضياء الشمس القادم من الباب المفتوحة(60)/ رائحة أمي لا تزال في البيت وكل السنوات لم تقدر على محوها منه(61)/ فتحت خزانة الملابس فداهمتني رائحة الخشب العتيق مختلطة برائحة عطر خفيف من ملابسي(62)/ نظرت اليها الام وكانت متلفعة بسواد معبق برائحة ماء الورد(62)/ رائحة ملابسه تملأ صدري وصوته الواطئ ينصب كالهمس في اذني(64)/ ومضى وهو يعتذر عن المضايقة ويترك لأخي تحياته ولي ملمس يده ورائحة ملابسه والكلمات(65)/ تصاعدت من القميص ابخرة هي خليط من العطر ورائحة الصباح الندية(66).
وتظل حواس الشخوص متحسسة الى جانب هذه المعطيات الاساسية وروائح العالم الخارجي واشياءه من الدور والاجواء والدخان والتراب والمطر والرطوبة والمدافئ والحدائق ورائحة الطبخ وتحضير الشاي..الخ.
وهكذا يتخذ شخوص القاصة من ايقاع العالم وروائحه، فضلاً عن ألوانه وصوره المعبر عنها في منهج القاصة الوصفي ( عين الكاميرا )، مفاتيح لتأمل العالم وكائناته وفهمها والتعامل معهما على هدي معطيات الحواس وعن طريقها.
لقد بدا واضحاً أن في سلوك اللص ومواقفه وطريقة تفكيره ورؤيته للأشياء ما يتعدى كونه لصاً وحسب، بل أن بعض سلوكه ما لا يتفق وحرفيات السرقة ومهاراتها ويتنافى معها. فهو يفكر أن يستعين في اثناء دخوله الغرفة بمصباحه اليدوي للتعرف الى موجودات الغرفة، ولكنه ما يلبث ان يستبعد هذه الفكرة لضيق الوقت لاعتقاده ان هذه الفكرة لا تعدو ان تكون نزوة فضول لا مجال لها! فكيف يمكن للص ان يتنازل عن فضوله ويعده نزوة والفضول من صلب عمل اللص، لا يمكن بدونه ان تقوم قائمة لحرفته قط؟ علما أن السطو قد تم في وضح النهار وان لا خشية في استعمال المصباح حينذاك. وإن كان في الامر نزوة فضول غير لازمة فلابد ان يكون صاحبها شيئاً أكثر من كونه محض لص:
« وفكر الرجل النحيل بان يشعل مصباحه اليدوي ليتفحص بعض الموجودات التي اثارت انتباهه وحركت فضوله لكنه سرعان ما صرف الفكرة عن رأسه فوقته لم يكن يتسع لأية نزوة فضول وامامه ساعتان فقط من ساعات الصباح الاولى لكي ينتهي من مهمته في المنزل »(67).
اما الامر الآخر الذي بدا في حاجة الى شيء من الايضاح فهو موقف اللص الذي يقف طويلاً في غرف المنزل متأملاً موجوداتها، منبهراً بها ومقدراً قيمتها من دون ان تحدثه نفسه في لمس اشيائها او معالجة اقفالها حتى مع وجود مفاتيح بعض الدواليب متروكة فيها وتهيؤ الفرص لتحقيق ذلك!
فها هو يستغرض بعينيه من خلال منهج القاصة الوصفي «عين الكاميرا» غرفة المخزن ليقف طويلاً عن تفاصيلها التي تتجاوز عيني اللص فلا تكاد تفلت منهما ملاحظة نسيج العناكب واعتلاء الغبار للمنضدة وامحائه عن بعض اجزائها بسبب من وجود لمسات لسطحها في شكل بصمات اصابع يميزها اللص :
«.. وبدأت الموجودات تعرف نفسها اليه شيئاً فشيئاً: سبع سجادات مبرومة على شكل اسطوانات وموضوعة فوق بعضها البعض (كذا) بموازاة احد الضلعين الطويلين للغرفة.. ومنضدة خشبية طويلة بطول ذلك الضلع تراكم الغبار على طلائها الابيض بكثافة خفت حدتها عند بعض بصمات الاصابع المطبوعة عليها.. وعند الضلع المقابل للغرفة.. رأى خزانة حديدية كبيرة ذات ستة ابواب تفصلها عن السقف طبقة من حقائب السفر مختلفة الاشكال والاحجام تشابكت مع السقف بنسيج لزج من «مخاط الشيطان»(68).
وحين ينتقل اللص من محتويات المخزن الى الوقوف عند صندوق المقوى الذي كان محشواً باطارات الصور الفوتوغرافية، نجده يبدو وقد نسي نصيحته عن قصر الوقت التي جنبته السعي وراء نزوة الفضول من قبل، اذ نراه يقلب تلك الصور متعرفاً اشخاصها ومتأملاً اناقة اطاراتها وجودة خشبها وهو مما لا يتماشى وسلوك اللص العادي فضلاً عن المحترف. ولعل مما يعمق من هذا الاحساس الاخير ما طغى في نفس اللص من شعور دل على وعي خاص:
«وخطر في ذهنه ان ذلك الصندوق المليء بالصور ان هو الا مقبرة اللحظات الغابرة»(69).
ونحن لا نفهم – من واقع مهمة اللص – كيف لا يروي اللص فضول التعرف الى موجودات الغرفة غير الواضحة تحت ضغوط الوقت في وقت نراه وقد ((مرت دقائق اخرى وهو يروي فضوله من محتويات الصناديق الخشبية الصغيرة الموضوعة على الارض والخزانة الحديدية البيضاء التي سدت من الخارج بأقفال كبيرة مغروزة فيها مفاتيحها))(70).
إننا لو قارنا بين الموقفين لبدا لنا الموقف الاخير موقفاً عبثياً لا يقيم للمخاطر ايما وزن يدل على ذكاء ما او حس فطرس يفترض توافره في اللص. ولعل ترك اللص الغرفة التي تضم الخزانة الحديدية التي علقت مفاتيحها بأقفالها من دون ان يفكر في معالجتها او محاولة اكتشاف ما بها مما لا يمكن فهمه في ضوء حرفة السطو وتسمية القاصة للشخصية ب(اللص) أكثر من مرة(71)، ولو لم تنص القاصة على تسميتها تلك لكنا ذهبنا في البحث عن تفسير مقنع الى غير ذلك. كما لا يبدو مقنعاً اندفاع اللص بعد أن اضطر الى مواجهة مصدر الصوت وهو اعزل، رافعاً يديه ومستسلماً لقدره في الوقت ذاته الذي لا يبدو مفهوماً فيه وجود لص أعزل في مهمة سطو.
« ادار اكرة الباب دفعة واحدة وهو يقول:
- سأدخل.
ثم رفع يديه الى أعلى ووقف عند باب غرفة المخزن المؤدية الى غرفة للجلوس وهو يحاول بأقصى ما يملك من سرعة ان يحيط المكان ليتسنى له فعل المبادرة في حالة تعرضه للهجوم»(72).
وثمة شعور كان قد انتاب اللص قبيل ختام القصة لا نظن انه مما ينتاب من يمارس فعل السطو، بل هو لايعرض الا لامريء على مستوى من الوعي ودرجة من الحساسية والرهافة، وهو شعور جاء نتيجة لإطمئنان اللص الى خلو المنزل من ساكنيه تماماً:
« وركنا بعد آخر لم يكن يعترضه شيء غير الفراغ والوحشة وبات مؤكداً له أن البيت خال من البشر..»(73).
اي فراغ واية وحشة تلك التي يحسها اللص وهو الذي يمني نفسه بتحقق ظرف مثالي كهذا يعد غاية امانيه لا مبعث احاسيس تحول آلية فعل السطو وعدوانيته دون ظهورها في نفس مرتكبه.
وكما لم يكن مفهوماً الطريقة التي تأتي للص فيها الاعتقاد بأن اول غرفة يتسلل اليها ستكون غرفة المكتبة، فأننا لم نفهم كيف تسنى للص ات يتعرف صاحب المنزل العجوز المتوفي من خلال صورته وهو شاب وليس في القصة ما يدل او يوحي من قريب او بعيد بمعرفة سابقة او صلة ما للص بساكني المنزل:
« استوقفه صندوق من الورق المقوى مليء بالصور الفوتوغرافية المؤطرة. رفع صورة شاب اشقر يقف قرب الباب الخارجية . فاستطاع التعرف عليه (كذا) من النظرة الأولى، انه نفسه صاحب البيت العجوز الذي مات قبل ايام.. يقف بالقرب منه عجوز طاعن في السن»(74). بل ان في القصة ما يدل على انعدام اية صلة يمكن ان تربط اللص بصاحب البيت، يدل على ذلك مثلاً حديث اللص مع نفسه ساعة سماعه بعض الاصوات:
« أيمكن لأحد من اقرباء الميت ان جاء (كذا) الى المنزل فجأة في هذه الساعة المبكرة من الصباح؟»(75).
إن التعرف الى عجوز متوفي من خلال صورته وهو شاب قد لا يتأتى لواحد من اكثر الناس معرفة بالمتوفي، فما بالنا بلص عابر ليس في القصة ما يكشف عن شيء اكثر من ذلك او يدل على وجود معرفة ما؟
لم تعن القاصة، وهي الذكية، التي دلت قصصها على خبرة بالنفس الانسانية وحسن فهم لدخيلة شخوصها بما يمكن ان يضيء غموض بعض جوانب قصتها او يكشف عن البواعث الكامنة وراء سلوكها غير المفهوم. لقد انتهت القصة بحدث غير متوقع لا يخلو من غموض وهو حدث يتضمن عنصر المفاجأة التي عرفت بها القاصة وميزت جل نتاجها القصصي.
لقد انتاب اللص احساس ما، غامض اشبه ما يكون بحالة الاغماء او الموت، ولم يكن هذا الاحساس سوى رد فعل لنفس حساسة كبيرة، وهو امر يؤكد ظننا في شخصية اللص الذي لم يحصد من مهمته شيئاً والذي لم يبد انه كان يطمع في شيء مما في المنزل:
« نظر اللص الى صورة العجوز وزوجته واولاده المعلقة على جدار في غرفة الجلوس ثم اجال بصره في نفائس المنزل وسجاده ومصابيحه واثاثه وثرياته ولوحاته الفنية النادرة.. ثم هبطت ظلمة كثيفة امام عينيه.. وهوى قلبه الى مكان ما ليس فيه فسحة ضوء ولا دفء.. وانتظر دقيقة ليفيق من غفوة لابد انها سرقته وهو ينتظر في الحديقة.. ولكن الدقائق مضت وهو لايفيق.. وكل شيء لا يزال على حاله لا يتغير.. وكأنه ضحكةبلهاء على وجه قبيح »(76).
ومن أجل فهم واقع الحدث المفاجئ الذي انتهت اليه القصة لابد من النظر الى الشخصية بعيداً عن طبيعة مهمتها في السطو والسرقة، وفي ضوء قرائن قصصية متناثرة هنا وهناك بعد استبعاد خضوع الشخصية لحالة من حالات حلم اليقظة واستحالة عد مشاهداتها العيانية جزءاً من لعبة الحلم القصصية، وان بدا الحم هنا التفسير الوحيد الممكن لأحداث هذه القصة.
ولكن قبل الولوج الى معالجة طبيعة الحدث القصصي ومحاولة فهم دلالته لابد لنا من الاشارة الى ظاهرة اعتماد عنصر المفاجأة في معظم قصص القاصة وما ينطوي عليه هذا البناء من مغزى ويتضمنه من دلالة. فالى جانب قصتنا التي تنتهي بحدث مفاجئ لما غشي اللص من مشاعر اودت به الى نهاية هي غير ما كنا نتوقعها له ويتوقعها لنفسه فان قصص مجموعة القاصة الاولى (الشخص الثالث) برمتها تقوم على عنصر المفاجأة. ففي قصة (الظل والراحة والماء) تفاجأ المراة التي تجلس الى جانب شاب من راكبي سيارة الاجرة بأن حركاته وميلانه نحوها اكثر من مرة كان بسبب موته المفاجئ لا بسبب معاكسة متعمدة منه كما خيل اليها قبل. وفي قصة (الطمأنينة) تفاجأ زوجة المقاتل في اثناء بحثها عن ماكنة حلاقة الزوج بصورة امراة مهداة الى زوجها، ولكنها تكتشف بعد اضطراب وسوء ظن، حقيقة حب زوجها، مما يضطرها الى السمو بمشاعرها نحوه وتجاوزها لهذه المفاجأة العابرة. وفي قصة (النخلة) يفاجأ عبدالله بلا معنى هدفه وسخفه بغد ان كان هدف الوصول الى النخلة امراً عسيراً تجشم من اجل الوصول اليه عناء ومخاطر كبيرة. وفي قصة (الحمامة) يفاجأ عون بتحول رغبته في الحصول على الطائر الذي ظل يسعى اليه بعد ان شهد طريقة ايقاع محروس بالطائر في قبضته. وفي قصة (البيت) يفاجأ سرمد الذي وصل منزله بعد غياب خارج الوطن يخروج اهله من المنزل ليظل ينتظرهم الى حين عودتهم ولقائه اياهم. وفي قصة (الطاحونة) تفاجأ يسرى بشيخوخة زميلتها في الدراسة، دنيا الحكيم، من خلال رؤية اقرب الى الحلم منها الى الواقع ومن خلال زمنين مختلفين. وفي قصة (الشخص الثالث) تفاجأ الزوجة بخطأ ظنها بقريب جارهم الذي توهمت قيامه بافعال غير لائقة به واكتشافها سوء ظنها عقب عودة جيرانها. وفي قصة (الياقوتة) تفاجئنا المراة في لحظة دخول الشرطة لاصطحاب العجوز الخرف بفعل لا اخلاقي حين تدعي عائدية ياقوتة العجوز لها وتصديق الشرطة لها ومنحها اياها. وفي قصة (المفتاح) يفاجأ رجل البيت بعثور اصابع يده على مفتاح يجهل عائديته ليفاجأ ثانية به في مكانه من جوف درج مكتبه بعد ان ظن انه تخلص منه ورماه. وفي قصة (الحلية) تفاجأ الصغيرات الثلاث في اثناء لهوهن بحادثة موت جارتهم وبرمي اهلها مجموعة من الحلي من وراء السور لتأخذ احداهن الحلي وتعيده فيما بعد تحت ضغط الخوف والتفكير باقوال صديقتيها. وفي قصة (الوشاية) تفاجأ المراة التي اعترفت لزميلها الذي يعمل معها في دائرة عملها بحقيقة اغتيابها له، اعتقاداً منها بسماعه لها خلسة، تفاجأ بعدم سماعه لأي مما قالته عنه واعترفت له به. أما قصة (ألم تنس شيئاً قبل ان تخرج) ففيها تفاجأ الزوجة بنسيان زوجها تقبيلها قبل خروجه جرياً على عادته، لكنها تفاجأ أيضاً بان سبب ذلك يعود الى عطل جهاز (طوق العاطفة) المسؤول عن تحقق تلك الرغبة وبوعده اياها بتحقيقها حال اصلاحه وهي قصة من قصص الخيال العلمي.
واذا كانت قصص المجموعة الاولى للقاصة (الشخص الثالث) قد قامت جميعها على عنصر المفاجأة التي اريد لها ان تؤدي دلالة فكرية او اخلاقية كما سنوضح ذلك فيما يأتي، فان خمس قصص من مجموع القصص العشرة التي تضمها مجموعة القاصة الثانية (الفراشة) قامت على البناء نفسه(77). ففي قصة (الذي عاد) تفاجأ البنت بعودة اخيها المقاتل الى دارهم واستقبال الاهل له بعد غياب ثلاث سنوات لم يكن سوى حلم من احلام اليقظة الذي استرسلت فيه البنت في اثناء عملها في البيت. وفي قصة (الفراشة) يفاجأ القارئ في نهاية القصة بان الشاب الذي تجشمت امه عناء الانتظار الطويل والتعب لرؤيته في غرفة الانعاش عن بعد ثم غادرت المستشفى لم يكن ابنها اذ ان ابنها قد توفي اثر حادث سيارة وانما جعلها تظن ان ابنها هو الحي ليس سوى مفارقة ومحض ملابسات. وفي قصة (العين السحرية) تفاجأ البنت بان دخول صديق اخيها المقاتل الى البيت وذهابه بعد انتظار لاخيها الذي تأخر عنه لم يكن الا حلماً من احلام اليقظة الذي استنامت اليه في لحظة صفاء. وفي قصة (الحافلة 17) يفاجأ العجوزان اللذان ظلا ينتظران حافلة نقل الركاب طويلاً، بطريق المصادفة انه قد تم تغيير خط سير الحافلة المقصودة ولم تعد تتوقف في المكان الذي ظلا ينتظرانها فيه زمناً غير قصير. وفي قصة (العراف والشاهد) يفاجأ الابن الصغير الذي يذهب مع امه الى العراف لتحديد المسؤول عن خطف اخته الرضيعة بان امه هي من تخلصت منها حين قذفتها في النهر استناداً الى الكشف الذي تم بمعونة العراف.
ولو حاولنا الكشف عما يمكن ان يشكل ثيمة في واقع قصص المجموعة الاولى التي تقوم في بنائها الفني على عنصر المفاجأة لوجدنا ان معظم هذه القصص باستثناء قصص ( البيت ، الطاحونة ، الياقوتة ) انما توظف من اجل الكشف عن الجوانب السلبية في سلوك الانسان ومشاعره بغية السمو بهما. وان ثلث هذه القصص (اربعاً منها ) على وجه التحديد تعالج موضوعة سوء ظن المرء بأخيه واكتشافه خطأ ظنه الذي يولد فيما بعد حالة اقرب الى التطهير النفسي وصولاً الى الارتقاء بالمشاعر الانسانية. نلمس ذلك في قصص (الظل والراحة والماء ) التي تكتشف المرأة فيها سوء ظنها بالرجل كما نلمسه في اكتشاف الزوجة لسوء ظنها بزوجها(78) وتساميها في مشاعرها اثر اكتشافها دليل حبه الكبير لها فيمها بعد. ونلمسه ايضاً في قصة ( الشخص الثالث ) التي تكتشف المرأة فيها سوء ظنها بسلوك الرجل الغريب، كما نلمس الدلالة عينها في قصة ( الوشاية ) التي يكشف فيها الرجل عن سوء ظنه بزميل عمله ممثلاً في تكذيبه له وتنصته عليه خلسة.
وفي مقابل توظيف عنصر المفاجأة في المجموعة القصصية الاولى فأن اثنتين من قصص المجموعة الخمس المتضمنة عنصر المفاجأة يوظفان من اجل الكشف عن عالم حلم اليقظة الفسيح الذي يقبع خلف عالم الواقع مكملاً له ومغنياً اياه، وهما قصتا ( الذي عاد ) و( العين السحرية ) بينما توظف قصتان اخريان من اجل الكشف عن غفلة الانسان وجهله بالشيء في وقت يمضي الزمن فيه في حركته سريعاً لا يلوي على شيء وتمثلهما قصتا (الفراشة ) و (الحافلة 17).
ولنعد ثانية نلتمس طريقنا نحو فهم طبيعة الحدث القصصي الذي تنتهي عنده قصة (المداهمة ) وما ينطوي عليه من دلالة .
ان اول ما يلفت النظر في هيأة البيت الذي داهمه اللص وظل يشد نظره اليه مظاهر القِدم البادية عليه وعلى موجوداته، وما تبعته من مشاعر معبرة عن ذلك لدى اللص وكما توضحها النصوص الآتية :
ومنضدة خشبية طويلة بطول ذلك الضلع تراكم الغبار على طلائها الابيض/ كم عتيق هو هذا البيت/ .. وقفص العصافير فارغاً وقد تراكم عليه التراب في الزاوية البعيدة للحديقة/ ثم رأى السعفات المغبرة للنخلة الواطئة وهي تحتك بسقف القفص / ورائحة المكان تنبئ بأن النوافذ لم تفتح منذ زمن طويل.
لقد وظفت هذه المظاهر بطريقة تتمشى وحدث الموت (الفناء) الذي ترك ظله الواضح على البيت ووجد صداه في نفس اللص ايضاً. وقد عمق من هذا الجو سيادة جو السكون ومظاهر الهمود على عملية السطو في مرحلتها الاولى. لكن ما ان بدأ اللص يتقدم خطوة صوب هدفه الذي جاء من اجله حتى بدأ باكتشاف معطيات اخرى جديدة لم تكن في الحسبان، وهي معطيات تقف على الضد من سابقتها وتثير مشاعر نفسية مناقضة لحالة الاطمئنان والوئام التي احسها اللص اول وهلة. فها هي اصوات اشبه بالهدير تلتقطها اذنا اللص في شكل ازيز ووشيش، وها هي صور تخاطف الطير واهتزاز حبل الغسيل ووثوب القطط المفاجيء :
انتبه اللص الى صوت الهدير مرة اخرى/ سمع اللص اغنية من مذياع بعيد عن الباب فاجفل وانتصب واقفاً وقلبه يرتجف/ حط على السياج عصفور تقافز قليلاً ثم طار مرة اخرى/ قفز قط املح من السياج الى ارض الحديقة.
لقد بدا حبل الغسيل للص عقب سماعه لصوت الهدير مباشرة وهو يتراقص في الهواء ولكنه يبدو له بعد ان بلغ احساسه بالحصار والخطر منتهاه وتهيأ لمواجهة المخاطر في صورة اقرب الى ان تكون تعيبراً عن ذاته الخاوية الهلعة، اذ يبدو شبه ما يكون بالمعادل الرمزي لذاته.
تكشف عن ذلك لغة الوصف التي بدا فيها الحبل وهو يترنح يميناً وشمالاً يطوّحه فيها الهواء دونما مقاومة، وهما صورتان مختلفتان تتماشيان وواقع تطور الحدث القصصي:
رأى من خلال النافذة حبل الغسيل يتراقص مع هبوب الهواء/ ومرة اخرى رأى، وهو يضع اذنه اليسرى على الباب، جزءاً من حبل الغسيل العاري وهو يترنح في فضاء الحديقة يمنة ويسرة..
ان النص على (الترنح) بدلاً من (الرقص) وعلى (العري) واليمين واليسار لم يأت عبثاً هنا، انه وصف اريد له التعبير عن حالة العري النفسي التي بات يحسها اللص والترنح الذي وقع تحت رحمته محاصراً كالفار ومطوّحاً به يميناً وشمالاً دون ان ينجح في اتخاذ قرار سريع.
وحين يبدو اللص عاجزاً عن اتخاذ قرار المواجهة، مكتفياً بالتنصت للاصوات من وراء باب الغرفة يعلوه احساس بالوقوع ضحية لفخ مدبر وخطر يتربص به ويجعله ((يقف في مكانه، كالفار في زاوية، لا يدري ايدخل ام يخرج)).. في لحظات العجز والاحباط تلك تند عن اللص التفاتة الى حبل الغسيل ليراه وقد اتخذ هياة تحاكي هيأته تماماً وبما يؤكد الدلالة الفنية المشار اليها:
(( كل الاحتمالات خطرت في باله تلك اللحظة الا احتمال واحد فقط.. وهو انه كان بمأمن من خطر داهم يتربص به وبهم للأنقضاض عليه ففي اللحظة المناسبة. نظر الى حبل الغسيل الذي كان قد كف عن الحركة وهو يفكر..))(79).
وفي الوقت عينه الذي بدا فيه الحبل معادلاً لذات اللص نرى العصفور وهو يتخذ دلالة اخرى عي في الضد تماماً مما يعبر عن هذا التوظيف. وهو امر اريد له هذه المرة احداث تقابل بين دلالتين في ذات اللص، ليبدو العصفور الطليق وهو يضرب للص مثلاً في القدرة على التحرر والنجاة خلافاً لحالة العجز والاسر التي بدا اللص خاضعاً لها، مما يعمق احساس اللص بالازمة والحصار:
(( رأى اللص عصفوراً حط بالقرب من النافذة ثم طار ثانية.. واحس لأول مرة منذ دخوله المنزل بان (كذا) الامر ليس بالبساطة التي كان يتصورها..)).(80).
لكن اللص ينجح في اقتحام غرف البيت دون خطر يذكر ليبدأ الصمت الذي كان طاغياً على جوه بالتبدد ليحل محله هدير الاصوات الطاغي الذي صار النغمة الاكثر حضوراً وسطوة على وعي اللص ووجدانه.
لقد وجد اللص ما لم يكن بالحسبان ولم يخطر على نفسه قط، فبدلاً من ان يتجول في فضاء بيت موحش مات ساكنوه، فوجيء بالاصوات وبالحركة الدالة على الحياة كأوضح ما تكون دلالة:
(( ولكنه كان كلما مضى قدماً في ارجائه تنهار كثبان الصمت ويصبح هو في القلب من الهدير المستمر الذي وجد نفسه فيه (…) ولكن كل الاجهزة التي كانت تعمل بانتظام ورتابة : المذياع المراوح السقفية وساحبات الهواء وجهاز التلفزيون وصندوق التجميد وغسالة الملابس وعصارة الثمار وطاحونة البن وثلاجة الماء وماكنة الحلاقة..))(81).
لقد بدا للص كما لو ان ثمة مفارقة تستحكم بجو البيت الذي وجد نفسه محاصراً فيه فجأة بعد ان بدا له عنصر الحياة هو الحقيقة الاكثر طغياناً وسطوة وخلوداً.
من هنا فان احساساً اقرب الى العبث والعدمية هو ما وجدناه يسيطر على روح اللص عقب تذوقه مرارة المحاولة:
(( كل جهاز من تلك الاجهزة كاتن يدور مستجيباً لدائرة الخلود الكهربائية فتنصب اصواتها في اذني اللص كأنها خرافة او ضحكة بلهاء على وجه قبيح.))(82).
ولعل ما يؤكد الاحساس بالمفارقة لدى اللص ويعمقها في نفسه نظره عقب هذا الوصف مباشرة الى الصورة التي تضم ساكني البيت المتوفين في محاولة منه لإحداث مقابلة بين عنصري التناقض:
(( نظر اللص الى صورة العجوز وزوجته واولاده المعلقة على جدار في غرفة الجلوس ثم اجال بصره في نفائس المنزل وسجاده ومصابيحه واثاثه وثرياته ولوحاته الفنية النادرة.. ثم هبطت ظلمة كثيفة امام عينيه.. وهوى قلبه الى مكان ما ليس فيه فسحة ضوء ولادفء..))(83).
وهكذا يأتـي الحدث المفاجئ الاخير في القصة ليمثل النتيجة المنطقية لأكتشاف اللص تلك المفارقة ومعايشته تفاصيلها وخضوع نفسه لها.
لكن الملاحظة التي تظل قائمة في وجه حدث القصة الاخير دون ان يكون ثمة سبيل الى دفعها – على ما ارى – هي امكانية تفجر هذه المشاعر واعتمالها في نفس لص محترف جاء بنية السرقة عن سابق اصرار وترصد، وليس ثمة ما يدل على كونه شيئاً اكثر من ذلك او يدل على وجود صلة ما له بساكني البيت او يكشف عن جوانب مامن وعيه الخاص تسوغ سلوكه ذاك.
وتتعدى دلالة تسمية القصة ((المداهمة)) حدث تسلل اللص للدار الى الدلالة عما (داهم) اللص من مشاعر مفاجئة غريبة لتجمع كلا الفعلين قي دلالة مشتركة واحدة، وان كان ما داهم اللص اكثر مفارقة وغرابة وادهاشاً.
ويبقى البناء الفني للقصة الذي عرفت به القاصة وطريقة معالجتها لها بناء نجح في شد القارئ اليه متابعته له.
واذا كان هذا النموذج القصصي لا يمثل افضل نماذج القاصة ميسلون هادي، فاننا نطمح الى ما هو اكثر تطوراً وتميزاً من واقع امكانات القاصة وموهبتها التي نتوقع لها بثقة اكيدة – اذا ماواصلت مثابرتها وسعيها الجاد في الافادة من التجارب المختلفة ولاسيما العالمية منها كما يبدو اثرها الناضج في نتاجها – نتوقع لها ان تكون علامة مضيئة في مسار القصة العراقية المعاصرة الى جانب اسماء قصصية رفدت المسيرة بعطاء قصصي يحق لنا ان نفخر به.
الهوامش :
● قد تبدو النصوص التي جيء بها للاستشهاد على بعض ظواهر عالم القاصة كثيرة، لكنه امر لا مفر منه ونحن نحاول استقراء الظاهرة والتدليل عليها في اطرادها.
- لا يقر الباحث وجود جيل سبعيني وجيل ثمانيني فيالقصة العراقية المعاصرة تلا ما عرف عندنا بالجيل الستيني في القصة، انذ لم يفرز العقدان التاليان للستينيين تيارا متميزا او انعطافة نوعية تبيح لنا مثل هذا التقسيم. ومن هنا تعد القاصة ميسلون امتدادا طبيعيا لافضل ما في القصة الستينية من نماذج قصصية.
- الفراشة وقصص اخرى : ميسلون هادي، مجموعة قصصية، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد/1986، ص23.
- المصدر نفسه : ص27.
- نفسه : ص40.
- الشخص الثالث : ميسلون هادي، منشورات مكتبة الدار القومية للكتاب العربي – بغداد/ 1985، ص13.
- المصدر نفسه :ص6.
- نفسه : ص41.
- نفسه ص68.
- انظر (طلب اجازة) من المجموعة القصصية ( الفراشة وقصص اخرى ).
- المصدر نفسه ص80،83.
- الشخص الثالث : ص12.
- نفسه : ص5.
- الفراشة : ص8.
- نفسه : ص90.
- نفسه : ص45.
- الشخص الثالث : ص28.
- يبدو الرد منسجما تماما هنا ونفسية الاطفال.
- يدل الالتفات الى مثل هذه التفاصيل الدقيقة على تلبس القاصة بعالم الطفولةحتى ليكاد المشهد يبدو حيا امام ناظرينا وصادقا الى حد بعيد.
- يصدق القول السابق عل هذا الرد ايضا.
- يبدو هذا السلوك متفقا تماما وسلوك الاطفال الذين لا يحكمهم منطق. انظر القصة في ( الشخصالثالث ).
- انظر الفراشة.
- يكشف رد العجوز عن جهله بمسؤولية الاشراف على الحافلات وتوهمه شان من ينقطع عن عالم اليوم وخبراته ان المرور من ينظم خط سيرها. وهي اجابة نعكس دقة في التعبير عن حال الكبار.
- يمثل التمسك بمعالم الزمن الغابر وشواهده جزءا من سيكولوجية الشيوخ.
24،25 لايبدو الحوارمستندا الى منطق منظم وهذا جزء من سلوك الشيوخ الذي يلتقي وعالم الاطفال في انفلات الذهن وحريته في الحوار.
26- القصة : ص70-71.
27- الشخص الثالث :ص74-75.
28- انظر تاريخ الرواية الحديثة : ر.م البيريس، ترجمة جورج سالم، ط1، منشورات عويدات، بيروت/1967، ص386، 371.
29- الظل والراحة والماء، الشخص الثالث : ص5.
30- الحمامة، نفسه : ص19.
31- البيت، نفسه : ص25.
32- الطاحونة، نفسخ : ص31.
33- الشخص الثالث، نفسه : ص37.
34- الياقوتة، نفسه : ص47.
35- الم تنس شيئا، نفسه : ص71.
36- النخلة، نفسه : ص15.
37- المفتاح، نفسه : ص55.
38- الوشاية، نفسه : ص67.
39- الحلية، نفسه : ص59.
40- القصص هي : الذي عاد، الفراشة، العيا السحرية، العاقل، لغة الفورتران.
41- انظر المداهمة.
42- جميع الاقتباسات ماخوذة من قصة المداهمة.
43- الشخص الثالث : ص21.
44- نفسه : ص21.
45- الفراشة : ص19.
46- نفسه : ص83.
47- نفسه : ص97.
48- الشخص الثالث : ص43.
49- نفسه : ص67.
50- نفسه : ص67.
51- الفراشة : ص81.
52- نفسه : ص82.
53- نفسه : ص100.
54- الشخص الثالث : ص =22.
55- نفسه : ص50.
56- الفراشة : ص88.
57- نفسه : ص23.
58- نفسه : ص27.
59- نفسه : ص81.
60- نفسه : ص8.
61- نفسه : ص17.
62- نفسه : ص12.
63- نفسه : ص30.
64- تستخدم القاصة في وصفها هنا طريقة الرمزين المعروفة ب( تراسل الحواس ) وهي تقوم على استعارة معطيات حاسة لحاسة اخرى والخلط فيما بينهما : ص48.
65- نفسه : ص48.
66- نفسه : ص96.
67- انظر المداهمة.
68- القصة نفسها.
69- يدل ( الحوار الداخلي ) للص على وعي خاص وتصور لايعرض للص عادي عادة.
70- انظر القصة .
71- بل ان ثمة ما يدل على احتراف اللص لهذا السلوك من مثل قول القاصة : ((احس بحرية في الحركة لا يحسها عادة عندما يعمل في الليل..)).
72- القصة.
73- القصة.
74- القصة.
75- القصة.
76- القصة.
77- القصص هي : االذي عاد، الفراشة، العين السحرية، الحافلة17، العراف و الشاهد.
78- انظر القصة ( الطمأنينة ).
79- المداهمة.
80- القصة.
81- القصة.
82- لا يبدو النص على االوجه بالقبيح متضمنا لدلالة ما اضافية يمكن لصاحب الضحكة البلهاء ان يكتسبها، ونرى ان التعبير يتضمن ايغالا في ايراد الصفات الدالة على حالة العبث واللا معنى.
83- القصة.